حين يحتفل العربُ في بلاد الغرب بشاعر عربيٍّ صميم، فإن ذلك يحمل الكثير من الإشارات. وحين يكون المُحتفَلُ به شاعراً مثل ابن زيدون، وأرضُ الاحتفال بلاداً مثل إسبانيا؛ فإن ذلك يعني المزيد من الإشارات.. الأديب محمد رضي الشماسي يحدثنا عن تكريم مؤسسة البابطين لـ “ابن زيدون” في قرطبة..
إسبانيا، جوهرة التاج العربي المفقود في أوروبا؛ لها موعد مع صحوة وإبداع نغم الكلمة العربية الرقيقة، والموسيقى الهادئة للشعر العربي، بعد أن غاب عنها ذلك الجو الإبداعي الساحر ما ينوف على ستة قرون. وستة قرون فاصل هائل؛ إذا قيس بالعمر البشري، غير أنه بالمقياس الحضاري يختلف في تفاصيل كثيرة.. وأمام إسبانيا أيامٌ لاستعادة قرون مهمة من تاريخها المجيد وحياتها المشرقة، التي ملأها العرب والمسلمون علماً وأدباً وشعراً؛ حتى أصبحت – إسبانيا – مدرسة أوروبا الأولى التي خرّجت طلاب العلم من إيطاليا و ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من البلدان الغربية..
قرون طويلة عاشتها بلاد الأندلس في ظل حضارة العرب والمسلمين، ومنها عاد الأوروبيون إلى أوطانهم فلاسفة، وأطباء ومهندسين، وفلكيين ورياضيين.. ومارسوا هذه العلوم أساتيذ في جامعاتهم، ومعلمين في مدارسهم ومعاهدهم.
لقد أخذوا من إسبانيا المسلمة وأعطوا أوروبا ذات الديانات المختلفة. أخذوا علوماً ومُثلاً من المسلمين والعرب وأعطوها الأوربيين. وبهذا انفتح باب الاستشراق، الذي انفتح – بدوره – على إشكاليات كثيرة، منها ما هو حضاريٌّ محض، ومنها ما هو أيديلوجي، ومنها ما هو سياسي.
وحين تصحو إسبانيا على الشعر، في حفل تكريم مؤسسة البابطين للشاعر ابن زيدون، فإن ذلك يرمز إلى علاقة الحنين بين التاريخ والحضارة، بين الماضي والحاضر، بين الفن والعلم، بين كثير من الثنائيات الرائعة، فالشعر العربي في بلاد الأندلس كان ذا صبغة خاصة يعرفها دارسو الأدب، وله ملامح ذات خصوصية مهمة، فقد انطلقت منه الكثير من الصيغ المرتبطة بذلك العصر وحضارته وواقعه، لقد كان (موشّــَـحاً) بالفكر العربي الأصيل، والوعي المتوثب إلى النهوض بهذه الأمة التي فقدت جوهرة تاجها العربي اللامع في دياجير عصور أوروبا المظلمة.
وسوف تصحو كذلك على السخاء الإنساني من أديب عربي عرفه العالم العربي، هو سعود بن عبد العزيز البابطين، الذي خدم الثقافة العربية بالعديد من الأعمال والمشاريع الكبيرة التي لا تنهض بها إلا المؤسسات.. وتكفيه مفخرة ُ الموسوعاتِ الأدبية (معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين).
مهرجان ابن زيدون التكريمي هو التاسع من نوعه الذي تعودت لجنة التكريم برعاية صاحبها أن تقيمه كل عامين في بلد عربي أو بلد يتصل في أسبابه بالوطن العربي الكبير مثل إسبانيا – المحتضنة للمهرجان – التي أخذت من العرب الكثير من مفردات لغتهم، فأخضعتها إلى نغمات اللهجة الإسبانية، والنبرة الأعجمية.
إن الحضارة المعاصرة احتاجت إلى إسبانيا في الكثير من زادها العلمي والثقافي والمعرفي. وحين نحصر القضية في الأدب، فإن الأدب الإسباني تأثر بالأدب العربي بشكل جلي في العديد من الأجناس الأدبية الإسبانية.
