ديوان اليوم

الشاعر محمد علي شمس الدين

  • 75a

يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.

ضيف العدد
الشاعر محمد علي شمس الدين
شاعر لبناني من مواليد 1942م في الجنوب اللبناني. صدرت له 12 مجموعة شعرية كان أولها “قصائد مهدية إلى حبيبتي آسية” وآخرها “الغيوم التي في الضواحي”. ترجم شعره إلى أكثر من لغة أجنبية منها الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

ما كان أكثرها لنا وأقلها
قال الجاحظ: “الشعر ديوان العرب”. وإذا كانت الرواية في العصور الحديثة، قد تقاسمت مع الشعر هذا الديوان، فإن الشعر بقي مخزن حكمتهم وفضاء خيالهم، وصورةً من أجمل صُوَر تاريخهم وصيرورتهم في الوجود.
إن اختيار أزاهر متنوّعة من بستان الأمس الشعري، لا يدل عليه إلا بمقدار ما تدل باقة من الزهور على حديقة. وهي مختارات تدلّ على ذائقة شعرية، قد تلتقي أو لا تلتقي مع ذائقات شعريّة أخرى.

حين يتزاحم الجَمَال في ديوان الشعر العربي، وتتسابق قصائد الشعراء في إظهار ما خفي من محاسنها، يصير لزاماً علينا أن نختار منها المقاطع الأجمل، ذلك أن المختارات تفترض انتخاب بيت القصيد من كل قصيدة (كما سمته العرب)، أو (البيت- الملك)، على غرار “الكلمة- الملكة” بتعبير سعيد عقل. وهو اختيار صعب، ويحمِّلنا مسؤولية نقديّة، سوف نحملها على كل حال.
****
“عُلّقتُها عَرَضاً وعُلّقت رَجُلا
غيري وعُلّق أخرى غيرها الرَجُلُ”
هذا البيت هو للشاعر الجاهلي أعشى قيس،وهو من قصيدة له يبدأها بالغزل ومطلعها:
“ودّعْ هُريرةَ إنّ الركب مرتحلُ
وهل تطيق وداعاً أيها الرجُلُ؟”
ويكشف البيت المختار، عن نسبيّة الحب، وعلاقاته الملتبسة، فعلى المسرح، وفي بيت واحد، رجل (هوالشاعر) يحب امرأة تعلقت برجل آخر، هو بدوره تعلَّق بامرأة أخرى سواها.. وهكذا… إنه بيت شعر مسرحي شكسبيري بامتياز، كتبه شاعر جاهلي، في زمن مبكّر، وكشف من خلاله عن فهم عميق ودرامي لعلاقات الحب المتنوّعة العجيبة.. وهذه التعارضات يؤكدها الأعشى في بيت آخر من القصيدة نفسها فيقول:
“فكلّنا مغرَمٌ يهذي بصاحبه
ناءٍ ودانٍ ومخبول ومختَبلُ”
****
“أوقِدْ فإن الليلَ ليلٌ قرُّ
والريحُ يا مُوقِدُ ريحٌ صَرُّ
عسى يرى نارَكَ من يَمُرُّ
إنْ جَلَبَتْ ضيفاً فأنت حُرُّ”
هذان البيتان، من جيِّد شعر حاتم الطائي. كان من أهل نجد وزار الشام، وهو من أجواد العرب، بل أجودهم على الإطلاق، والأخبار المرويَّة عن جوده والتي روى الجاحظ منها حكايات غريبة، تضع الشاعر وأخباره وأشعاره في دائرة الأساطير.. والبيتان المذكوران يكشفان عن ظرف صحراوي في ليل بارد وريح صرصر، والتائهُ في الصحراء، يموت إذا لم يقصد النار التي يأمر حاتم عبده بإيقادها.. فإن جلبت ضيفاً فأنت حُرّ.
إن الصيغة المحكمة لهذين البيتين، تنطوي على معنى إنساني مبكر، لشاعر هو كنبع الماء في صحراء قاحلة.
****
“يقولون لا تبعُدْ وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا؟”
هذا البيت هو من قصيدة للشاعر الإسلامي مالك ابن الريب، قالها في رثاء نفسه، بعد أن لسعته أفعى وهو في خراسان، فاستشعر الموت فقال قصيدة يائية مفعمة بالحزن أكسبته شهرة بعد موته، وسلَّطت الضوء على مأساته. وقد غدت القصيدة وصاحبها، من أهمّ أقنعة الشعر الحديث، فكتب الشاعر العراقي الراحل يوسف الصائغ، تأسيساً عليها، قصيدة من أجمل قصائد الشعر الحديث هي “اعترافات مالك بن الريب”.
****
“إنّ التي زعمت فؤادك ملّها
خُلِقَتْ هواكَ كما خُلِقْتَ هوى لها
حَجَبَتْ تحيتها فقلتُ لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلّها”
إنهما بيتان في الغزل لابن أذينة (130/747) مطبوعان (أي صادران عن الطبع وليس الصفة) ينسابان كجدول هادئ.. وهما موحيان، برغم هدوء الوزن وانسياب القافية، بأكثر من صورة، وأكثر من حال ومعنى. وابن أذينة شاعر مقلّ، والبيتان المذكوران من أجود قليله في الشعر.
