الثقافة والأدب

روايات عبده خال..

عالم مفتوح على المهمشين

تأتي روايات عبده خال انعكاساً عن الواقع في قالب سردي شرس.إذ يجابه الشر بأنواعه الذي يحيط بالمهمشين والمقهورين. سماهر الضامن ترصد برؤية نقدية الجانب الاجتماعي في روايات عبده خال. كاشفة عن نقاط الالتقاء فيها.

روايات عبده خال..
عالم مفتوح على المهمشين
المشروع السردي لخال يبدو منظماً ومرتباً وغير اعتباطي، فهو يمتلك تصوراً واضحاً لما يريد أن يصل إليه من خلال ممارسته السردية
المتتبع للتجربة السردية لعبده خال منذ بداياته في «الموت يمر من هنا» أن يستشرف خط مسيرته الروائية، لقد كان جلياً أن خال يوظف سرديته لتلاوة نشيد الإنسان المهمش السفلي

تمارس تجربة عبده خال السردية الحفر عميقاً لكي ترى وتكشف ما يجري في الدواخل والبواطن.. فعلى امتداد تلك التجربة، الممتدة من منتصف التسعينيات وإلى الآن، تلبس خال دور الرائي للعاهات، والكاشف عن التشوهات الاجتماعية، والمطارد للشرور كي لا تفر إلى العدم، «مناضل شرس».. قد يبدو هذا توصيفاً لائقاً بعبده خال في مثابرته السردية.

إبقاء الذاكرة الجمعية طرية وغضة، الحفاظ على طزاجة الشعبي وحيويته في مقابل الرسمي والسلطوي، يبدو غاية مقدسة للفعل السردي لدى خال، تسجيل أحداث تاريخية مر بها المجتمع المحلي خلال تحولاته، ورصد مواقف الصراع بين المتنفذين والمهمشين، ومتابعة يوميات البسطاء والمسحوقين.. دوائر ينغمس فيها فعل السرد إلى الحدود القصوى حتى يغرق أحياناً في التصوير والتسجيل والرصد.

على أن الانزلاق بالحديث نحو هذا الاتجاه قد يؤدي إلى قدر كبير من الشطط في التفسير النقدي، وحتى في الحكم على المنجز عندما تؤدي المقاربة النقدية هنا رسالة مفادها أن السرد هو مجرد «رصد» أو «تسجيل» أو «تصوير» للواقع الاجتماعي أو التاريخي، بما يدفع لاستحضار جدلية الانعكاس أو المرآوية التي تحكم علاقة الأدب عموماً بمرجعه الخارجي، وهي علاقة قد أسرفت النظرية النقدية قديماً وحديثاً ببحثها ومجادلتها.. ولابد هنا من التذكر بأن النظرية الحديثة لم تعد ترى في الأدب انعكاساً عن الواقع بقدر ما تجد فيه مقاربة تختلف درجة أو حدة تماسها بذلك الواقع.. وبما يشكل انزياحاً بالنص الأدبي عن مرجعه الخارجي بشكل أو بآخر..

إننا في الأدب، حسب تودوروف، لا نكون إزاء واقع خام، وإنما إزاء أحداث تقدم لنا على نحو معين.. كما أن الوقائع التي يتألف منها العالم التخييلي لكاتب ما لا تقدم في ذاتها، بل من منظور معين وانطلاقاً من وجهة نظر معينة.. ولذا يمكن هنا التساؤل عن الكيفية التي يصف بها النص الأدبي العالم.. بعبارة أخرى يمكن طرح قضية صدقه: فالقول بأن النص الأدبي يعود إلى واقع، وأن هذا الواقع يمثل مرجعه أو يصور واقعه، يعني أننا نقيم بالفعل علاقة صدق بينهما، وأننا نخول لأنفسنا إخضاع الخطاب الأدبي لامتحان الحقيقة..وهذا ما لا يشكل غاية لهذه المقاربة ولا تعتنقه بقدر ما تسعى لاختبار درجة تماس هذه التجربة بواقعها الاجتماعي والكيفية التي تعبر بها عن تلك العلاقة، والتي هي بالنتيجة علاقة مؤكدة، وثيقة، لا سبيل إلى إنكارها أو تجاهلها، كما يرى الناقد عبدالله إبراهيم، لكنها في الوقت نفسه علاقة شائكة ومعقدة وغامضة ومتعددة المستويات، ومتباعدة، ويتعذر وضع قانون لضبطها وتفسيرها وكشف أواصرها..

