بموازاة عمله جيولوجياً في التنقيب عن البترول، فرض الكاتب المصري محمد العشري نفسه على الساحة الأدبيةمنذ أن حاز في العام 2001م جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية للرواية.
آخر أعمال العشري الأدبية هي رواية “خيال ساخن” التي يتناولها بالعرض هنا محمد العمودي*، ويختار لنا بعض مقاطعها كعيِّنة معبِّرة عن خيال أدبي يحسب حسابه، رغم أداء لغوي وأسلوبي قد يكون مثيراً للجدل.
إضافة إلى الأحداث التي ترويها، تقدِّم رواية “خيال ساخن” إلى القارئ سلسلة من الأحاجي التي قد يستمتع البعض بالعمل على حلولها السهلة الممتنعة.
وهذه الرواية التي فازت بجائزة صالون إحسان عبدالقدوس فور صدورها قبل أشهر قليلة، هي من تأليف مهندس النفط المصري محمد العشري. أما عنوانها المراوغ فيزعم سخونة لا تحتويها الرواية في الواقع بقدر ما تقدِّم خليطاً من الحقيقة والخيال والفانتازيا، خليط لا يتضمَّن أية سخونة بقدر ما يحمل فلسفة تبعث على التأمل الهادئ والتفكير.
تقع الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم في بيروت بالتعاون مع منشورات الاختلاف في الجزائر ومكتبة مدبولي في القاهرة، في مئة وعشر صفحات مقسَّمة على أربعة فصول رئيسة، هي على التوالي: الأمل، الهيام، النافذة، والعناق. وتعيد الرواية تشكيل أساطير جديدة معتمدة على التراث الشرقي بشكل عام، والمصري بشكل خاص.
تبدأ الرواية بساهر، الرجل الذي رأى في طريقه مخلوقاً أسطورياً ( السلعوة) يرهب تاجراً وأسرته في عقر دارهم، فقام بقتله بشجاعة تركت رب الأسرة ومن ورائه أهل الدار مفتونين بالبطل، لدرجة قرر معها التاجر تكليف نحات ليخلِّد ذكراه ولينصب تمثاله وسط حديقة المنزل. ويعود ساهر إلى دياره مع الوعد بأن يزور التاجر من حينٍ لآخر، ولكنه
لا يعود. ورغم ذلك تبقى أسطورته حية بين من لمستهم شجاعته وأعادت لهم حياتهم حرة كما كانت. وتستمر الرواية مع ساهر، وابنه من بعده الذي أحبته جمانة ابنة التاجر.
يختار العشري في “خيال ساخن” أن يستكشف عدة صور للبطل في وجداننا الشعبي. البطل الأمين الذي يحارب قوى الشر ببسالة وينتصر عليهم مهما كلفه الأمر. ونحن إذ نرى البطل، لا نستطيع إلا أن نجرِّده من إنسانيته ونسبغ عليه هالة من نور تغشى أبصارنا عن عيوبه، ولهذا، نتلقى صدمة مرّة حينما ينزل البطل من عليائه ويتعرَّض لما يتعرض له الواحد منا، من إجلال الآخرين له أو إبخاسهم قدره، من التكريم أو عكسه، من التقبل أو الرفض. وعلى مدار الرواية نجد بصمات واضحة لشخصيات أثرت في الوعي الجمعي المصري، سواءً أكان ذكرها صريحاً أم تلميحاً، ابتداءً بأبي زيد الهلالي وانتهاءً بحسن الحلو مروِّض الأسود في السيرك. ولكن حالما نرى البطل وقد أصبح واحداً منا تبدأ الازدواجية.. فالبطل هو البطل، وتصرفه الأوحد الذي رفع قدره في أعيننا وخلق منه البطل لم يتغير ولم تشبه شائبة، ولكننا نحن اخترنا أن نراه بعين أخرى، حالما عاش بين ظهرانينا وأصبحت بطولته تلك سيفاً مسلطاً على عنقه.
