الثقافة والأدب

سعد البازعي: لا أتخيل مشهداً ثقافياً هادئاً

يتعاظم الجدل حول أهمية أن يكون للكاتب صوت مطلق الذاتية والتفرد، خصوصية ما، جغرافيا غير مكتشفة يحتلها، هندسة مغايرة يبشر بها عبر نصوص خلاقة دوماً، تجريبية، انقلابية، كل تلك الصفات المصرة على التجديد في كل شيء. فبعض الكتّاب يبحث عن نفسه في آخرين، ربما يخترعهم ويمنحهم من داخله ما لم يقصدوه.
من هنا قيل إن كل كاتب يخترع أسلافه ويعيد تشكيلهم… أين د.سعد البازعي من كل ما تقدم؟ وكيف يجسر الفجوة المضاعفة بين القارئ والأثر المنقود؟ أحلام الزعيم حاورته ليجيب عن كل هذه التساؤلات.

الصوت الأعلى هو للروائيين، وهم أسياد الساحة، وصوت النقد والشعر انخفض وسط هذا الضجيج الروائي

كتابك «ثقافة الصحراء» كان له أن يتطور إلى مشروع، لكنك توقفت ولم تواصل تجذير أطروحاتك فيه.. لماذا؟
بالنسبة لـ«ثقافة الصحراء» كان يمكن بالفعل أن يتحول إلى مشروع لكنني لم أواصل، ولذلك توصيفه بمشروع ليس دقيقاً. كان مجموعة أفكار تبلورت بشكل معين وقت إنجاز العمل في فترة ظهور الحداثة الشعرية والقصصية في أواخر الثمانينيات. كان يمكن فعلاً أن أطور هذا المجال لمشروع لكنني لم أفعل، والسبب أنني انشغلت بأشياء أخرى، أهمها أنني كنت، وما زلت، أكاديمياً، لدي اهتمامات بحثية في تخصصي، ويهمني أن أنجز في مجال التعليم، ويهمني أن أكوِّن نفسي كأستاذ جامعي، فعملت في مجالي في الأدب المقارن، وأخرجت كتباً ودراسات في هذا المجال. وهذا سبب عدم مواصلتي في مشروع الصحراء. لكن مفهوم ثقافة الصحراء لم يغب تماماً، هو موجود بشكل ضمني في أعمال أخرى صدرت لي.

مثل ماذا؟ وهل فكرة العودة للمشروع موجودة؟
الفكرة موجودة في كتاب «إحالات القصيدة» لكن لا أعدها تطويراً للمشروع، وإنما وما زلت أرى أن مفهوم ثقافة الصحراء يساعد على فهم الأدب الحداثي المنتج في البلد في تلك المرحلة. فكرة العودة للمشروع موجودة، وأذكر أن بعض الزملاء والأصدقاء من المهتمين في هذا المجال، من السعودية وخارجها، ألحوا عليَّ بألا أهمل هذه الفكرة، ومنهم الصديق د.حمادي صمود من تونس، الذي نبهني إلى أن هذه الفكرة كان ينبغي أن تطور في اتجاهات أخرى. وهي فعلاً قابلة للتطوير ولكن ليس بالضرورة بالتعريف والفهم السابقين نفسيهما. بمعنى أن مجيء أدب جديد وتطور الأدب المحلي نفسه يقتضيان مراجعة ذلك المفهوم وقراءة الأدب الذي أنتج فيما بعد بزاوية مختلفة. ففي «إحالات القصيدة» مثلاً نظرت إلى ثقافة المدينة بدل الاعتماد على ثقافة الصحراء. الأدب نفسه هو الذي يقترح ذلك، يعني مثلاً قصيدة النثر لم تكن لتولد في ظل ما سميته ثقافة الصحراء، وكذلك الرواية هي ابنة المدينة، حاولت أن أطور هذه الفكرة في كتاب سرد المدن، المدن والصحراء في عناوين كتبي تشير إلى المكان. تدخّل المكان هل يفرض شروطه على الإبداع؟ أم أن الإبداع يدخل في نوع من الجدلية مع المكان؟ الإجابة عن هذا الاستفهام تحلل الملامح المختلفة للإبداع.