ليس من الصعب على المتتبع للتجربة السردية لعبده خال منذ بداياته في «الموت يمر من هنا» أن يستشرف خط مسيرته الروائية، لقد كان جلياً أن خال يوظف سرديته لتلاوة نشيد الإنسان المهمش السفلي في صراعه ضد قوى الهيمنة بكافة تمظهراتها: الاقتصادية والدينية والسياسية والاجتماعية.. برمزية عالية في حينها، وواقعية تالية بلغت حد التوحش في بعض أعماله كنباح، ومدن تأكل العشب، وفسوق.. وقد توج كفاحه بمجابهة حدية في روايته الأخيرة الحائزة البوكر «ترمي بشرر»..

إن توظيف تعبيرات «الكفاح» و«المجابهة» و«التوحش» ليس اعتباطياً هنا أبداً، إذ الرواية المحلية ولدت في فضاء جاهز للتنافس الأيديولوجي، بتعبير محمد العباس، وتبرعمت كشكل من أشكال المواجهة التنويرية ضد قوى تسعى لاختطاف المجتمع وتجييره في قوالب ماضوية وسد منافذ الحياة والحداثة الاجتماعية في طريق مسيرته بدعوى الفضيلة وسواها من الشعارات.. مما يجعل الرغبة المعلنة في التجربة الروائية لأداء الدور التجابهي والكفاحي ضد تلك القوى رغبة مفهومة ومبررة.

من هنا جاءت العديد من التجارب الروائية المحلية رداً اجتماعياً إبداعياً يسعى لمجادلة القيم التي تتشدق وتتشبث بها تلك القوى، ولعلي لا أبالغ كثيراً حين أزعم بأن عبده خال كان من أشرس هؤلاء المناضلين الذين حملوا همّ الكائن المسحوق والمهمش والمسلوب الإرادة والحقوق، والذاكرة الجمعية ضدّ تزييفها وطمر تراثها وتاريخها القريب فضلاً عن البعيد.

في بداياته كانت تستفزه الحالة الطبقية، وتراتبية العلاقات في المجتمع الزراعي الإقطاعي كما في «الموت يمر من هنا»، بما يمتلئ به فضاؤه من تسخير للكادحين والبسطاء، وغبن لحقوقهم لحساب «السيد» الأوحد الذي مثله «السوادي» في تلك الرواية كرمز لقوى الشر والتسلط والهيمنة.. صور متلاحقة وتفاصيل كثيرة يلتقطها السرد لحياة الكادحين والمغلوبين في هذه الرواية بأسلوب أقرب للرمز وإن لم تكن تلك الصور في النهاية غريبة على متن عايش تلك العلاقات في المجتمعات الزراعية الجنوبية تحديداً، خصوصاً أنه الكاتب الذي يتحدر من قرية جنوبية يعرف ناسها جيداً معنى الكدح وشظف العيش، والذي يزيده جبروت المتنفذين شظفاً ووحشية.

واصل خال في أعماله اللاحقة كـ«مدن تأكل العشب» و«نباح» نقد بنية التسلط وتعريضها لمزيد من الكشف والفضح، وكمن يتدرج في نبش مكامن العطب والتشوهات، انتقل لتدوين التباسات مرحلة تاريخية شرسة مرت بها المنطقة العربية عموماً بين الخمسينيات والسبعينيات، وما تناسل عنها من حروب وشعارات وصراعات وخيبات وانتكاسات، بدءاً بالمرحلة الناصرية والعدوان الثلاثي وحرب أكتوبر وحلم الوحدة العربية، ومروراً بحرب الخليج وغزو الكويت في التسعينيات، وكل ما خلفته هذه الأحداث المفصلية الكبرى في حياة الأفراد والبسطاء في مجتمعه الصغير، لا سيما أولئك الذين يصطلون بدمار الحروب ويتجرعون ويلاتها ومآسيها حتى دون أن يسهموا فيها من قريب أو بعيد.. فالبسطاء يتحملون وزر قرارات الساسة والزعماء وحماستهم، ويدفعون ثمن الشعارات التي يرفعها هؤلاء.

