ملف العدد

الأحمر

  • 99d
  • 99e
  • 99f
  • 99g
  • 99h
  • 100a
  • 100b
  • 100c
  • 101a
  • 101b
  • 102a
  • 87a
  • 88a
  • 89a
  • 89b
  • 89c
  • 89d
  • 90a
  • 90b
  • 90c
  • 90d
  • 91a
  • 91b
  • 92a
  • 93a
  • 93b
  • 93d
  • 94a
  • 94b
  • 94c
  • 94d
  • 94e
  • 94f
  • 95a
  • 95b
  • 95c
  • 96b
  • 98a
  • 98b
  • 98c
  • 99a
  • 99b
  • 99c

لم يكتسب أي لون الدلالات التي اكتسبها اللون الأحمر.
إنه لون جميل بالنسبة إلى الكثيرين, والبعض يراه أجمل الألوان على الإطلاق. مع ذلك يبقى جماله في أسفل سلم خطاباته المختلفة التي تتبدل وتتناقض بالانتقال من شيء أحمر إلى آخر باللون نفسه.
نحبه في الورد, ننصاع لأمره في إشارة المرور، نتألم لرؤيته على الجرح، نحترمه في رمزيته لدماء الشهداء، ويحبطنا في البورصة…
تزيّن به الأباطرة والملوك والمحاربون لردح طويل من التاريخ، أما النساء.. فطوال التاريخ. وكما استُخدِم هذا اللون في أفراح الزواج في بعض الأماكن، شكل جزءاً من طقوس دفن الموتى في أماكن أخرى. واستُخدِم في الجذب كما في التنفير, وفي الاستقطاب كما في الطرد.
فريق القافلة يأخذنا في رحلة إلى عالم هذا اللون الفريد.. الأحمر الذي يتعدَّى كونه مجرد لون ليصبح أقرب إلى أن يكون سلطة.

الأحمر..
أقرب إلى أن يكون سلطة
تبدأ علاقة الإنسان الواعية باللون الأحمر منذ أيام الطفولة. فكلنا نذكر الخط الأحمر الذي كان يقسم صفحات دفاترنا المدرسية إلى قسمين: قسم أكبر نكتب عليه فروضنا، ويحده هذا الخط الذي يُمنع علينا تجاوزه, لأن القسم الأصغر مخصص لملاحظات المعلم المصحح.. ونكبر, ليطالعنا يومياً اللون الأحمر، من جملة الأشياء المختلفة التي يطالعنا بها، بالخطاب نفسه من خلال إشارة المرور التي تقول لنا باللون الصامت ما كان يقوله لنا الخط الأحمر على الدفتر: “لا تتجاوزني”. وهذا الانصياع الإنساني لخطاب هذا اللون يعبِّر بشكل عيني عن قبول الإنسان بالشروط اللازمة والمفروضة للانتماء إلى مجتمع منظم بقوانين وأعراف وتقاليد تضبط أداءه.

ولكن هذا الخطاب الذي سنعود إليه بالتفصيل لاحقاً, هو على أهميته وضخامته أصغر بكثير من أن يختزل عالم اللون الأحمر.
فخلال إعدادنا لهذا الملف، رحنا نبحث على الإنترنت عن الأشياء الحمراء، وأسماء العلم التي يدخل الأحمر فيها. وقبل أن ننتهي من تلقيم الجهاز أية كلمة بعد كلمة أحمر، كان محرك البحث يعرض علينا سلسلة لا تنتهي من الاقتراحات.فأي شيء تقريباً يستتبع اسمه كلمة “أحمر”, يصبح اسم علم لشيء معين, مثل:
“اللباس الأحمر”: عطر فرنسي للرجال من إنتاج دار غيرلان.
“الجوارب الحمراء”: فريق بيسبول في مدينة بوسطن الأمريكية.
“القمصان الحمراء” ميليشيا مسلحة في إيطاليا خلال عهد موسوليني.
حتى القهوة المعروفة بسواد لونها، تركية كانت أم أمريكية، تصبح اسم علم لشخص بعد إضافة كلمة أحمر إليها: “ريد كافيه”، مغني أمريكي شاب من جيل الهيب هوب..! فهل يمكن للقارئ أن يتصوَّر عدد الأبواب التي يمكن أن يجدها تحت اسم “الوردة الحمراء” مثلاً؟

