قضية العدد

الإنترنت
عالم واحد.. عوالم متعددة

  • shutterstock_63665518
  • shutterstock_64594294
  • shutterstock_67041715
  • shutterstock_76719568
  • shutterstock_78332233

لا تحتاج «الأمراض» الاجتماعية سوى إلى بيئة ظل، حيث الرطوبة والانغلاق،
بينما يحتاج التواصل الاجتماعي الحميم إلى شاشة وقليل من الدفء،
كيف نخلق من مواقع التواصل الإلكتروني حقولاً مشرقة لا زوايا مظلمة؟
متعة اختيار المقرّبين مساحة إجبارية لإقصاء المبعدين. رحاب أبو زيد تنقلنا إلى عالم «الإنترنت» الواسع، وتكشف غرائب هذا العالم الافتراضي.

انهيار الأسوار الوهمية يثير تساؤلات عن طرح مفهوم آداب الإنترنت وضرورة الاهتمام بالحصانة وجرعات التطعيم

تنحي سلطة الأعراف والتقاليد أمام بريق الآيفون.. والبلاك بيري.. وسباق شركات الاتصالات في طرح أجهزة جديدة

بساطة متطلبات التواصل الإلكتروني من رداء منزلي وشعر منكوش لا يلغي الحذر من الرسائل الاقتحامية والممارسات الشاذة

يسجل التاريخ شهادة براعة للإنسان المعاصر في مقدرته الفائقة على التكيّف مع أبرز وسائل الاتصالات الحديثة، والتعامل معها بفطنة، ولا سيما أن العالم أجمع لم يتعرف على الشبكة العنكبوتية إلا منذ عقدين من الزمن فقط!
تعرّف «الإنترنت» تعريفاً مبسطاً ومختصراً، بأنها أكبر شبكة كمبيوتر في العالم، تتكون من آلاف الشبكات الصغيرة، إلا أن سرعة انتشارها، وسهولة ارتباط جميع أنواع الأجهزة بها، جعلتاها بوابة مفتوحة على مدار الساعة إلى عالم متشعب من المعلومات والبيانات حتى العلاقات. السؤال العام: ماذا يفعل الناس بـ«الإنترنت»؟ وكيف تمكنت من الاستحواذ على جزء كبير من اهتماماتهم وأوقاتهم؟

لا يقتصر دور «الإنترنت» اليوم على أنها مصدر معلومات «أرشيف» زاخر بِكَمٍّ هائل من الأبحاث والدراسات القيمة، بل يتجاوز ذلك إلى تأمين معظم الإصدارات الحديثة من كتب ومجلات وبرامج تعليمية، وحتى قنوات تلفزيونية، كل هذه المصادر للمعلومات تستطيع تصفحها بالكامل على الشاشة، فقط عليك أن توافق على التنازل عن الحميمية مع الورق لتعقد أواصرها مع شاشة الكمبيوتر.

المعلم التربوي والباحث الاجتماعي ممدوح السليماني يقول: في عالم التربية والتعليم لا تستطيع أن تكون محايداً، إما أن تواكب ما يجري في العالم من حولك وإما أن تتجاهله، وتدخل في كهف لا تخرج منه أبداً، كمعلم للمرحلة الثانوية، ينتمي طلابي إلى فئات وطبقات مختلفة في المنشأ والتفكير وأحياناً الثقافة، أن تعيش في مدينة، مثل جدة سوف يكون هذا الاختلاف طبيعياً لأنها مدينة «كوزموبولتية» منذ القدم.

ويضيف: أنا هنا ولست هنا! هذا بالضبط ما يشعر به الجيل الجديد من الأطفال والمراهقين، أنا بينكم وأعيش معكم، لكني لستُ مع أفكاركم ولا مشكلاتكم أحياناً، وليس بالضرورة أن يكون صديقي هو جاري القريب، ولا أن ألعب مع أصدقائي في الحي، لأني وبكل بساطة لي مجموعة تلائمني أكثر من الأصدقاء والألعاب على شبكة الإنترنت! صار لسان حال طلابي بكل وضوح: معلمي، أبي وأمي أنتم لا تستطيعون إخفاء شيء عني بعد الآن، فـ«الإنترنت» تخبرني بأي شيء أريده!! ويشير كمعلم وأب لا أستطيع إلا أن أكون صادقاً مع نفسي أولاً، ومع أبنائي وطلابي ثانياً، لأن أي محاولة كذب أو مراوغة لإخفاء معلومة قد تقوّض الثقة بيني وبينهم، وإذا ذهبت هذه الثقة فلا جدوى من عملي.