كل كتاب من إصداراتك يمثل قيمة فكرية ونقدية، لكنك ربما لم تترك وقتاً للقارئ أن يستوعب تجربتك على صعيد الكم والتنوع… هل يتأتى للقارئ غير المتخصص استيعاب ما تكتبه؟
لا أتوقع أن هناك قارئاً متخصصاً بأعمالي فقط، ولا همَّ له إلا أن يقرأ للبازعي، القارئ يختار ما يريد أن يقرأ، اهتماماتي بالأدب السعودي لها كتب خاصة، والذين لديهم اهتمامات بالأدب المقارن يمكنهم العثور، في هذا المجال، على مؤلفات ودراسات وأبحاث خاصة. لاحظت من خلال تجربتي أن من يهتم بالأدب السعودي لا يهمه ما كتبته عن اليهود مثلاً. ومن ثم ليس هناك قارئ مختص فقط بالبازعي. ولذلك لست معنياً بأن أكون محدداً لقارئ معين، أنا متوجه لنفسي أولاً، لأني أريد أن أكتشف ما لدي، والقارئ مهم بالنسبة لي، ولكن لا أحمل قارئاً معيناً بشكل واع في ذهني. الهدف الأساسي لدي المساهمة في إثراء الثقافة العربية، وكيفية إثرائها تعتمد على ما لدي من مخزون ومحصول، وكأي إنسان لدي فترة إنتاج محددة أكون فيها نشطاً على مستوى الإبداع والتأليف. أريد أن أقول في هذه المرحلة كل ما يمكن أن أقوله. وأعتقد أنه وبشكل تلقائي تنظم الكتب والأعمال نفسها. يعني مثلاً آخر كتاب أصدرته «لغات الشعر» أشرت في الغلاف الأخير إلى أنني أصدرت ستة كتب في الشعر، ومن ثم أذكِّر القارئ أين سيجد ما كتبته عن الشعر. أنا بنفسي أنظر كقارئ وأجد أن هناك اهتمامات هيمنت عليَّ كالشعر. أنا لا أعد نفسي ناقداً روائياً مثلاً، لكنني مهتم بالرواية.

في السنوات الأخيرة بزغت فكرة النقد الثقافي التي روَّج لها أصحابها بحكم أن النقد الأدبي بات من الماضي، وتطور هذا السجال الفكري لينعكس على الصفحات الثقافية في الصحافة المحلية.. كيف تصنف نفسك ضمن هذه المصطلحات؟
النقد الأدبي هو الأساس. أنا أسمي نفسي ناقداً أدبياً، ولكن لدي اهتمامات فكرية، ولذلك أفضل كلمة باحث. هناك من يسمي نفسه ناقداً ثقافياً لكنني لا أعرف الكثيرين ممن يسمون أنفسهم نقاداً ثقافيين، الغالبية يسمون أنفسهم نقاداً أدبيين. أعتقد أن النقد الأدبي باق ما بقيت الثقافة الإنسانية، وما دام الأدب موجوداً لا بد أن يكون له نقد، الثقافة تحتاج إلى مفكرين وباحثين ومحللين. ولكن وجود ناقد للثقافة بالمعنى الذي أقترحه لا يبرر أن نطلق على شخص ما لقب الناقد الثقافي. بل قد يكون محللاً أو باحثاً، لأن النقد عملية أدبية بالدرجة الأولى، عملية التصقت بالأدب وهي جزء من عملية الإنتاج الأدبي، لذلك الثقافة لها مفكروها وباحثوها ومحللوها ومؤرخوها، وليس لها نقاد بالمعنى المعروف للنقد الذي يميز الجيد من الرديء، والذي يقيِّم الأعمال ويحللها، هذه صفة مختصة بالأدب.

لماذا لم يتطور عملك مع ميجان الرويلي في تأصيل المصطلح النقدي في «دليل الناقد الأدبي»؟
أصدرنا ثلاث طبعات، الأولى تضمنت 30 مصطلحاً، والثانية 50 مصطلحاً، والثالثة 70 مصطلحاً. وسبب التوقف هو انشغالي بأعمال أخرى. فأنا لا أحبذ أن أحبس نفسي في مشروع واحد، أمضيت في هذا المشروع مع الرويلي خمس سنوات، وأعتقد أنني يجب أن أقول شيئاً آخر. أحب أن أنشر باستمرار وأحضر ندوات ومؤتمرات. وهذا النشاط يؤدي بي إلى الانشغال بأشياء أخرى غير العمل الذي اشتغلت عليه لفترة، هناك احتمال أن نعود إليه ونضيف عدداً من المصطلحات التي ظهرت خلال العقد الأخير.

النقد مغامرة، والساحة الثقافية والفكرية لا تخلو من سجالات… إلى أي مدى أدت التزاماتك وقناعاتك إلى تكوين أعداء لديك؟
لا أذكر أنني كونت أعداء من خلال النقد الأدبي تحديداً أو من خلال نقدي لأعمال كتاب، لأنني أصلاً لست معنياً بتوجيه اللوم لأحد أو إبراز نقاط الضعف عند أحد. هناك خلافات نقدية تحدث وهناك من اختلفت معهم في وجهات النظر. ولم يتحول هذا الخلاف إلى سجال، ومن ثم ليس هناك عداوة، بل مجرد اختلافات في الرأي، قد تؤدي إلى قطيعة أحياناً، لكن العداء بمعنى سوء النية والترصد غير موجود.

