حياتنا اليوم

صندوق الذكريات

أسرار ومقتنيات

  • 210094_26154
  • shutterstock_64669165
  • shutterstock_75866821
  • shutterstock_83901520

أصبح الناس أكثر حيطة من ذي قبل، فهم محاطون بالأسرار والأرقام السرية بدءاً من الهاتف النقال برقم سري، والبريد الإلكتروني، وحتى بعض الأبواب لا تفتح إلا بأرقام سرية.

كثير من الناس يحتفظون بمقتنيات قديمة لتستدعي التذكر لديهم ، فيقتنصون لحظة من الزمن الحاضر للعودة إلى الزمن الجميل.

بين الذكريات والأسرار نقاط التقاء، وبين المقتنيات والاستثمار نقاط التقاء، وبين صبرنا وشغفنا بالحفاظ على كل أثر ماضٍ يمثل لنا شيئاً جميلاً في مرحلة ما من أعمارنا وحياتنا، هناك أيضاً نقاط التقاء. وبين كل هذه الأشياء هناك حنين ورغبة وسؤال: لماذا الذاكرة تحتاج دوماً إلى من يُذكرها؟! عبير الفوزان تفتح صندوقاً بلا أسرار لتستدعي ذاكرة من رأوا بأمِّ أعينهم كيف للذكريات أن تتسرب من بين أصابع الزمن!
في زمن الذاكرة التكنولوجية بدءاً من الفلاش ميموري، والهاردسك، لم يُعد لصندوق الذكريات مكان في حياتنا اليومية، فالرسائل الورقية والصور المطبوعة على الورق، والورد المجفف المنسي بين صفحات كتاب، والمناديل المعطرة والمطرزة بأول الحروف من أسماء الأحبة، كل هذه التفاصيل الصغيرة اختفت، فاختفى معها صندوق الذكريات.

باختفاء صندوق الذكريات سقط آخر معقل من معاقل الرومانسية. فلم يعد البكاء على الأطلال وارداً في زمن التقنية الحديثة، ولم يعد اجترار ذكرى الأحبة مثيراً للشجن. لقد أصبح الأحبة حاضرين رغم غيابهم، فعلى قيد ضغطة زر نستدعيهم، بدءاً من الصور القديمة التي ننسخها مئات المرات ونحفظها في ذاكرة التقنية، إلى الأحبة الذين فرقت بيننا وبينهم الأقدار مكانياً، فبفضل الفيس بوك، أكبر متلصص وباحث، لم يعد الفراق موجعاً فبضغطة زر، أيضاً، نستدعيهم، ونستدعي أخبارهم وأخبار من تفصلنا بيننا وبينهم قارات.
لقد أصبح التواصل المتواتر، من خلال التقنية، يقتل لهفة الرؤية وشوق اللقاء، فلم يعد لشعراء الحب دور في حياة المحبين، ولم تعد قصائدهم مقتبسة في رسائل الأحبة، حتى الأفلام لم تعد قصص حب ملتهبة تنتهي بأمل أو ألم. ومن ثمَّ لم يعد الأثر ذا أهمية في زمن الذاكرة الحديدية، ولم يعد الأثر سراً!

مقتنيات للذكرى
يبدأ الحنين عند ملمس الأثر الكامن في تلك المقتنيات، مثل: كتاب مصاب بأنيميا الرفوف، رزمة رسائل ذابلة بحروف على ورق مُسطر مكتوبة بحبر باهت، زجاجة عطر قديم فرّت منه الرائحة، ألبوم صور بالأبيض والأسود، قصاصات كُتبت في مقهى، بطاقات بريدية، علبة شيكولاته حديدية تحولت إلى صندوق ذكريات، أو أشياء مختلفة تخص أناساً أحببناهم.