وقعه على العين
قبل الغوص في تعدد استعمالات اللون الأحمر وتنوع خطاباته، لا بد من التوقف أمام بعض مميزات هذا اللون واختلافه عن باقي الألوان، انطلاقاً من مواصفاته العلمية.
اللون الأحمر هو الجزء من ألوان الطيف الذي لا تستطيع بعض الأجسام أن تمتصه عندما يسقط عليه الضوء، فتصده وتعكسه بعيداً عنه، فتراه العين. ويتراوح طول الموجة الضوئية التي تصدها الأشياء “الحمراء” ما بين 630 و700 نانو متر، وهي أطول الموجات الضوئية التي يمكن للعين أن تراها، لأن أي ضوء يتجاوز طول موجته هذا الرقم، يسمى “أشعة ما تحت الحمراء”، وهذا ما لا يمكن للعين أن تراه.
ويرى العلماء أن طول موجات الضوء الأحمر، هو ما يفسِّر قدرته على الوصول إلى البصر ومنه إلى الدماغ، أكثر من باقي الألوان، خاصة خلال ضوء النهار الذي يسقط على أشياء كثيرة. فاستعداد الدماغ للترحيب بالموجات الأطول من غيرها، هو ما يجعل اللون الأحمر أقدر من غيره على إثارة الانتباه. وهذه الحقيقة العلمية اكتشفها الإنسان منذ قرون طويلة بالفطرة وبالتجربة، قبل ظهور أدوات القياس والاختبار الحديثة.
ومن دون “ثقافة الأحمر” التي صاغتها المجتمعات خلال التاريخ، فمن شبه المؤكد علمياً أن لهذا اللون بحد ذاته تأثيرات واضحة على الإنسان، بغض النظر عن الشيء الذي يصطبغ به. فهو يسرع التنفس ونبض القلب، ويرفع مستوى ضغط الدم. وإذا أضفنا إلى هذا الاستعداد المميز للتفاعل بين جسم الإنسان واللون، الأدوار التي لعبتها الثقافة وندرة اللون الأحمر وصعوبة الحصول عليه، لعرفنا السبب خلف طغيان حضوره, حيثما احتاج الإنسان إلى أن يلون خطابه، حتى وصل الأمر بهذا اللون إلى أن يصبح خطاباً بحد ذاته.