أما الكاتب والباحث التاريخي د.زيد الفضيل، فيرى أن التوسع في استخدام الشبكة العنكبوتية التي وصل مداها التقني إلى خدمات الهاتف النقال، شكل نقلة نوعية في طبيعة مجتمعاتنا العربية وخصائصها، ويمكننا الجزم بأن ملامح مجتمع جديد بدأت في التبلور، والأدهى أنه يجمع بين خصائص المجتمع المدني ومقوّماته، وخصائص المجتمع البدائي ومقوماته، إذ هو في تكوينه الحالي يقوم على أسس المجتمعات المتحضرة ومرتكزاتها في كثير من الجوانب المادية، لكنه في الجانب الوجداني قد أخذ في التراجع بشكل ملحوظ إلى قوالب تلك المجتمعات البدائية القائمة على حب العزلة والانكفاء على النفس، وهو أمر يمكن أن تكون له نتائج وخيمة مستقبلاً ليس على الفرد ذاته وحسب، بل على طبيعة هيكل مجتمعاتنا بوجه عام.
«الإنترنت» في قفص الأرقام
حين تشير معدلات انتشار الإنترنت إلى الارتفاع الملحوظ في عدد المستخدمين خلال السنوات الماضية من %5 في عام 2001م إلى %41 في نهاية عام 2010م، ومن مليون فقط عند إنشاء هيئة الاتصالات السعودية عام 2001م إلى 11.4 مليون مستخدم بنهاية عام 2010م، فلا بد أن تستبق توقعاتنا جميع النتائج المحتملة جرّاء هذه الزيادة الملحوظة في مدة قصيرة، مع الأخذ في الحسبان مضمون ما يتم البحث عنه ومحتواه أو تداوله في بحر المعلومات الشاسع.

تؤكد الأستاذة نوال السرّتي من «مركز الإحصائية السعودية» أن عدد مستخدمي الإنترنت في المملكة في ارتفاع مستمر وأن شبكة الإنترنت خلقت عالماً سحرياً، يتيح للإنسان أن يطلق العنان لأفكاره، وأن يكتسب خبرات جديدة وصداقات ومعلومات. وتشير السرتي إلى أن العالم الافتراضي عند بعض الناس يتقاطع مع العالم الواقعي، لدرجة يصعب التفريق بينهما، وهناك نسبة جيدة تفضل العالم الافتراضي. ومن وجهة نظري، فالمواقع الاجتماعية هي الأكثر استخداماً، لأنها فتحت مساحة للتواصل الاجتماعي وتقوية العلاقات. فهناك من يفضلون المواقع الاجتماعية لأنهم يجدون أجواء خاصة، ويستمتعون بالمواضيع المطروحة أو حسن الاستقبال. وفي نظرهم الخروج في العالم الواقعي واقامة العلاقات الاجتماعية يتطلبان مستلزمات مادية ومعنوية. أما في المواقع الاجتماعية على الإنترنت فأنت تكون في عملك أو بيتك ودون تكلف بملابس البيت، وتتواصل مع العالم.

الانزياح الافتراضي
كل الشواهد تشير إلى أننا نقبع بين عالمين، كلاهما حقيقي يؤثر فينا ونؤثر فيه، بدءاً من ابتسامة قد تتصاعد إلى قهقهة لافتة، بينما يحملق أحدهم في شاشة صمّاء وانتهاء بانقلابات خطيرة شكلت تحولات جذرية في تاريخ بلدان وشعوب انطلقت شرارتها من الصفحات الإلكترونية، فاجأت العالم بأسره أنها ليست سوى حقيقة ماثلة مجسدة في انعكاساتها على مسار قراراتنا اليومية، وجديّة علاقاتنا وحتى مزاجنا، والأهم من ذلك حتماً، خبراتنا الحياتية التي لم تعد تقاس اليوم بالشهادات، أو بعدد الكتب والموسوعات التي أضنانا البحث عنها تحت شعار «العلم نور» و«خير صديق في الزمان كتاب»!