كثيرون يحتفظون بهذه المقتنيات لتستدعي التذكر، ويقتنصون لحظة من الزمن الحاضر للعودة إلى الزمن الجميل. لذا كان في حياة معظم الناس، قديماً، صندوق ذكريات، أو ما يسمى صندوق الأسرار الصغيرة والجميلة. يرثه، أحياناً، أبناؤهم فيفرطون به، وبالتفاصيل وبالذاكرة الجميلة.
لقد كانت الأسرار والمشاعر تُخبّأ في صناديق متعددة الأحجام والأشكال، فصناديق الذكريات عند سكان الجزيرة العربية والخليج تختلف عنها في بلاد الشام، فبينما كانت سحارة «ومندوسا»ً في بلاد الخليج، فهي في بلاد الشام صناديق من خشب الجوز والصدف، وبينهم من كانت علب الشيكولاته الحديدية والبديعة الشكل صندوقاً لذكرياته وأسراره. فقد كانوا يختارون أجمل الصناديق لتحفظ ذكرياتهم.

حراج بن قاسم.. سوق الذكريات
في الثمانينيات الميلادية كان يشعر عبد الله بمتعة لا تضاهيها متعة عندما يذهب إلى حراج بن قاسم الواقع في أقصى جنوب مدينة الرياض، ليبحث بين السلع المستعملة المعروضة عن مقتنيات قديمة من كتب أو تحف، أو صندوق ذكريات مليء بالرسائل أو الصور. أو طوابع بريدية قديمة وعملات متنوعة. كان البحث، كما يقول، ماتعاً، فغالباً ما يكون البائع جاهلاً بمحتويات السلعة التي يبيعها، ما يجعل المفاجأة مضاعفة، عندما يقلّب ما قد اشتراه.

ويبدو، كما يقول، أن مسرحية «إلا خمسة» التي عرضت عام 1963م من بطولة ماري منيب، وعادل خيري، كانت دافعاً لجعله يبحث في المقتنيات وبينها، فربما وجد بين دفتي كتاب قديم خريطة للكنز والثروة. في البداية كان هذا دافعه، لكن بعد المداومة اكتشف أن التنقيب في الذكريات كنز أثمن من الكنز المادي. فعندما يتصفح الكتب المستعملة، أو يقرأ ما كُتب على بعض قطع الأثاث كعبارات مؤرخة على باب خزانة، أو تعليقات خلف صور مجهولة في أماكن مجهولة، إضافة إلى المتعة، فإنه يكتشف أن الناس البسطاء أكثر صدقاً عندما يؤرخون الأحداث التي عايشوها. لذا كان سوق السلع المستعملة مكانه المفضل للتلصص على ذكريات الناس وأسرارهم.

الزئبق الأحمر.. مكمن الذكريات
انتشرت في السعودية في عام 2009م شائعة مفادها أن ماكينات الخياطة من علامة سينجر، المُصنعة في ألمانيا من عام 1879م وحتى 1900م تحتوي على مادة الزئبق الأحمر، وهي مادة غير معروفة، لكنها من الأهمية ما جعلت الماكينات القديمة والخردة مطلوبة بشكل مُلّح، وبأي سعر كان. فسارع الكثير من الناس في البحث بين مقتنيات الأمهات والجدات عن هذه الماكينة التي ستجلب الثراء.

وبدا الأمر غريباً حيث اكتشف عدد من الناس أنهم فرطوا في ذكرياتهم القديمة مقابل الجديد. وكم كانت خيبة بعضهم كبيرة عندما أصبح وجهاً لوجه مع حقيقة أنه لا يملك أيّ أثر من الماضي. ولقد ناقش المسلسل المحلي «طاش ما طاش» الذي يُعرض في رمضان هذه الظاهرة، ظاهرة التخلي عن القديم في زمن الماديات، وأن من يرتبط عاطفياً بالأثر هو الرابح في النهاية. لعل حلقة ذلك المسلسل التي بُنيت على شائعة الماكينات جعلت حتى الأكثر ماديةً يفكر ألف مرة قبل أن يبيع ذكرياته ومقتنيات أهله القديمة بثمن بخس.