****
“قوم إذا استنبح الأضياف كلبهُم
قالوا لأمهم بولي على النار”
هذا البيت هو أشهر بيت قاله الشاعر الأموي الأخطل، في هجاء قوم جرير. والبيت مشحون بمعنى هجائي فذّ، ومصحوب بصورة تذكارية ثوريّة، لا تضاهيها سوى أبيات المتنبي في هجاء كافور.
****
“وما كان ذلك مدحاً له
ولكنه كان هجو الورى”
هذا البيت لأبي الطيّب المتنبي، قاله في هجاء كافور الإخشيدي. ويظهر سلطة الشاعر على القول وضده، بل تسلّطه على المعنى وتقليبه ظهراً لبطن، من خلال المعادلة العجيبة التالية: “مديح كافور = هجاء الناس”.
والمتنبي على كل حال، هو من أهم أصحاب سلطان الشعر في التاريخ. كان يطلبُ مُلْكاً ولكنّ ملكه كان في كلماته.
****
“نحن قوم مِلْجِنِّ في زيّ ناسٍ
فوق طيرٍ لها شخوص الجمالِ”
وهذا البيت هو للمتنبي أيضاً.. وهو بيت يكاد يكون مغموراً في شعر أبي الطيّب، لأنه مؤسس على الصورة الغرائبية، فهو بيت صُوَري، في حين أن شعر المتنبي حكمي ويستند إلى اللغة والمعنى. المتنبي يصف من خلاله نفسه وأصحابه أثناء سيرهم ليلاً في الصحراء…إن التجوّز اللغوي فيه في استعمال الشاعر لكلمة “مِلْجّن” داغماً حرف الجرّ “من” بكلمة “الجنّ”، ليس وحده ما يلفت الانتباه في هذا البيت، بل ما يلفت الانتباه فيه تلك الصورة الغرائبية العجائبية لقومٍ من الجنّ في زي ناس، يركبون طيراً لها شخوص الجمال.
****
“إنّ العيون التي في طرفها حَوَر
قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا
يصرعْنَ ذا اللبّ حتّى لاِحراك به
وهنّ أضعف خلق الله إنسانا”
إنهما بيتان في الغزل لجرير. وجرير، على ما اتصف به من سلاطة اللسان في الهجاء، وقسوة الطبع، كتب غزلاً رقيقاً هو من أجمل الغزل العربي…في هذين البيتين تلك المفارقة القائمة في قوّة الضعف، وتلك القدرة التي لا تقاوم، الكائنة في الجوارح الجميلة للنساء “العيون التي في طرفها حَوَر”.
****
“كأننا لم نَبِتْ والوصلُ ثالثنا
والسعد قد غصّ من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا
حتى يكاد لسان الصبح يفشينا”
في هذين البيتين، من قصيدة يخاطب فيها الشاعر الأندلسي ابن زيدون حبيبته ولاَّدة بنت المستكفي، معنى من غبطة الحب، وجمال الوصال، بين اثنين ثالثهما الوصل، وكأنهما سّران يكتمهما “خاطر الظلماء”، ويفشيهما لسان الصبح… وهما من الشعر السعيد في الحب والوصال، على غير ما نعرفه من شعر العذاب في الحبّ، واللوعة والفراق، على غرار ما كان عليه قيس وجميل وسائر العشّاق العذريني المعاميد.
****
“يا من جَحَدَتْ عيناه دمي
وعلى خديه تورّدُهُ
خدّاكَ قد اعترفا بدمي
فعلامَ جفونُكَ تجحده؟”
إنهما بيتان من قصيدة أبي الحسن الحصري القيرواني الشهيرة، ومطلعها:
“يا ليلُ الصَبُّ متى غدُهُ
أقيامُ الساعة موعدُهُ؟”
وهذه القصيدة هي من أجمل قصائد الحبّ في الشعر العربي وأرقّها، وألصقها بالذاكرة والوجدان، نظراً لرشاقة الوزن، وإحكام المعنى، وانهمار الأبيات الشعرية انهماراً ناعماً كأمطار الربيع.
****
“خليليّ فيما عشتما هل رأيتما
قتيلاً بكى من حبّ قاتله قبلي؟”
هذا البيت هو من أشهر أبيات الشاعر العذري. جميل بن معمّر وأجملها، قاله من قصيدة في حبّ صاحبته بثينة. وسر جمال البيت المفارقة التي انطوى عليها، بتبادل أدوار البكاء بين القاتل والقتيل.والموت (القتل) هنا في الحب وليس الحرب.. أما تبادل الأدوار فمن أجمل مفارقات الشعر.
****
“لم تزل ليلى بعيني طفلةً
لم تزدْ عن أمس إلا إصبعاً”
إنه بيت من قصيدة لأحمد شوقي على لسان قيس، في مسرحيته المعروفة “مجنون ليلى”. وجمال البيت قائم على توقف الزمن في عيني العاشق.. قيس مشى به الزمان، كبر وهرم وشاب، أما ليلى فبقيت طفلة… هذا هو سر جنون قيس.

أضف تعليق

التعليقات