كما أتاحت الشبكة العنكبوتية الاتصال والوصول لأكبر الأطباء وأشهرهم في العالم لعلاج مرض ما، أو الاستنارة برأي متخصص أثناء عملية جراحية جارية عبر ما يسمى الطب الاتصالي Telemedicine! فكيف يرفض بعضنا الاعتراف بوجود هذا العالم على أرض الواقع؟!

حول ضرورة تحويل البوصلة في النظرة إلى عالم الإنترنت، يروي المعلم والتربوي والباحث الاجتماعي ممدوح السليماني، الدور المفاجئ للاتصال بالعالم الخارجي أثناء أحد الأحداث الحالية: «في ظل التطورات الأخيرة التي حدثت في دول عربية وبسببها اكتشفنا أن الفرق بين الواقع الافتراضي والحقيقي قد ولى، وأن الافتراضي قد يصبح حقيقياً إذا توافرت له مقوّمات الحياة. ويضيف: أن الأفكار والصداقات والعلاقات الانسانية التي تنشأ من أحضان الواقع الافتراضي هي في الحقيقة جزء واقعي منا اكتسى شكلاً جديداً نحاول من خلاله أن نستكشف المجهول فينا وفي الآخر. التحدي الحقيقي لنا الآن، هو هل المحتوى العربي والإسلامي في «الإنترنت» يعبر عن حقيقتنا الإنسانية؟

علينا أن نثري هذا المحتوى بالمعلومات الصادقة والصحيحة حتى يشعر أبناؤنا بالأمان في خضم هذا السيل الضخم من الأفكار والمعلومات السهلة. وحتى نستطيع فهم أبنائنا يجب علينا الولوج إلى عوالمهم الجديدة لنتحاور معهم، ونزيد ثقتهم بأنفسهم ونطلق لهم الحرية المسؤولة التي تعينهم على فرز الجيد من الرديء في هذا العالم الكبير، لا بد أن نحاول دمج عوالمهم الصغيرة المختلفة في عالم واحد نعيش فيه معاً بكل اختلافاته.

طقوس شاذة تنتقل عبر الإنترنت
تطفو بعض السلوكيات أو المظاهر الخطرة على سطح مجتمعاتنا التي قد تتسم بالمتضعضعة لعدم توافر استعدادات كافية كجدار واقٍ لمواجهة أي موجات تتنافى وقيم الأمة وثوابتها، فحتى الاحتياطات الاحترازية التي تتخذها بعض الجهات المسؤولة في الحكومات العربية من البطء بحيث لا تواكب سرعة رياح التغيير الفكري، واختلاط الحابل بالنابل.

المستشار الأسري د.عبدالله العويرضي يصور المشهد قائلاً: «يتبين لنا أن مشكلات عدة نلقي بتبعات ظهورها على شبكة الإنترنت، ما هي إلا نتاج عدم وجود مبادرات أسرية ودعائم ثقافية أخلاقية رشيدة تصد عن البالغ والطفل ما قد تحمله الأجواء من جراثيم أو عدوى. ومن هنا نستنتج أن الأمراض الاجتماعية تتفاقم حدتها في بيئة رطبة ترحب بها وتخلق لها أجواءً تعزز مراحل نموّها!».

وفي استبانة عشوائية قامت بها معلمة لغة إنجليزية في مدينة أبها وزعتها على المعلمات تحذر وبشدة من دخول الطالبات في عمر المراهقة إلى بعض المواقع التي تنتج وتسوّق لخط أزياء خاص واكسسوارات غريبة، وأغان تخدش الحياء، وتعجّ بالمناظر غير اللائقة. تقوم هذه المواقع أيضاً بتنسيق اللقاءات والاجتماعات عبر الإنترنت للاحتفال بطقوس دينية غير سوية، كما يتم تبادل الرسائل والصور للمفاخرة ببشاعة قدراتهم على تعذيب أنفسهم بجز الندبات والجروح فوق أيديهم. ويرتبط منسوبوها بسمات شكلية ومعتقدات مضطربة لا تخالف منهجيتنا الفكرية والاجتماعية والدينية فحسب، بل تخالف الفطرة الإنسانية السويّة. إنها ظاهرة (إيمو Emo) المتمثلة في صبغ الوجوه بالطباشير الأبيض وتلوين العينين والشفاه بالأسود، وارتداء أي نوع من الملابس شريطة أن يكسوها السواد، والبقاء في الظلام ورفض فتح الستائر مطلقاً. تثير هذه الظاهرة ذكرى الأجواء الغامضة الشهيرة التي أحاطت بالقصر المهجور «بارون إمبان» الواقع في منطقة مصر الجديدة في القاهرة، عندما تسللت إليه جماعات من الشباب المصريين عام 1997م لإقامة حفلات موسيقية صاخبة وماجنة، وسميّت حينذاك بقضية «عبدة الشيطان».