لتأخذ مثلاً مقامات الحريري التي أثرت في
فن القصة الإسبانية فظهر تأثيرها في مثل قصص (الشطار) التي نشأت في إسبانيا، كذلك (ألف ليلة وليلة) و(كليلة ودمنة) الهندية الأصول، وقصة (التوابع والزوابع) لابن شُهـَيد الأندلسي. والشواهد في هذا السياق كثيرة. والمثقفون العرب يعرفون مثل قصة (حي بن يقظان) لابن الطفيل، ومثل آثار ابن حزم الأندلسي وابن رشد وابن سينا وغيرهم الكثيرون الذين عبروا بنتاجهم الفكري إلى أوروبا على طريق معبّد هو إسبانيا؛ مدرسة أوروبا لدى المسلمين.
وأما في الشعر فيكفينا مثالا ً على ذلك (الشعراء التروبادور) الذين ظهروا في العصور الوسطى، وهم فرقة موسيقية كانوا يتجولون في فرنسا من قصر إلى قصر ومن بلاط إلى بلاط، في جنوب فرنسا ينشدون الأغاني الغزلية ذات العشق المتوهج. وهذا النوع من شعر الحب والأغاني إن هو إلا على نمط الموشحات الأندلسية والأزجال العربية التي ابتكرها الأندلسيون في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي.
الحديث في هذا الموضوع طويل، شائق و شائك. وما هذه إلا إيماءة عاجلة، أو لافتة صغيرة على طريق المهرجان. فإسبانيا هي جسر الحضارة بين الشرق والغرب، وهي نقطة التحول العربي الصعبة، وهي حنين العربِ إلى نوع فريد من الثقافة والعلوم.. وهي الردهة التي مرت بها أوروبا إلى عصرها الحديث..
من هنا جاء اختيار (مؤسسة البابطين للإبداع الشعري) موفقاً لتكريم شخصية الشاعر ابن زيدون في قرطبة؛ التي امتزجت فيها الثقافتان العربية والغربية وتقاربت اللغتان العربية والإسبانية. وقامت فيها وفي غيرها كغرناطة وإشبيليا العمارة الإسلامية الباذخة التي ما زالت تقاوم عوادي الزمان، وتصارع نوازل الليل والنهار شاهدة على عظمة البناة المسلمين، وعبقريتهم الهندسية.
المناسبة شهية، والحدث مبهج، ليس من باب استعادة ما في الذاكرة من تاريخ، وليس من باب ما تحتفظ به قرطبة من ملامح عربية، وشواهد إسلامية، وليس من باب التباكي على الأمجاد، وإعادة قراءة “لكل شيء إذا ما تمّ نقصان”، كما يقول الشاعر العربي المتحسّر على ضياع الأندلس..!
وإنما لأن في هذه البوابة العريضة، الأندلس، موقفاً للعرب والمسلمين من الحضارة البشرية، وهو موقف من الجدير أن يتبلور على نحو من الأنحاء، وحفل تكريم الشاعر ابن زيدون يجسد جزءاً مهماً من هذا الموقف.. إنه موقف إنساني النزعة، صنعه التطلع إلى بناء الحياة من دون التفريق بين الأجناس والأعراق. لقد كان موقفاً بنته دولة عربية إسلامية في أول توسعها القوي، لكنها واصلت بناءه لقرونٍ طويلة لاحقة، وتركز في حقول المعرفة والعلوم والفكر الإنساني الذي أخذت منه أوربا، ومن بعدها العالم أجمع، حقائق ليست يسيرة..
حين تقف مؤسسة البابطين على منبر تكريم ابن زيدون، فإن عشرات الأسماء العربية “الأندلسية” ستكون على مقاعد الجمهور أيضاً، موجودة في المشاعر والذاكرة والمجد العربي الممتد، وكأن مقطعاً شعرياً يقرر: أضحى التداني بديلاً عن تنائينا..