أبناؤنا وبناتنا فلذات أكبادنا تمشي على الأرض، ونتمنى لهم أن يحظوا بالسلامة الفكرية والنفسية لينعموا، نتيجة لذلك، بمستقبل آمن من كل المزالق والأخطار، غير أن هناك تحفظات على بعض مكتسباتهم المدرسية لا بد من طرحها ومناقشتها.
أحاول جهدي، مثل غيري من الآباء، أن أحدث التوازن في ذهن ابني وابنتي لكيلا يقعوا في مزالق الازدواجية بين فكر البيت وفكر المدرسة، التي يقضون فيها ثمان ساعات يومياً، بينما نحن
لا نقضي معهم سوى سويعات ما قبل النوم.
لا أستطيع أن أقول إن ذلك المدرِّس الذي صب في ذهنكم هذه الفكرة على خطأ ولا أستطيع أن أتركه نهباً لأفكار التهييج ضد الآخر، الذي يشاركه الأرض والسماء والرزق والمستقبل.
الصغار أواعٍ جاهزة، غير محصَّنة، يمكن أن تدلق فيها الأفكار: إن كانت حسنة وإن كانت سيئة، ولذلك نادى الحكماء بأن تحصَّن من مرحلة الحضانة بالأفكار الحسنة البناءة لكي تقوى على الصمود أمام الأفكار الهدَّامة التي لن تسلم من التعرض لها. والمشكلة هي فيمن يقرر نوعية التحصين لأذهان صغارنا.
فإذا لم تكن الأمة على كلمة سواء تجاه الآخر على سبيل المثال، فإنه سيكون لك طريقتك وأفكارك في التحصين وسيكون لي طريقتي وأفكاري. وبينما يظن كل منا أنه يمارس التحصين السليم للأذهان الغضة يصل الطفل إلى سن الشباب محملاً بالمتناقضات التي تؤزِّمه نفسياً واجتماعياً، فيصبح أكثر استعداداً للانقضاض على أفكار الآخر ومكتسباته.
ومن ذلك تنشأ هذه الصفوف الطويلة من الشباب الذين يحكمون على الناس والأشياء من حولهم حكماً قاطعاً لا يقبل النقاش ولا يتقبل حوار الآخر وأفكاره. وحين تنشأ الرغبة في تغيير السلوك تكون قد فاتت فرصة التأثير في هذا السلوك بعد أن فاتت السن المناسبة لإحداث هذا التأثير.
في أبسط مثال تعاني مدننا العربية، من المحيط إلى الخليج، من الاعتداء على حق الطريق، فالشاب الذي لم تعلِّمه المدرسة المُبكرة هذا الحق يعتدي على الناس جهاراً نهاراً، بل ويقتلهم ويجرحهم ويشل حيواتهم. وهو، في الوقت نفسه، يعتدي على نفسه حين لا يعير سلامته الشخصية انتباهه، ويتمادى في سوء التصرف وارتكاب الأخطاء المميتة له ولغيره. هذا الشاب لو علَّمته الحضانة والابتدائية السلوك الأمثل على الطريق لما أوقع نفسه وغيره في المهالك ولما تجرأ على حق الآخرين.
وقس على هذا المثال البسيط بقية الأمثلة التي تلقي بشبابنا كل يوم في حفر الأفكار الهدَّامة وتدفعهم لارتكاب الأخطاء والخطايا بدم بارد جرَّاء تفويتنا لفرصة تحصينهم، بناءً على معطيات الحياة وليس بناءً على عواطفنا وانطباعاتنا.
الشباب العربي الآن تائه في دروب الحياة، ليس له قدوة يتأساها ولا يملك القدرة على اتخاذ القرار الصحيح. كل ما يملكه حالة من الاضطراب الذهني بين فكر هذا ورأي ذاك، وتكون النتيجة في هذه الحالة خسران مبين لشباب نقول إنهم سيبنون المستقبل، لكن هذا المستقبل لا يوجد سوى في خطبنا الرنَّانة وأمانينا اليائسة التي نوزعها عبر المنابر ووسائل الإعلام.
المستقبل العربي مظلم جرَّاء الضباب الذي يغشى أذهان صغارنا الذين يتقلَّبون بين اجتهادات فردية وواقع حياتي لا بد أن يفهموه ويتعاملوا معه. والخطورة تنشأ وتكبر كل ما أوغلنا في التمايز عن الآخر الذي يفترض أن نشاركه صناعة الحياة. والحياة لا يصنعها من في قلبه ذرة من موقف تجاه الآخر. صُنَّاع الحياة هم الذين يقدِّرون الحياة ويتجاوزون أخطاء الماضي ويعيدون قراءة حاضرهم من أجل مستقبلهم.
أما هذه القراءة، أي قراءة الحاضر، فإن من أهم شروطها أن نضع على طاولة الحوار كل ما تعارفنا ونشأنا عليه، لننظر بتجرد إلى ما يضمن مستقبلاً معافى لأطفالنا، وإلا فإننا سنظل نجتر أفكارنا ومآسينا وأمانينا بينما أبناؤنا يضرسون ويلعنون.