عالم الشفافية والصداقات
يجمع عدد كبير على أن مواقع التواصل الاجتماعي لا يمكن احتسابها بأي حال من الأحوال بديلاً عن التجمع الأسري واللقاءات الأسبوعية. وتؤكد التربوية رنا محمد جمال: «أن لا غنى عن الاجتماع العائلي اليومي على صعيد الأسرة الصغيرة، والأسبوعي للأسر الكبيرة، لأنهما من أهم مقومات نجاح الأسرة وترابطها، ولكن لا مانع من استخدام التقنية بجميع أشكالها في زيادة التواصل بباقي أفراد العائلة ممن يعيشون في مدن أو دول أخرى»، وتضيف: «دائماً ما ألزم بناتي وأفراد المنزل بالالتزام بموعد اجتماعنا العائلي لأنه الأصدق والأكثر حميمية».

وعلى النقيض، ترى رئيس قسم العناية المركزة في مدينة الملك عبدالعزيز للشؤون الصحية في الحرس الوطني د.هالة العالم، أن الشبكة العنكبوتية عالم جديد يغري الجميع بالدخول إليه واستكشافه، لكن المشكلة أنها قد تجر المتصفح إلى الإدمان، وبالتالي تخلق جيلاً يوجد معك جسدياً، لكن قلبه وعقله خارج جدران الغرفة والمنزل والحي، مما يقود إلى الانعزالية.

ويعود د.زيد الفضيل لتأكيد أن الإنترنت وسيلة أولى لتكوين المعرفة، وقوة أي معرفة ومتانتها لا تكون إلا بالانسجام الذهني الحاصل، ولهذا كان حرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على أن تتم تربية الأبناء لسبع، وتأديبهم، أي تقويم سلوكهم لسبع، ومؤاخاتهم لسبع، أي أن يكون الوالدان قريبين ذهنياً من أبنائهما في السبع الأخيرة من مرحلة النشوء، حتى تتعمق العلاقة بينهما بالشكل الذي يعزز من متانة بناء الإنسان في مرحلته الأسرية الأولى. من هنا يمكن القول إن وسائل التقنية المتنوعة كـ«الفيسبوك» و«التويتر» و«الماسنجر» يمكن في الحد البسيط بحسب طبيعة استخدامها لدينا أن تشكل بوادر أولى لبناء صداقة، إذا تلامس الطرفان فيما بينهما قيماً متفقاً عليها، لكن السؤال الجوهري: هل يمكن أن تدوم هذه الصداقة؟ أم أنها قابلة للذوبان مع أول تغير؟ لعلي أميل إلى التصور الثاني، وأجزم بأن أي صداقة يمكن أن تنشأ عبر ذلك لن يمكنها الصمود طويلاً لكونها فاقدة لكيمياء الروح التي تنشأ عبر آليات التواصل الجسدي من سلام وابتسامة وملامح وجه ونسق بشري متكامل.

