حياتنا اليوم

كريس لانجان
أذكى من أينشتاين.. ولكن!

  • 64a

لا تقتصر مكانة كريستوفر لانجان على كونه أذكى رجل حي في يومنا الحاضر، تمكَّن بعصاميته من شق طريقه بين صفوف البؤساء إلى صفوف العلماء. إذ إن سيرته تثير شتَّى أنواع الأسئلة حول حدود الاتكال على النبوغ، وتكلفة عيش حياة مزدوجة ذات وجهين لا علاقة لهما ببعضهما. هاني صالح يجمع هذه الأسئلة في ختام عرضه لأبرز الملامح العامة في صورة هذا الرجل.

قاسى كريستوفر لانجان الكثير منذ صغره, ولم يستطع إكمال دراسته الجامعية؛ فمارس جميع الأعمال التي يمارسها أبناء الطبقة الفقيرة. وبينما كان يمارس عمله كبواب لأحد الملاهي في لونج آيلاند، عرفت الشهرة طريقها إلى بابه صدفة. وقدَّمه الإعلام الأمريكي كأذكى رجل في أمريكا, ليبدأ بعد ذلك في إظهار إنجازاته للعلن، إذ طوَّر نظرية خاصة به حول العلاقة بين العقل والواقع، سماها “النموذج النظري الإدراكي للكون”, بالإضافة إلى كتبه ومقالاته العلمية التي يمكن للمتخصص وغير المتخصص قراءتها والاستفادة منها.

طلاقة قبل الأوان
ولد كريستوفر ميشيل لانجان بسان فرانسيسكو عام 1957م, وقضى معظم سنوات طفولته في مونتانا. توفي والده أو اختفى قبل أن يبصر هو النور. أما والدته فقد كانت ابنة أحد تجار الشحن الأغنياء؛ ولكن عائلتها قاطعتها في مرحلة مبكرة من حياتها.

بدأت علامات النبوغ تظهر مبكراً على كريس، إذ بدأ التحدث بطلاقة وعمره لم يتجاوز الستة أشهر، وعلَّم نفسه القراءة قبل أن يبلغ الرابعة من العمر, وكان دائماً ما يسبق أقرانه بسنة أو سنتين في المدرسة رغم الظروف القاسية المحيطة به.

حياة مزدوجة!
نشأ لانجان في فقر مدقع، وذاق الإهانة والضرب على يد زوج والدته منذ أن كان في السادسة. وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، قرر التمرد على ضعفه. فبدأ بالتدرب على رفع الأثقال حتى تحرر من قبضة زوج والدته واستطاع أن يوقفه عند حده ويرميه خارج المنزل مهدداً إياه إن فكر في العودة. تابع لانجان دراسته, وقضى السنوات الأخيرة من دراسته الثانوية يتعلم بشكل مستقل الرياضيات المتقدمة، الفيزياء، الفلسفة، اللغة اللاتينية واليونانية. وبعد تخرجه من المرحلة الثانوية؛ تقدَّم إلى امتحان قبول الجامعات الأمريكية SAT, وحصل على النتيجة النهائية فيه, ثم قدَّم أوراقه إلى كلية ريد وبعدها إلى جامعة ولاية مونتانا، ولكنه واجه صعوبات مالية ومشكلات في المواصلات؛ إضافة إلى اعتقاده الجازم بأنه يستطيع أن يعطي أساتذته أكثر بكثير مما يمكن لهم أن يعطوه. لذا قرر ترك الجامعة، وبدأ في الانتقال من عمل يدوي إلى عمل آخر في سلسلة من الأعمال الشاقة، فما إن وصل إلى الخامسة والأربعين من العمر حتى كان قد عمل كعامل بناء، وراعي بقر، ورجل إطفاء لحرائق الغابات، وعامل في مزرعة، وأخيراً استقر في عمله كبواب لأحد الملاهي لأكثر من عشرين سنة.

يقول لانجان عن هذه الفترة من حياته إنها اتسمت باستراتيجية يسميها هو “استراتيجية الحياة الثنائية المزدوجة”، فمن ناحية، هو رجل عادي أو أقل، يعمل في مهنة يشغلها أبناء الطبقة الفقيرة الكادحة ممن لم تيسر لهم ظروفهم القدرة على الحصول على تعليم أفضل، وهو هنا يتعامل مع الآخرين بما يفهموه ويحبوه، ويشاركهم اهتماماتهم بصدق وواقعية، ولكنه ما إن ينتهي من عمله ويعود إلى المنزل، حتى يخلع قميص العامل ويلبس ثوب العالم, فينعزل عن العالم في محاولات لتطوير نموذجه النظري الإدراكي للكون, أو يعكف على حل المعادلات التي خطرت له في يومه ذاك.

أذكى من أينشتاين..
في العام 1999م نشرت مجلة الإيسكواير الأمريكية في أحد أعدادها موضوعاً عن الأفراد أصحاب نسب الذكاء المتفوقة، وعرَّفت لانجان للقراء بأنه “أذكى رجل في أمريكا”.