وخال إذ تشغله الصراعات السياسية والحروب والمناكفات الحزبية في البيئة المحلية، التي قلما تعرضت الروايات لمفاعيل تلك المرحلة والأحداث فيها، إلا أنه لا ينشغل بها من الخارج، أو لا تعنيه الحروب والصراعات كأحداث تاريخية بقدر ما يركز على أبعادها الاجتماعية، وعلى التفاصيل التي لا يراها الكبار، ولا يتنبه لها أحد في غمرة الانشغال بإطلاق الصواريخ وتسيير الدبابات والطوافات.. المنشغلون بالسياسة والأيديولوجيات الكبرى، والكتاب الذين يؤرخون للحروب يروونها كتواريخ وأرقام، كمن يلتقط صورة من برج سماوي فلا يظهر إلا قشرتها الخارجية. أما السرد هنا فيروي الحرب كما يعيش تفاصيلها الأفراد في القرى الصغيرة والأزقة والمنازل.. كما تتشتت وتجوع وتعرى بسببها العائلات المعدمة أساساً، والتي لم يكن ينقصها الحروب والدمار والمعارك الأيديولوجية لتزيد معاناتها الحاضرة والقائمة أصلاً.. والتي لم تكن، أيضاً، بحاجة للحروب والأيديولوجيات بقدر حاجتها للتنمية والرعاية المؤسسية..

ففي «مدن تأكل العشب» يعايش السرد مأساة «يحيى» الذي تدفعه والدته لمغادرة القرية مكرهاً ومكرهة، وهو صبي للتو يفارق الطفولة ليسعى في مدينة «جدة» جالباً رزق العائلة المنكوبة بفقد عائلها وبالفقر والجهل.. وتأتي الحرب لتعيق عودة يحيى لقريته، وتعيق لقاءه بعائلته وأمه التي تحرقها عقدة الذنب فتبذل ما تملك وما لا تملك أملاً في استعادة ابنها الذي انقطع به طريق السفر المرهق والقاتل.. ولينتهي بها العوز والرغبة في الوصول لابنها بالاضطرار لتزويج أجمل بناتها لأحد الجنود الغرباء الأجلاف، والذي كان طامعاً في صباها وصغر سنها، ولتختنق حكاية حب وليدة بين العروس الصغيرة وأحد أبناء قريتها.

يتكرر مفعول الحرب بتقطيع أصر العلاقات الاجتماعية في «نباح» عندما تضطر كثير من العائلات اليمنية إلى مغادرة السعودية إبان الغزو العراقي للكويت، وانحياز الحكومة اليمنية لجانب صدام حسين ضد التحالف الدولي، وطلب الرئيس اليمني من مواطنيه المقيمين في المملكة مغادرتها والعودة لليمن، ما حدا بكثير منهم للاستجابة وترك مصدر الرزق والعودة لحيث المصير المجهول ومكابدة بناء حياة جديدة. وهكذا توقع الحروب هؤلاء الأفراد في مآزق لم يحسبوا لها حساباً، إذ هم لم يختاروا الحرب أساساً ولم يخيروا بشأنها.
يستجيب والد «وفاء» حبيبة بطل الرواية مع من استجاب لطلب الرئيس اليمني ويغادر إلى اليمن، ويبقى قلب البطل معلقاً بها، لتبدأ هنا مرة أخرى رحلة بحث جديدة، مختلفة كثيراً بطبيعة الحال عن رحلة البحث عن يحيى، فالزمان والمكان هنا وطبيعة الشخصيات مختلفة.. وقد وسع السارد هنا دائرة الصراع موزعاً فضاء الأحداث بين جدة واليمن.. ولأن البطل كان محرراً صحفياً فقد تسنى له في إحدى رحلات بحثه أن يذهب ضمن وفد لمؤتمر إعلامي فيلتقي شخصيات عربية عدة من جنسيات مختلفة لتكون فرصة سانحة لعرض الأصوات ووجهات النظر والاختلافات الكثيرة والجدل حول القضايا المصيرية كما يسمونها.. وليعثر البطل على حبيبته أخيراً وقد حولتها عصابات الدعارة إلى فتاة هوى تبيع جسدها لأي عابر.. وهي ظاهرة تعرفها أغلب المجتمعات التي تعرضت للحروب، عندما تفقد النساء العائل ويبحن وجهاً لوجه مع الجوع، فيبعن أجسادهن ليطعمن أطفالهن وليثرى تجار الحروب وسماسرتها. لقد غصت «نباح» بكثير من هؤلاء مثل الجحش، وتوفيق عبدالله الذي صار يحتكر بعض السلع ويروج لها على أنها من مقومات حماية الحياة في فترة الحرب كاللصق، والأقنعة الواقية من الغازات السامة.