ويضيف د.زيد الفضيل: «يجب أن نعي أن ما يمكن أن يجذب الرعيل الأول في أي مجتمع، ليس بالضرورة أن يجذب من يليهم. ولهذا كانت فحوى حكمة الإمام علي بالغة حين قال: «علموا أولادكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم» أي علينا ألا نتصور بأن الأجيال اللاحقة ستكون على القدر نفسه من الاهتمام بما اهتمت به الأجيال الأولى. من هذا المنطلق فأن الاجتماع الأسري إن كان يمثل قدراً من الاهتمام لدى جيل الآباء في الوقت الحالي، فإن الأمر نفسه ليس مرغوباً عند من ألف الانغماس في عوالمه الغيبية المجهولة، وهو ما يمكن ملاحظته حالياً، حيث لم يعد غريباً أن تشاهد مجموعة مجتمعة بأجسامها لكنها مختلفة في طرق تفكيرها وذهنياتها، ولهذا تجد كثيراً منهم يلجأ إلى الاستفادة من تطور التقنية بالاجتماع الذهني مع من يماثله من مكانه الذي هو فيه عبر ممارسة «الشات» والمحادثة الغيبية. وفي تصوري أن المرء لا يلجأ إلى ذلك، ذكراً كان أم أنثى إلا بسبب فقدانه حاجاته النفسية والذهنية، أو نتيجة للإحساس بحالة التضارب النفسي المعاش بين واقع اجتماعي ذهني محافظ جداً يرفضه، وهدف يؤمله، فيه كثير من الحداثة والتحرر، يعمل على تخيله وتمنيه، ويسعى لأن يعيشه.

الانتماء للمفهوم وليس العُرف!
تراجع سيطرة الأعراف والتقاليد أمام جيوش من القناعات المغايرة التي تتفرع بين قويم ومِعْوج، بعضه في الأصل يعيد النفس إلى فطرتها الأولى، بعضها الآخر ينزع بها إلى ما وراء المألوف والمنطقي. كانت تحكمنا محاكم غير مرئية من الأحكام العرفية تضم مجموعة من البنود المتعارف عليها بين مجتمع ما، سواءً كان صغيراً أو كبيراً. فمثلاً لم يكن من اللائق أن يحضر الصغير مجلس الكبار، بل وكان الأهل يوبّخون أبناءهم لو وجدوهم منصتين باهتمام لحديث ما، في حين أن ابنك اليوم يتحدث مع عمه وخاله الأكبر من عمر أبيه بصراحة وبساطة في المواضيع كافة على الأرجح.

الدكتورة س. أ.، طبيبة معروفة متخصصة في مجال معقّد في أحد المستشفيات الكبرى في الرياض، فضّلت عدم ذكر اسمها الصريح، الأمر الذي قد يلمح إلى أن قرار مواجهة العالم بحقيقة ما عن قناعاتنا وأفكارنا أو طبيعتنا الخاصة، أمر لا يزال بعيد المنال! تقول: «تجربتي الخاصة تتلخص في أن تخصصي ومهنتي التي هي جنتي استحوذت عليّ بالكامل، حتى أصبحت كمن يرتدي ثوباً واحداً طوال أيام العام، لا يستطيع الفكاك منه حتى لا يلومه الناس! لقد سلّطت طبيعة عملي الضوء على جزء بسيط في شخصيتي.

وتضيف: عندما دخلت عالم الشبكة العنكبوتية باسمي وبصفتي الاعتبارية، دارت المناقشات والأحاديث في مجال واحد، هو مهنتي، فكان يتحتم عليّ ارتداء قناعي الرسمي حتى في «الفيسبوك»! عندها أخذت قراراً أن أقتحم الشبكة العنكبوتية باسم مستعار ودون تحديد لوصفي المهني وتجرأت بقبول إضافة كل من يبعث بطلب صداقة، فقط لأمثّل نفسي دون مجاملات، وأكون كما أحب أن أكون دون محاذير! اليوم بعد مرور ما يقارب السنة على تجربتي المثيرة، تعرفت على أشخاص في قمة الرقي، تبادلنا النصح والحوارات المفيدة، منها على مستوى خاص، ومعظمها على مستوى عام. مع مرور الوقت وجدت إنسانة جديدة بداخلي قد صقلت شخصيتها العلاقة بأصدقاء لا يقيّمونها من خلال مركزها أو حتى مرجعيتها الاجتماعية، لذا كانوا هم الأصدق في حكمهم على هواياتي ومهاراتي الكتابية، التي أشبعوها نقاشاً وتشجيعاً، ومن ثم، تطوير للذات.