غيَّر هذا المقال حياة البواب الذي يمارس رفع الأثقال كهواية جنباً إلى جنب مع هوايته الأخرى ألا وهي دراسة تصميم الكون. فقد أثار فضولاً متعطشاً من الجمهور لمعرفة المزيد, فقام الدكتور روبرت نوفللي -عالم النفس المعروف- في البرنامج الشهير 20/20 باختبار ذكاء لانجان، وقال التقرير الذي عرضه البرنامج إن نوفللي وقف مذهولاً أمام نتائج اختبار لانجان التي لم يرَ مثلها خلال ربع قرن عمل فيه في هذا الحقل, كانت نتيجة الاختبار 195 نقطة، وإذا عرفنا أن من هو على حدود الذكاء يصل ذكاؤه إلى 65 نقطة، وأن الشخص العادي يصل ذكاؤه إلى 100، فبحسبة رياضية بسيطة ندرك أن لانجان هو أكثر ذكاءً من الشخص العادي بنسبة %300، وأن درجة ذكائه -كما يقال- أعلى من درجة ذكاء أينشتاين نفسه.

تدريب المتفوقين على
المزيد من التفوق
بعد مشاركة لانجان في برنامج 20/20 واعتباره أذكى رجل في أمريكا؛ انتقل الاهتمام به إلى المجلات العلمية وأكثرها رصانة مثل “بوبلار ساينس”، “ذا تايمز”، و”نيوزداي”.. بالإضافة إلى سلسلة طويلة من المقابلات التلفزيونية والإذاعية التي تطالب بمعرفة أكثر حول العبقري المتنكر في ثياب العمال, شارك لانجان في كتابة أعمدة يجيب فيها عن الأسئلة العلمية الموجهة إلى الصحف مثل “نيويورك نيوزداي” وغيرها. ثم أسس في العام 1999م تعاونه زوجته حينا لوساسو التي تعمل كطبيبة علم نفس عصبي، مؤسسة غير ربحية سمياها مؤسسة “ميجا”، لخلق وتطبيق برامج تساعد في نمو وتطوير المتفوقين عقلياً وأفكارهم.

وبالإضافة إلى كتاباته التي خص بها المؤسسة، فقد قاد لانجان مجموعة من النقاشات حول نظريته “نظرية النموذج النظري الإدراكي للكون” والتي يشير إليها باختصار CTMU-. كما ألَّف في العام 2001م كتاباً بعنوان “تصميمٌ لكونٍ ما”، ويقول ضمن ما يقوله حول رؤيته للكون: “لا يمكنك أن تصف الكون بشكل دقيق إلا إن كنت موافقاً على الاعتراف بأن الكون ليس فقط ما نحسه. الكون ما ندركه أيضاً”.

شارك هذا العبقري في عدد من المحاضرات والمؤتمرات، وألَّف كتاباً آخر بعنوان “فن المعرفة” وهو عبارة عن مقالات فلسفية عن الكون، كتبها بلغة العامة الذي لطالما كان منهم. وإن قرأت بعضاً من عناوين هذه المقالات ستدرك أن الكتاب ليس مكتوباً للعلماء الذين يقارب ذكاؤهم ذكاء لانجان، بل هو مكتوب للشخص العادي دون أن يضر هذا بمحتوى الكتاب وأفكاره. فعناوين مثل “إذن تريد أن تصبح مليونيراً؟ لن يكلفك هذا الكثير.. فقط حريتك” أو “فأرة الألفية”، تهم القارئ العادي وتجذبه لقراءة محتواها.

في عام 2004م انتقل لانجان مع زوجته إلى شمال ميسوري حيث يمتلك ويدير مزرعة للخيول. وفي ينايرمن العام الجاري قرر أن يجرب الاستفادة من ذكائه بطريقة أخرى؛ فاشترك في مسابقة قناة “ام بي سي” “واحد ضد 100” حيث فاز بـ 250 ألف دولار.

بقي أن نقول أن اهتمامنا بكريس لانجان ليس احتفاءً بنسبة ذكائه، فهي في النهاية نعمة من الله ليس له الفضل فيها، وإنما للدروس والتأملات وحتى الأسئلة التي تثيرها حكايته, فلمَ طوّر استراتيجية الحياة الثنائية المزدوجة، على سبيل المثال؟ وهل كانت حاجة فرضتها عليه معيشته؟ لِمَ قرر فجأة أن يظهر للعلن بقبعة المفكر التي يضعها على رأسه، مع احتفاظه بقميص العامل الذي يعتز بارتدائه؟

ماذا لو ظهر في حياة كريس لانجان منذ البداية شخص استطاع أن يهديه إلى أن الفرق بين الإنسان العادي والعبقري هو في القدرة على التناغم مع الذات ومع الحياة، وأن الأمر وإن كان صعباً فليس مستحيلاً.. هل كنا وقتها سنرى أينشتاين آخر؟ ما الذي أخذه من التعليم المستقل، وما الذي حرُم منه بسببه؟ وهل لو استمر في التعليم الجامعي، لكانت طبيعة إنجازاته مختلفة؟

أضف تعليق

التعليقات