كتابك «المكون اليهودي في الحضارة الغربية» أثار ضجة كبيرة، إذ عدَّه بعضهم أنه ينطوي على نظرة إيجابية لليهود، وهي نظرة تختلف عن رؤى الدكتور الراحل عبدالوهاب المسيري، وهو الرائد في ذلك المجال.. كيف يمكن أن تختصر لنا رؤيتك التي قدمتها من خلال هذا الكتاب؟
كان اليهود حتى بداية القرن التاسع عشر منغلقين وممنوعين من الاتصال بالحياة العامة إلا بشكل محدود، ثم انفتحوا. قبل ألفي سنة كانوا وحدة واحدة عاشت في الشرق الأوسط، ولكن منذ ذلك الحين لم يعودوا تلك الوحدة وهم يدعون ذلك. اليهود يعيشون في شتات، وكل جماعة منسجمة في المحيط الاجتماعي الذي تعيش فيه. هم ليسوا جماعة عادية، هم أقلية فاعلة، أو كما يقول د.حسن ظاظا، الأقلية المهيمنة. لكنها قوية بعلمها ومالها وبتخصصاتها وإبداعها. ويجب أن نعترف بذلك. كتابي يحاول أن يقدم للقارئ العربي صورة بانورامية للمجالات التي أسهم فيها اليهود في إثراء الحضارة الغربية والتي جعلتهم جزءاً من حداثة المجتمع، في الطب والكيمياء، والفلسفة، والأدب، وفي مختلف المجالات. هذا حصل بعد أن انتشروا في الأرض أصبحوا يبدعون في كل المجالات.

كيف تصف علاقتك بالمسيري، وما وجه الاختلاف بينكما؟
علاقة حميمة جداً وقوية. هو أخيراً صار عنده توجه إسلامي سياسي، هذا أساسي في شخصيته. وبالنسبة لي، من الطبيعي أن يكون لدي التوجه نفسه في الأشياء الأساسية على المستوى الديني. لكن طبيعة اهتمامي بالناحية الإسلامية تختلف عن المسيري. كان هو ناشطاً، وكان عضواً في معهد الفكر الإسلامي في نيويورك، وأنا من الذين استفادوا من آرائه، لكنني لا أحمل الحماسة نفسها التي لديه. هناك جماعات متشددة لا يرضيها شيء. المسيري كان اهتمامه بالإسلام معرفياً وحضارياً أكثر من كونه اهتماماً فيما يتصل بالشؤون اليومية التعبدية. وهذا ما أعرفه عنه. كان يرى في الإسلام نظاماً حضارياً كبيراً، ويبرز هذه الجوانب في الإسلام التي لا يبرزها آخرون. يذكرنا بالرؤية الإسلامية للوجود ويقارنها بالرؤى العلمانية واليهودية للوجود، هو أكبر منتقد للعلمانية. ونقده مميز جداً. استفدت منه من حيث النظر للغرب والتعامل مع الحضارة الغربية، لكن الاستفادة شيء والاندماج الكامل في أطروحة أخرى شيء آخر.

فتحت أبواب القصيدة في قراءاتك النقدية على أسماء معروفة ومكرسة، ألم تدعك حداثتك إلى شعراء التسعينيات وما بعدها؟
بلى، قدمت الكثير من القراءات لشعراء معاصرين من الشباب والشابات أمثال أحمد الملا وإبراهيم الحسين وهدى الدغفق.

الأدب بكل أشكاله يواجه تحدياً اليوم أمام الثقافة المرئية وثقافة التلفاز والسينما تحديداً، هل يمكن رصد تأثيرات متبادلة بين الاثنين؟
تأثر ضعيف للأسف. أعتقد أن التلفاز لم يستفد بشكل حقيقي من الأدب السردي. هناك من درس في الغرب مثلاً تأثير السينما في الشعر. بعض القصائد فيها شيء يشبه السينما، لكنني لا أعرف أدباً سعودياً تأثر بمسلسلات أو بطبيعة السينما والتلفاز.

ما طبيعة العلاقة بينك كناقد وبين منتجي النصوص الأدبية؟ من يعلو صوته على الآخر؟ الناقد أم المبدع؟
طبيعة العلاقة هي الدراسات. أدرس أعمالهم، وكثير منهم أصدقائي، ونلتقي في أماكن كثيرة. الحقيقة الآن أن الصوت الأعلى هو للروائيين، وهم أسياد الساحة، وصوت النقد والشعر انخفض وسط هذا الضجيج الروائي. في كل مكان دائماً هناك ضجيج وهناك أشياء متميزة. لا يمكن أن أتخيل مشهداً ثقافياً هادئاً وكل الناس تحب بعضها، لا بد أن يكون هناك بعض الفوضى.