ما تعرضت له خلال هذه التجربة، أصبح إيجابياً أكثر منه سلبياً، لأني وضعت قوانين كي لا تحيد النفس عن الصواب ويلحقها الضرر. بعد تنفيذ القرار، أخبرت عائلتي الصغيرة بتجربتي وأخفيت عنها اسمي المستعار. أناقش مع أختي تقدمي في التجربة وما يجدُّ عليها بصورة عامة فقط، فهي من يوقظ الرقيب في قلبي ويقويه. أخبر أصدقائي في الشبكة العنكبوتية بأنهم جزء من عائلتي الصغيرة. أترفع عن الاستمرار في مواضيع ساقطة، أو وضيعة، أو مثيرة لجدل لا نفع منه، لذا لا بد للشخص البالغ العاقل أن يخطو خطوات جريئة نحو تجربة الجديد.

الشباب والجيل الرقمي
هل صحيح توارت حرقة نار الفراق ونشوة اللقاء، إذا اتفقنا ضمنياً على أنه ليس هناك فراق فعلي ولا لقاء حميمي؟ راقب نفسك وأنت في سفر وترحال عن أهلك والأصدقاء، ستجد أن فرصة اللقاء بهم ربما زادت عبر الوسائل الإلكترونية أكثر مما لو كنت موجوداً معهم! علاوة على أنك لم تعد بحاجة إلى استراق النظر ومراقبة سلوكيات الناس أو عقارب الساعة خلال ساعات الانتظار في صالة مطار أو عيادة طبيب، كل ما عليك، هو أن تدعم جهاز هاتفك النقّال ببرامج تتيح لك التجوال بأعرق المكتبات، أو ممارسة أحدث الألعاب الإلكترونية بين يديك وبلمسة أصبع! واكتسب المحزون صديقاً رؤوماً، والمسافر رفيقاً أميناً.
التربوية نوال السرتي تعلق على فائدة أجهزة الهواتف النقّالة المدعمة بالإنترنت اللاسلكي بتجربتها كأم: «أصبح الجيل الجديد من الأطفال يسمى الجيل الرقمي، نظراً لأنه يستعمل النت منذ بدايات النمو، ويمثل الشباب الشريحة الكبرى من مرتادي الإنترنت, إلا أن الأطفال والمراهقين ما زالوا في عمر مبكر جداً على أن يُتركوا دون إشراف، لذلك تقع مسؤولية توجيه الجيل وإرشادهم على الأسرة أولاً، والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام ثانياً. لقد شجعت أبنائي على استخدام الإنترنت والبريد الإلكتروني ومواقع الشبكات الاجتماعية، ولكن تحت إشرافنا، أنا ووالدهم، كما قمنا بمشاركة أبنائنا في ألعابهم الإلكترونية، وتبادلنا الرسائل ومقاطع اليوتيوب، ما جعلنا مطلعين على أصدقائهم الجدد وأخبارهم الإلكترونية عن كثب وبانتظام.

المراقبة الذاتية والرسائل الاقتحامية
في استبانة وزعت في أحد مجمعات المرحلتين المتوسطة والثانوية، اتفقت المعلمات على وجود مخاوف حقيقية جرّاء تساهل الفتيات في نشر صورهن وبعض مقاطع الفيديو العائلية، دون الحيطة من أي نتائج مسيئة لكيانهن الأسري والاجتماعي. كما أبدين امتعاضهن من البريد العشوائي، أو ما يسمى الرسائل الاقتحامية التي تحمل كثيرًا دعايات لأفلام، وصور إباحية دون معرفة المصدر.

معلمة التقنية في المختبرات، ريم زاد خان تقول: «إنها حددت لابنتها وقت محدد لا يتجاوز ساعتين لاستخدام الإنترنت، على أن يكون الدخول عن طريق جهاز واحد تستعمله العائلة جميعها، وإدراج الواي فاي برقم سري على هذا الجهاز فقط، علاوة على أنها من الأساس ربت ابنتها على الانفتاح والصراحة، فباتت تحكي لها كل ما يرد إلى البريد وتخجل من مشاهدته. أما الفتاة أو الفتى الذي لا يخجل من المشاهدة، فهذا الموقف يجب ألاّ يشكل مأخذاً ضد الشبكة العنكبوتية بقدر ما يكشف لنا عن بعض الخلل التربوي الذي وقعت فيه أسرة صغيرة من حيث عدم تنشئة الأطفال على تجنب السوء والقفز خلف أسواره وبواباته المشرعة، عوضاً عن الفضول للولوج إليه. وهذا ما حمّل الوالدين عبئاً إضافياً تذمر بعضهم من ثقله، وهو إعادة النظر في أساليب التربية، ومن ثم إعادة التربية نفسها بشكل أو بآخر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه».