في الرواية، يظل التاجر منتظراً عودة ساهر البطل لسنوات وسنوات. ويذكي انتظاره هذا عشقاً للرجل في قلب ابنته جمانة. ولكن ما إن يعود ابن البطل لتقع الفتاة في غرامه، حتى ينسى التاجر بطولة أبيه ويطالبه بأن يكون مجرد عريس غني آخر تعيش فتاته الأثيرة في كنف ثروته.
الولع بالبطل
إن الكاتب يستكشف في الوقت نفسه ولع المصريين بالبطل وانتظارهم للمنقذ ليحل مشكلاتهم التي يعانون منها ككل، ومشكلاتهم الشخصية على اختلافها. وكأنما ظهور المنقذ هذا هو الحل السحري الذي تشفى به القلوب من أسقامها.
نرى هذا جلياً في حديث العشري الخاطف الساحر عن البستاني العجوز الذي يبيت في حجرته وحيداً بعد وفاة زوجته منذ زمن وهجره ولده الذي سافر بعيداً وظن أن الرسائل المتقطعة تغني والده عن حضوره.. دموع البستاني لم يمسحها سوى حضور ساهر الذي قتل السلعوة وواسى البستاني العجوز في وحدته.
في هذه الرواية، يمس العشري وتراً حساساً لدى المصريين أيضاً في حديثه عن النيل ودوره في رسم حياة المصريين. فلولا وجود النيل، لانتشر الناس في الصحراء الواسعة بدلاً من تركها ينهش فيها الجفاف والخلاء من كل جانب، وربما لتغيرت طبائعهم ليتخلوا عما هم عليه الآن من قبول بالأمر الواقع وانتظار من يقوم بالتغيير بدلاً منهم.
وبين هاتين الرؤيتين، يطرز الراوي حواف روايته بتساؤلات صامتة حول البطل وماهيته. هل الابن الذي لم يذكر اسمه في الرواية هو امتداد لبطولة الأب ساهر؟ أم أنه هو البطل الحقيقي وساهر هو بداية تكوينه؟ هل البطولة عمل يعتمد على المزاج والصدفة والاستجابة التلقائية لحدث ما كما حدث مع ساهر، أم هو رحلة مقصودة مليئة بالهمة والعزم عن الإجابة عن أسئلة فقدت إجاباتها كما حدث مع الابن؟
بين المتغير والثابت
بين المتغير الممثل في الأب وابنه، وقلقهما المستمر رغم تباين أسبابه، والثابت المتمثل في حب جمانة البريء الخالص للابن والأرض التي تحمل الجميع على صدرها الرحب، يجد القارئ لخيال العشري الساخن نفسه مطالباً بوضع تصنيف ما للأحداث التي تمر عليه، ولهذا قد لا يجد القارئ الباحث عن التسلية الصرفة ضالته في هذه الرواية، بينما يقدر القارئ الباحث والناقد هذه التجربة في سياق أعمال العشري ويثمنها.
محمد العشري في سطور
روائي وكاتب مصري من مواليد نوفمبر 1967م. يعمل جيولوجياً في مجال البحث والتنقيب عن البترول. صدرت له مجموعة من الروايات منها “غادة الأساطير الحالمة”، و”نبع الذهب”، و”تفاحة الصحراء”، و”هالة النور”.
حصل على جوائز عديدة من بينها جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية في الرواية لعام 2001م. وجائزة صالون إحسان عبدالقدوس لهذا العام على آخر أعماله “خيال ساخن”.
مقتطفات
الأمل..
الفصل الأول من الرواية
في حديقة البيت، رأيت كتلة من شجرة متحجرة، باقية من الأزمنة الجيولوجية البعيدة، وتقلباتها التي رسَّبت محاليل الرمال المنصهرة في خلايا المادة الحية، تاركة بقايا الكائنات العملاقة، كحفريات متناثرة تدل على الحياة القديمة. كتلة صخرية مغبرة، تحتفظ بتفاصيل الحياة النباتية، تبدو كشجرة لا ينقصها إلا الماء، عثر عليها تاجر الغلال، في رحلة له في الصحراء، ساعده رفيقاه البدويان على وضعها في صندوق عربته، زرعها بين الحشائش في الممر الأمامي بحديقة بيته، ذي الأشجار الضخمة، الواقفة في شموخ على الجانبين. من آنٍ لآخر، يقف أمامها مفكراً، يمرر بصمة سبابته على عروقها الحادة، فتلين تحت لمسته. يعيد إليها الذكرى وهو يستشعر الحياة التي تركتها، وحولت أخضرها إلى جفاف وتحجر.