ولم يفت السارد في «نباح»، وهي التي ترصد مرحلة التسعينيات، أن يتتبع منشأ موجة التطرف الديني الجديدة التي تزايدت مع عودة الشباب الذين رحلوا للجهاد بقصصهم الغرائبية حول كراماتهم ومعجزات معاركهم.
ويحكي خال عن هذه الفئة، أيضاً، في رواية «فسوق»، بشخصية «محمود» عاشق جليلة الذي رفضه والدها عندما جاءه طالباً يدها للزواج بحجة أنه «مجنس» وليس قبلياً أصيلاً.. وبعد أن قبضت عليه الهيئة معها بتهمة الاختلاء المحرم، تحول هو إلى مجاهد من مجاهدي أفغانستان ثم العراق، وانسحبت هي إلى حالة من التدين المَرَضي الذي انتشر كثيراً خلال السنوات الأخيرة، والذي لا يعبر عن العقيدة الصافية بقدر ما هو إفراز ناجم عن حالات الكبت والاستلاب.

في «فسوق» تنسحب النبرة الأيديولوجية العالية في روايات خال التي تعايش فترات وأزمنة الحروب.. كما تخفت حدة الجدل الوجودي الذي تمتلئ به رواية «الطين»، ليغوص خال هنا في عمق العلاقات الاجتماعية.. العائلة والحب، والزواج، والقبلية، والرجال والنساء.

يقترب خال هنا من لحظته الزمنية وواقعه حتى تتسمى الأشياء بأسمائها، دون ملابسة أو مواربة.. ويزيد حدة الجرأة فيوجه نقداً لاذعاً وغير مهادن للسلطة الدينية المطلقة.. واتخذ خال من حكاية قبض الهيئة على جليلة ومحمود مدخلاً لمجادلة كثير من سياسات الهيئة وحجم السلطة الممنوح لهم، على لسان الضابط أيمن الذي فصل من عمله بعد أن خالف إرادتهم وعمل بما تقتضيه قناعته. ولعل هذا النقد الجريء كان سبباً من أسباب الشهرة التي حازتها رواية «فسوق» أكثر من سواها.
يواصل خال نقد التشوهات والعاهات الاجتماعية في روايته الأخيرة «ترمي بشرر» الحائزة جائزة البوكر للرواية العربية، وقد كرس اسمه فيها ككاتب مناضل لا يتهيب النبش في أكثر المناطق عتمة.. من إساءة استغلال السلطة إلى التعدي على أموال البسطاء وأملاكهم وحتى أقدارهم ومصائرهم. والقوانين التي تطبق بمكاييل مختلفة بناء على الأسماء والألقاب، والأموال الفاسدة التي تشتري كل شيء حتى الأجساد والضمائر والمصائر.. وتمايز الطبقات الاجتماعية بين فقر مدقع وغنى فاحش مهول، وانحسار الطبقة المتوسطة التي لا وجود لها في هذه الرواية كما بدأت تنحسر في الواقع.. وكما اعتاد خال في معاصرته للحظته الزمنية ومعايشة واقعه، فقد أدخل في نسيج الرواية أحداثاً واقعية عديدة ما زالت الذاكرة الاجتماعية طازجة بها، كانهيار أسواق الأموال وما رافقه من هزات اقتصادية طالت كافة فئات المجتمع.

إنه لمن اللافت أن المتابعة الدياكرونية للمنجز السردي لعبده خال تكشف عن تدرج تاريخي معين ومدروس، كمن يحمل مخزوناً هائلاً من الحكي والوقائع والأحداث ويضع له خطة زمنية واضحة لتدوينها وكتابتها حسب تسلسل حدوثها في الواقع المعاش.

قد تنتهي بي هذه المقاربة للقول بأن المشروع السردي لخال يبدو منظماً ومرتباً وغير اعتباطي، فهو يمتلك تصوراً واضحاً لما يريد أن يصل إليه من خلال ممارسته السردية.. فالسرد لديه واقعة اجتماعية، تقارب الواقع وتصوغه من وجهة نظر كاتبه الذي يبني في نصه عالمه الخاص، ويرينا العالم من زاوية تختلف، ربما، عن الزاوية التي ننظر منها.. وهو بهذا المعنى وسيلة تحريك وتغيير للواقع بما هو رؤية مغايرة ومختلفة لهذا الواقع، فتسمية الخلل، وتتبع الشرور، ورصد الوقائع ليس لمجرد التسجيل ونقل صورة الواقع الاجتماعي بصورة فوتوغرافية، بل هو تسجيل موقف الذات الكاتبة ورفضها لمثل تلك الظواهر والتشوهات التي عشعشت في عمق المكون الاجتماعي المحلي، ولابد من إلقاء أحجار كثيرة تحرك المياه الراكدة.

أضف تعليق

التعليقات