مذ كحّلَ النضجُ جفنَ يومي الأول، وصارَ قلمي سحابتي المهاجرةِ على صهوةِ هواءِ الصحراء .. ومُذ حملتُ كتابي الأولَ على كتِفي بانتظار الانتهاء منه، لأحمل آخر .. آمنتُ بأن تمامَ إدراكِنا للحياةِ وفلسفتها لا يصيرُ إلا بطرح الأسئلةِ .. وآمنتُ بأنها؛ أي الأسئلة هي طعمُ الوعيِ فينا، وحبرُنا الذي متى غمسناهُ في رئةِ غيمِ غدِنا، تهطلُ الأجوبةُ مطراً يبرعمُ فينا بعضَ أملٍ طازج.
قبلها، لم أكُن أعرفُ أن الأسئلةَ التي امتهنتُ لاحقاً صناعتَها، وما زلت، ستصيرُ سبيليَ، لأملأَ سلالَ أبنائي برغيفٍ حلالٍ .. وبأنني، متى قررتُ التوقفَ عن طرحِها، استحلتُ طريداً في مهبِّ البطالة.
لا شيء عندي جديرٌ بأن أقصّه عليكم الآن، وعليّ .. لكني كلمَّا قرأتُ ديواناً لشاعرٍ عظيمٍ، رأيتُني أخرجُ من ديوانه كمن ينزِلُ السُلّمَ على هيئة أسئلةٍ .. سريع الخطى أنزلُ، يجرُّني عقلي إلى سوقِ أسئلة ..
تُرى، ما هو السرُّ الكامنُ وراء تفوقِّ الشاعرِ على من سواه من الناس، على امتداد التاريخ؟ ألِأنهُ يُحسنُ تنويمَنا على أحلامٍ تشبهُهُ، وتشبِهُنا؟ أم لأنهُ، حينَ تهزِمُنا الظلالُ الشاحبةُ، يأتينا كمن يُهدِينا الضوءَ مقطوفاً من غصنِ الفجر؟! أم لأنهُ، يُطرِّزُ لنا عباءةً من أحرفٍ، ويُدندِنُ لنا نَغماً يُنعِشُ الخيال؟ أم لأنه، يقولنا كما نشتهي؟! أم لأن شاعراً، مثل محمد مهدي الجواهري، حينَ ينقعُ الدنيا بمائه، ثم ينشرها أمامنا بيتَ شعرٍ عابقٍ به، تصيرُ أحلى؟
ها هو الجواهري يحيي أستاذنا طوني بن شعشع الزحلي ولادةً وعشقاً وهوى، النيويوركي هجرة ومعيشة، ليعزي المتيمَ فيه بزحلة ولبنان قائلاً:
يا موطِنَ السحرِ إن الشعرَ يُنعِشهُ
فيضٌ من الحسن في واديكَ معهودُ
لا أبعد الله طيفاً منك يؤنسني
إذا احتوتنيَ في أحضانها البيدُ
أسئلةٌ بحجمِ الأرضِ، ساعةَ تكونُ مُشرّعةَ الجهاتِ .. والإجاباتِ كذلك .. وأسئلةٌ على قياسِ لغة ضادنا الجميلةِ، حينَ تكونُ بِكراً فاتنةٍ لم يُفلسِفها أحدٌ بعد، والإجابات كذلك. لأجل ذلك كله، مما يحضُرُني، ولا يحضُرُني، مما أعلمه ولا أعلمه، حاولتُ أن أصير شاعراً، ككلِ عربيً .. ككلِ أحدٍ .. وفشلتُ! ولكني، نجَحَت! نجحتُ أن أُفلتَ من فشلي إلى حيث أنجح، حين تَعَلَمتُ من أبي الأسود الدؤلي ما علّمه لأحد تلامذته في فنِّ العروض:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيعُ
وأيضاً، نجحتُ أن أُفلتَ من فشلي إلى حيث أنجحُ، إلى حيث أرضى أن أصير ربع شاعرٍ بهم، لا شبه شاعرٍ بدونهم! ونجحتُ أن أفلتَ من فشلي إلى حيث أنجحُ، إلى حيثُ أنصبُ خيمتي وألتصقُ بما شردَ من شعرهم، وأتعلم.
نعم لأتعلم، لأتعلم من صديقي الطُغرائي أن ما يليق بي هو حتماً أرقى من الدَعةِ والكسل:
قد هيؤوك لأمر لو فطنتَ له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وتعلمتُ من البوصيري واتخذته مستشاراً ناصحاً حازماً أستعين به حين يحتاج الرأي المشورة، فحرضني على الجد، وأخبرني أني إن أطلقت لنفسي العنان فسأكون مثل شابٍ عشريني له جسم بغل، لكنه لا يتغذى إلا بالرضاعة من ثدي أمه، قال لي:
والنفسُ كالطفل إن تُهملهُ شب على
حُب الرضاع وأن تفطمه ينفَطِمِ
وحين أردتُ الشكوى لحظة يحجِبُ ضبابُ الدُنيا عني آفاقَ الممكنِ، وجدتُني ألجأ إلى أبي العلاء المعري، ليُخَفِفَ عني، بقوله:
كُلُ من في الدهر يشكو دهره
ليت شعري هذه الدنيا لمن؟
وقد عشقتُ ابنتي، مي، حفظها الله، لا لأرد لها دين، قول العرب: كل فتاةٍ بأبيها مغرمة .. بل لأني أحسستُ أننا نسيرُ على خطوات كيمياء الإنسان نفسها.. ولم أجد أني أحتاج لأعلنَ حُبي لها، أن أدمع عليها، كما احتاج صاحبي مالك بن الريب وهو يرثي ابنته قائلاً:
اسكتي! قد حززتِ بالدمع قلبي
طالما حزَّ دمعُكنَّ القلوبا
فقد كانت بُنيتي تريقُ مدامعي كل يومٍ بمحبة واحترامٍ وسعادة. وعند الدمعِ، لم أجد أصدقَ من أبي الطيب المتنبي، يوم قال:
اذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ
تبيّنَ من بكى ممن تباكى!
يا أهيل الشعر، تلك كانت شذراتٌ من قصة ربع شاعر هو أنا .. وشذراتٌ من قصة عظامٍ هُمُ، هم: أصدقائي، أشُمُهم رئتي كلما احتجتُ حكمة نظيفة .. وأصعدُ سلالمهم، حكمة حكمة، بيتَ شعر بيتَ شعر، كلما احتجتُ الارتفاع بحجّتي، إلى فوق!