فهناك في الزمن البعيد حين بدت محاولات الهواء لتحريك أغصانها وفروعها مستحيلة، توارت في باطن الأرض وانطمرت إلى أن تغيرت الدنيا ومن عليها. أزاحت أعاصير الرمال التي تغطيها، من جديد أطلّت على المكان الذي ولدت فيه، لم تجد غير الفراغ يحيط بها، والشمس تلهبها بنارها، حتى وجدها ذلك التاجر في مكان ليس لها. فلا طيور تحط على رأسها، لا أغصان بأوراق خضراء ملتصقة بها، لا حيوانات تتجول في حضورها، ولا حشرات تتسلق ساقها. نقلها التاجر إلى بيته، بين أبناء جيل آخر من الأشجار الحية، وأحفاد تنمو تحت ظلها، على العشب الأخضر الندي، دبّت الروح من جديد في لحائها، وتسربت إلى لُبِّها المحفوظ في تابوت صخري.
وفي ليل معتم، هرب فيه القمر من مكانه، سُمعَ صوت يقترب منها، شاهد آخرون من سكان الحي حيواناً غريباً يقفز في الممر، ذا أرجل رفيعة، وجسم نحيل، يحمل فريسة تئن بين أنيابه، يعدو تجاه الصخرة، متخطياً البوابة الحديدية المفتوحة. أتى بها ليأكلها فوق الصخرة في ذهول ممن يراه. أصبحت الصخرة مرقــــــده، انحصرت دنيته في نباتات الحديقة من حوله.
الكسل والتفكير العميق في أمر ما يشغل ذهن ذلك الحيوان، جعلاه يكتفي بأن ينشب مخالبه بين الحشائش ليندفع الماء إليه. يشرب ويمدد رقبته أمامه، دون مبالاة بالرعب الواقع في قلوب أصحاب البيت المحبوسين في داخله.
بعد أيام، نسى اقتناص الفرائس، استوطن عندهم، اكتفى بأكل الصفادع، والفئران، والحيوانات التي تضل طريقها وتقع بين قدميه، كما هجر المحبوسون في رعبهم الدنيا، وانكمشوا داخل الجدران. بات عليهم أن يبحثوا عن وسيلة تخلصهم ممن قطع عليهم الطريق.
***
بينما الحال هكذا، مَرَّ ساهر من أمام البيت، ظن أن الحيوان مُربّى لحراسة سكان البيت، أو أن سيركاً ما على وشك أن يبدأ عروضه. دفعه الفضول إلى الوقوف طويلاً، مرتكناً بكوعيه على حافة السور. غازل مبتسماً قوة الحيوان النائمة في استسلام ولا مبالاة له، أتى بحركات عشوائية في الهواء، وأصوات مختلفة شكَّلها بلسانه وشفتيه، وجَسّمّها بيديه.
بدأت الحقيقة الغائبة تتكشف أمامه، ظهرت خطوطها الأولى في الأيدي الممتدة إليه من النافذة العلوية، ورؤيته وجه البنت الصغيرة التي تتمسح بالزجاج، وهي محمولة على يد امرأة مذعورة، تلمّ لها شعرها الأسود الطويل بيدها الحرة.