ويجيء في التقرير السنوي الصادر عن هيئة الاتصالات والمعلومات السعودية لعام 2010م، أن الرسائل الاقتحامية تمثل إزعاجاً وتهديداً لمستخدمي خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات على المستويين الوطني والعالمي، وأصبحت تشكل خطراً على مستقبل التعاملات الإلكترونية، وأمن المعلومات والمستهلكين، ومجتمعات الأعمال، فضلاً عما تشكله تلك الرسائل من انتهاك لخصوصية الأشخاص، وإمكانية استخدامها وعاءً للترويج للإباحية، والغش والتزييف والخداع والتضليل، ونقل الفيروسات والأشكال الأخرى من المحتويات المرفوضة. واستكمالاً للمراحل السابقة التي انتهت بإعداد المسودة الأولى لوثيقة الحلول المقترحة للحد من مشكلات الرسائل الاقتحامية، ووضع خطة العمل المقسمة إلى تسع مبادرات، تم إعداد مجموعة من المواد التوعوية ونشرها، وتدشين موقع البرنامج على شبكة الإنترنت http://www.spam.gov.sa. كما قامت الهيئة بإعداد ضوابط للحد من الرسائل الاقتحامية، تشتمل على ضوابط إرسال الرسائل الإلكترونية، وواجبات المرسل والمستقبل لتلك الرسائل وحقوقهما، ومهمات مقدمي الخدمات المرخص لهم ومسؤولياتهم في المملكة. وتم اعتماد تلك الضوابط وإصدارها بقرار من الهيئة. كما أعلنت مؤسسة التعليم في الإنترنت The Internet Education Foundation (IEF) عن تدشين موقع Net Safety Tips On The Go كأول موقع رقمي على مستوى العالم متخصص في توفير نصائح الأمن والسلامة وإرشاداتهما لمستخدمي الأجهزة النقّالة والهواتف الذكية، وذلك بدعم من شركتيّ جوجل وفيريزون لإطلاق مبادرة مشروع يلبي تطلعات العائلات المهتمة بشؤون الخصوصية والأمن في الأجهزة النقّالة من هواتف ذكية وألواح رقمية، سواءً كانت بحوزتهم أم بحوزة أبنائهم.

الحدث من جيبك.. إلى شاشات العالم
نظراً لأن ساعات الإنترنت لم تقتصر على الجلوس عند جهاز ثابت أو متحرك في المنزل، ولم تنحصرفي أوقات محددة، فإن الاتصال بالإنترنت من أي مكان مجهول غيّر مفهوم المصداقية والشفافية في الصحافة ووسائل الإعلام أيضاً، حيث مكّنت كل من بيده جهاز مزوّد بكاميرا وبداخله صحافي مغمور، أن يحقق سبقاً صحافياً، أو يحتفظ بدليل إخباري لا يمكن إنكاره! يقول التربوي ممدوح السليماني: «في كارثة سيول جدة الأولى… لم أتخيل نفسي أبداً أن ما كنت أفعله في تويتر والفيس بوك له تأثير كبير في لفت انتباه العالم إلى مدى فداحة الكارثة»!
ويضيف: عندما كنت أرسل تغريداتي لتويتر وأشرح وأتحدث عن مشاهداتي، ومشاعري في حدود 140 حرفاً، كان الناس يتساءلون ماذا يحدث بالضبط؟ هل فعلاً الكارثة ضخمة إلى هذا الحد؟ لا أدعي أو أنسب الفضل لنفسي، هناك كثر فعلوا مثلي، ولكن بالنسبة لي كانت تجربة جديدة تماماً.