الذكريات في 2011
تقول شاعرة فضلت عدم ذكر اسمها: كنت أجمع أشياء كثيرة، بدءاً من مفاتيح غرف الفنادق إلى فواتير بعض المقاهي التي جمعتني مع أشخاص مهمين، إلى كتب بطبعات أولى وقديمة. إلى رسائل كُتبت بخط اليد. جمعت هذه الأشياء إلى أن بدأت أشك في أنني مصابة بنوع من المرض النفسي. فلم أستطع أن أفرط في ورقة حتى ولو كانت قصاصة صغيرة. وبعد سنوات قليلة اكتشفت أنني محاطة بالذكريات أكثر مما أنا محاطة بحياتي الراهنة، لذا قررت التخلص من جميع أشيائي، وأحببت أن يكون هذا التخلص في جو احتفالي مرح، فقمت بعمل مزاد جمعت فيه صديقاتي. ومن المفارقة الغريبة أنني وجدت من يشتري ذكرياتي. كان مبلغاً جيداً يؤهلني لأن أشتري شيئاً من ذكريات الآخرين من المشاهير.
مزاد الذاكرة
تُعد بونهامس، وكريستز وسوذبي من أكبر دور المزادات العالمية التي تتاجر بالذاكرة، وتزايد على المقتنيات في مزادات عالمية، فتحصد سنوياً ملايين الدولارات، كوسيط بين البائع والمشتري، مقابل ملامح إنسانية للحياة تجلت في مقتنيات خاصة جاهد مُلاكها في الحفاظ عليها. إن لهذه المزادات روادها من كبار جامعي التحف والكتب العتيقة وكل ما هو مستعمل مرَّ على أشخاص بعينهم، أو أشخاص مجهولين اقتنوا أشياء ذات قيمة فنية. ويعد الزمن وطوله هو الفاصل في قيمة السلعة على منصة المزاد.

من الأشياء التي عُرضت في هذه المزادات ولها قيمة عاطفية كانت مجوهرات لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، ولعل أغلى قطعة بيعت في المزاد كانت عقداً نادراً، كما يقال، من اللؤلؤ، من عشرة صفوف من اللآلئ الهندية والفيروز، تزينه من الأمام حلية ذهبية على شكل طاووس.

ولقد فاق مبلغ هذا العقد ما توقعه الخبراء والمثمنون، حيث بيع العقد بمليون وثلاث مئة وثلاثة وثمانين ألف دولار أمريكي. الغريب أن عقد أم كلثوم في الستينيات الميلادية في دول الخليج كان هو الهدية الرائجة التي يقدمها العريس لعروسه، لكن أولئك اللواتي فرطن بعقودهن اللؤلؤية وذكرياتهن مقابل الجديد من ألماس وذهب أبيض كانت خسارتهن فادحة. تقول إحدى من حضرن في مزاد مجوهرات أم كلثوم الذي أقيم عام 2009م في دبي:«كنت أتذكر أمي في أواسط السبعينيات وهي ترتدي مثل هذه اللآلئ التي يزايد عليها المزايدون، الآن، وكنت أخجل منها، لأنها لا تواكب موضة الزمن»!

لماذا نفرط في الصندوق؟
هل لأننا لم يعد لدينا أسرار؟ أم لأن أسرارنا أكبر من أن تُحفظ في مجرد صندوق؟ ربما، سيكون متاحاً ليد وعين متلصصة. يبدو أننا أصبحنا أكثر حيطة من ذي قبل، فنحن محاطون بالأسرار والأرقام السرية، فهاتفك النقال برقم سري، وبريدك برقم سري، وحتى بعض الأبواب لا تفتح إلا بأرقام سرية. كما أن صورنا وأشياءنا الغالية نضعها في «فلاش ميموري» بحجم نصف الإصبع أو أقل، وننقلها معنا أينما ذهبنا!

«الصندوق موجود»، هكذا قالت مجموعة من طالبات جامعة الأمير سلطان بالرياض، وكل واحدة منهن تسل من حقيبتها أو ميدالية مفاتيحها أو من سلسال تعلقه في رقبتها: «فلاش ميموري». فهن لم يفرطن في الصندوق حتى ولو كنَّ قد فرطن في شكله الماضي. فأسرارهن تختبيء في هذا الفلاش الصغير الذي سيرثه أبناؤهن كما قالت إحداهن وهي تضحك.

أضف تعليق

التعليقات