تأكد أن الحيوان الغريب، تقترب هيئته من السلعوة التي سمع عنها، ولم تقع عيناه عليها من قبل، يُرهب أهل البيت، وأنهم في انتظار من ينجدهم، ويدفع عنهم أنياب الافتراس، حين أتاه صوت واهن من الغرفة الملاصقة للبوابة الحديدية التي يقف أمامها. وقف ينظر في عينيه، طالت وقفته، لاحظ أنه لا يبرح الصخرة، ولا ينام، دائم الترقب والحذر، انشغل به وأصابعه تعبث بشعر ذقنه النابتة، التي لم يحلقها منذ يومين، قرر أن يدخل معه في عراك. فها هي فرصته في أن يعجن فعله بدهائه، أن يرتدي قلادة الشجاعة على صدره، أن يثبت لزوجته أنه لم يكن خائباً في سعيه وراء الدور المناسب له في الحياة، وأن كرهه وظيفته الرتيبة في الجهاز الحكومي، من أجل أن يجد ذاته المنطلقة، لم يكن مجرد خيال، أو وهم سيطر عليه. فقد كانت لديه رغبة في أن يعمل مدرباً للأسود والنمور في سيرك المدينة، لكنه لم يجد الفرصة المناسبة. وعناد أبيه معه جعله يمتثل له، ينتظم في عمل روتيني، يستهلك منه النهار بلا فعل يقنعه بجدوى ما يفعل.
***
مطوحاً رأسه يميناً وشمالاً، عاصراً تفكيره، يستجدي فكرة يبدأ منها، دلف من البوابة، ومنها إلى الغرفة الصغيرة، وجد فأساً في ركنها، رأى رجلاً هرماً متكوماً في رعب، سأله وهو يخفف من خوفه:
– ماذا بك يا شيخ؟!
– السلعوة تحبسني هنا.
جلس إلى جانبه، بدأ يشد أطراف الحديث في الاتجاه الذي يريده، باعثاً الطمأنينة في قلبه. أراد أن يعرف كل التفاصيل من الوحش الراقد في حديقة بيت على أطراف المدينة، تاركاً مجاهل الجبل خاوية منه. استمع إليه وهو يحاول أن يتماسك، مشيراً بيديه المرتعشتين تجاه الحديقة.
***
قَدّرَ المسافة من الحجرة إلى الصخرة، اختمرت في رأسه خطة، أمسك الفأس بقبضته، وبدأ في التنفيذ.
***
أصحاب البيت في الداخل لم يتوصلوا إلى طريقة للخلاص، وكلما مر الوقت بدوا مهمومين ومشلولين عن إمساك شيء ينجدهم، اتجهت قلوبهم إلى السماء وهم يسترجعون في ذاكرتهم ما اقترفوا من أفعال، ندموا على الأشياء التافهة التي فعلوها ويفعلها جميع الناس، دون أن تدرج في قاموس الإثم، بدت في ضمائرهم شديدة الإيلام.
استغرقوا في ذلك وقتاً طويلاً، أخرجهم فجأة من موتهم صوت عراك شديد في الحديقة، اقتربوا من النوافذ، نظروا باندهاش وصياح.
***
وجدوا رجلاً قوي البنية، يصرع السلعوة فوق الصخرة ممسكاً بفكيها، أبعدهما عن بعضهما، جذبهما في اتجاهين مختلفين بقوة كبيرة، جعلت الحيوان يقور ويرفع صوته مزمجراً.
أخذا يتقلبان فوق بعضهما. في النهاية, استطاع الرجل أن يمزقه إلى نصفين حيين، وضعهما تحت قدميه، وضغط بشدة.
مشهد قوي جعلهم يفغرون أفواههم، وروح الحيوان اللاهثة تئن متألمة، تصعد من اللحم الحي الملقى فوق الحشائش.
خرجوا إليه مندفعين، أدخلوه إلى البيت وهم يتعجبون من قوته، ومن عراكه مع حيوان كاسر لا يُقدر عليه. حاصروه بالأسئلة والفرح يحركهم، ويضخ الحياة من جديد في أوصالهم:
.. كيف وصلت إلى السلعوة؟
.. ألم تخف منها؟
.. كيف واجهتها؟
.. كيف تمكنت منها بتلك السرعة؟
.. لم واجهت الموت لأجلنا؟
ظل في صمته، تحت حصار أسئلتهم ودهشتهم، محاولاً استيعاب ما فعله..