الحصانة وجرعات التطعيم
تتم معالجة أكثر من 676901 طلب لحجب مواقع أو رفع الحجب عن أخرى في مركز أمن خدمات الإنترنت بإدارة أنظمة ترشيح البيانات في المملكة وتنظيمها ومراقبتها، كإحدى وسائل الحماية، وقد تكون الحقيقة القائلة بأن لا أحد يمتلك أن يتحكم في الإنترنت، مثيرة ظاهرياً، ولكنها ليست كذلك في الواقع. إن ترك الأمور تجري على علاّتها بشكل عام على المستوى العالمي، ودون إدارة، أنتجت في الحقيقة أساليب مختلفة لإدارة الإنترنت، حيث مارست بلدان كثر سلطات رقابية على شكل الإنترنت وأسلوبها وتكاليف إدخالها لمواطنيها، وبطرق مختلفة.

في حين لا تزال النظرة العربية لأخلاقيات الإنترنت عند الغرب والولايات المتحدة نظرة مرتابة، إلا أنهم سبقونا في اتخاذ احتياطات أمنية ضد المواقع المسيئة أخلاقياً، كما سبقونا في الاندماج بعالم التقنية واختراعاته واستخداماته. فما بين ما يطرحه موقع «أمريكا أون لاينAOL» الشهير من محركات بحث آمنة خاصة بالأجهزة العائلية التي يتاح استخدامها من قبل جميع أفراد العائلة، تمنع الوصول إلى مواقع إباحية مخلّة لحماية البالغين وليس الأطفال فحسب، إلى جانب تقديمهم لشريط أدوات آمن يمكن إضافته بأعلى صفحة برنامج تشغيل متصفح الإنترنت، كما دشنت أكبر مصدر معلومات عبر موقع Safety Clicks للعائلات الحريصة على صحة أبنائها الذهنية والنفسية، وعلى مستقبلهم الأخلاقي والمعلوماتي.

هولي هاوكينز Holy Hawkins التي تضطلع منذ خمسة عشر عاماً بمسؤولية تدشين أساليب وممارسات حماية للأطفال على الإنترنت ضمن إطار عملها كمديرة إدارة لوائح وأنظمة الحماية للأطفال في موقع أمريكا أون لاين، لاحظت من خلال أبحاثها أن الناس اليوم ينامون ساعتين أو ثلاث ساعات كل ليلة أقل مما كانوا يفعلون قبل عشر سنوات، وأن أكبر لعبة ضخمة في موقع ألعاب مثل WoW تجمع 13 مليون لاعب على شبكة «النت»، وأن عمليات المبيعات والتحويل النقدي لشراء البضائع عبر الإنترنت وصلت إلى 18 مليون دولار عام 2009م. ومن هنا تأتت من وجهة نظرها الحاجة إلى التذكير بأهمية الأمن في «النت» على نحو مطّرد بوساطة الإعلان عن يوم خاص للاحتفاء بالأمن على شبكة الإنترنت بدءاً من 2011م.

في الوقت الذي يحاول فيه العالم العربي الانعتاق من مفهوم «الخصوصية» والانفتاح على الجانب المعاكس من الكرة الأرضية، نجد أن العالم الغربي نفسه مطالب وحريص على ترسيخ مفهوم الخصوصية في أذهان الصغار والكبار على شبكة الإنترنت، لكن الفرق يكمن في نقطة محورية ألا وهي المبادرة! فلقد أدرك المجتمع الغربي، بمنظماته وجمعياته وأفراده، مكامن الخطر وبدأ جدياً في اتخاذ احتياطاته المضادة للتسرب أو الاقتحام.

بينما يظل المجتمع العربي أسير فوضى واضطراب اصطدامه الأول بعالم مكشوف لا سقف له.

ما يدعو للتفاؤل بعيداً عن الدور المنوط بالخدمات المؤسساتية المنظمة، أن وعياً جديداً بدأ بالتشكل فعلاً لدى الشباب العربي، وتحديداً عام 2011م على وجه الخصوص، بالطبع هذا الوعي لم ينبت فجأة، بل هو نتاج تأمل وتحليل حجم الضرر الذي تسببت فيه الفوضى والسلبية في مواجهة العولمة، لكننا سنظل بحاجة إلى فصول متغيرة ومراحل تدريجية حتى نجني الثمار.

أضف تعليق

التعليقات