هل تتوقع أن تظهر نظرية نقدية تُسيطر على المشهد الأدبي لسنوات مقبلة مثلما حدث مع البنيوية وما بعد الحداثة؟
لا بد أن تظهر، دائماً هناك جديد سيظهر. ولكن أتمنى ألا نستورد النظرية بقدر ما أتمنى أن يكون للنقاد والمفكرين دور في تكوين النظرية المقبلة من خلال تطوير أطروحات تساعدنا على قراءة المنتج المحلي بشكل أفضل من الاستعارة الدائمة من الخارج. وإذا كان لا بد من الاستعارة فلتكن استعارة تطور وتكيف بشكل يناسب المنتج المحلي بدل أن تكون قالباً جاهزاً. عندنا من النظريات الجديدة التي لا أعتقد أنها مشهورة الآن «النقد البيئي» أو النظرية البيئية.. وأنا أيضاً درست مجموعة من طالبات الدكتوراه والماجستير، وكثيرات منهن مهتمات بهذا الجانب. وأتوقع أن مثل هذا النوع من النقد له ما يبرر الاستفادة منه محلياً. ولو عدنا لسؤالك الأول حول ثقافة الصحراء، سنجد أنها نوع من النقد البيئي رغم أنني عندما كتبته لم أقصده بهذا الشكل بقدر ما قصدت دراسة الجغرافيا المكانية على النص الأدبي. وما آمله الآن هو أن يتزايد الوعي النقدي في اتجاه علاقة الأدب العربي بأدب العالم الثالث أو بالأدب الآسيوي وأدب أمريكا الجنوبية. هذا الوعي ضعيف، حاولت أن أملأ بعض الفراغ في كتابي الأخير «لغات الشعر» بترجمة مجموعة من القصائد. أريد أن يزيد الوعي بالشعر الهندي، والكوري، والصيني. هذا الوعي لو تضاعف وتعمق قد يؤثر في قراءتنا لأدبنا، لأننا سننظر إليه بزاوية مختلفة عما يحصل لو نظرنا من مستجدات ما بعد الحداثة التي استعرناها من الغرب.

كيف تتحايل على الوقت لتنشر دراسة نقدية، أو تؤلف كتاباً نقدياً؟
أعتقد أنه من الجيد أن تنتج كتاباً كل سنة، ومع ذلك لست راضياً عما أنتج. وأعتقد أنه جهد مقل. المشكلة الرئيسة التي تواجهني هي الصحافة والإعلام الثقافي، لأن الصحافة تطالب باستمرار بالتعليق على الأحداث ومقالات عن موضوعات وأحداث معينة. ومطالبتي بالتعليق عليها يسرق الكثير من الوقت. والإنسان لا يستطيع أن يعزل نفسه تماماً. وهذه ميزة العمل في الجامعة، فهي تعطيك سنة تفرغ كل ثلاث سنوات أو أربع سنوات. سنة كاملة ليس لديك إلا أن تنشر وأن تكتب، وهذا لا تقدمه أي مؤسسات أخرى. وهذا ما ساعدني على إنجاز بعض الأعمال التي أعتز بها. لكنني أظل في صراع مع الوقت.

رحلتك السنوية لأمريكا، ما دوافعها؟ وكيف انعكست على كتاباتك؟
ارتبطت بأمريكا أساساً نتيجة الدراسة وقضيت سنوات عدة فيها. بناتي الكبار كلهن مولودات هناك. لدي علاقة عضوية بالمكان وبالثقافة. اللغة الإنجليزية هي باب العالم. أقضي وقتي في مكتبات الجامعات بعيداً عن الضجيج، خصوصاً أنني أتجه للريف. مؤخراً شاركت في مؤتمر عن أمين الريحاني في مكتبة الكونجرس، وألقيت محاضرة هناك. اثنان من طلابي درسا بعض أعمال أمين الريحاني في الماجستير، وهو يعد رائد الأدب العربي الأمريكي، وأول من أصدر رواية عربية باللغة الإنجليزية اسمها «كتاب خالد»، وطُلب مني أن أكون ضمن اللجنة الدولية للاحتفاء بمئوية أمين الريحاني، فأقيمت ندوة وكنت آخر المتحدثين فيها، وكان هناك مجموعة من أعضاء الكونجرس وباحثون في الأدب العربي الأمريكي وكتّاب أمريكيون وكتّاب عرب.

أضف تعليق

التعليقات