الأحمر في الطبيعة
الطبيعة ليست كريمة جداً في عرض الأحمر أمام عيوننا. لا بل يمكن القول إن هذا اللون هو أندر الألوان في الطبيعة, ويكاد يقتصر حضوره على بعض أنواع الزهور والفاكهة والحجارة الكريمة.
ففي الزهور، هناك شقائق النعمان التي تنبت في البراري بعد موسم الأمطار، وذات العمر القصير جداً. وهناك أيضاً القرنفل الأحمر والورد الأحمر الذي أصبح في المجتمعات الغربية رمزاً للتعبير عن قوة العاطفة، خاصة من خلال فصيلة منه المسماة “بكارا” ذات اللون الأحمر الخالص.
وفي عالم الفاكهة تعرف الفراولة والكرز والبطيخ وبعض أنواع التفاح… ومن الحجارة الكريمة نعرف المرجان والياقوت والعقيق والغارنيت..
ومن عالم الحشرات, قد تكون الخنفساء الحمراء المرقطة الحشرة الوحيدة التي اكتسبت مودة الإنسان والأطفال بجمال شكلها وبراءتها. والواقع أن الإنسان عندما يتحدث عن الأحمر في الطبيعة، فإنه يخفض سقف شروطه لوصف الشيء بأنه أحمر. فبسبب جمال هذا اللون وقلة توافره، صرنا نصف بالأحمر أشياءً هي في الواقع برتقالية أو بنفسجية أو بنية اللون. فالتراب الصلصالي ليس أحمر على الإطلاق، بل يتراوح لونه ما بين البني والبرتقالي، ومع ذلك سماه الإنسان بالأحمر. وأكثر من ذلك، أصبحت “حمرة” الأراضي الصلصالية أسماء علم لمواقع كثيرة، تبدأ بقصر “الحمراء” في الأندلس، وتنتهي في “شارع الحمراء” في بيروت مروراً بعشرات القرى والبلدات العربية التي تحمل اسم هذا اللون في المغرب كما في المشرق. وأكثر من ذلك، ففي البحر الذي يطغى على سطحه اللون الأزرق، كان يكفي أن تقع العين على بعض الشعاب المرجانية فيه، ليكسف لونها الأحمر كل الألوان الأخرى فيسمى البحر بأسره باسم “البحر الأحمر”.
ومن أعماق البحار إلى الفلك، فقد سمى الإنسان المريخ بـ “الكوكب الأحمر” لأننا نراه من الأرض كذلك، علماً بأن حمرته الحقيقية لا تزال موضع شك وتكهن. كما رأى بعض الأقدمين أن الأحمر هو لون الشمس (عند المغيب)، وأن الشمس هي مصدر كل ما هو أحمر على الأرض…

تاريخ الصباغ الأحمر
أسطورة، وحرب وكيمياء
نظراً لافتتان الإنسان بهذا اللون أكثر من غيره، ونظراً لقلة وجوده في الطبيعة، فقد سعى جاهداً إلى صناعته واكتشاف الصباغ الذي يمكنه أن يوفر أشياءً حمراء كثيرة أهمها أقمشة الملابس.
استناداً إلى إحدى الأساطير، اكتشف الصباغ الأحمر لأول مرة في مدينة صور الفينيقية، عندما كانت ابنة ملك المدينة تنزِّه كلبها على شاطئ المدينة، وأكل الكلب حلزوناً بحرياً من نوع “الموريكس”، فاصطبغ فمه بلون أحمر أرجواني، انبهرت به الأميرة، وطلبت إلى والدها أن يصنع لها ثوباً بهذا اللون. وهكذا بدأ استخراج الأحمر القاني من أصداف الموريكس.
وعلى الرغم من أن هذه الأسطورة ليس لها ما يدعم صحتها، لا بل يمكن تفنيدها بالإشارة إلى أن الكلاب لا تأكل الأصداف البحرية، فمن شبه المؤكد تاريخياً أن الصباغ الأرجواني كان يشكِّل مع الزجاج العمود الفقري لتجارة البحارة الفينيقيين مع العالم القديم.
وقبيل القرن الخامس قبل الميلاد اكتشف الرسَّامون في الشرق الأقصى طريقة لصناعة لون قريب من الأحمر من تركيبة كيميائية عرفت باسم “كبريتوز الزئبقيق”، ولكن هذا اللون كان مرتفع الكلفة، وسامّاً، ويتحول إلى الأسود بتعرضه إلى الضوء. ومع ذلك فقد استمر استخدامه في الفنون الآسيوية لنحو ألف عام.
أما مهمة صابغي الأقمشة فكانت أصعب. إذ كان عليهم أن يكتشفوا مادة صباغ تقاوم الضوء والغسل فظلّوا نحو ألفي عام أو أكثر يعتمدون على مصادر طبيعية مثل النباتات والحشرات. واستخدموا لهذه الغاية جذور نبات الفوّة، وحشرة اللك التي تعيش في الهند وجنوب آسيا وغيرها.. غير أن أفضل مصدر للون الأحمر الجميل المقاوم لعوامل الزمن كان في “حشرة الأحمر الأرمني” التي تعيش في أرمينيا وأذربيجان وجورجيا وتركيا وإيران. واستخدم اللون الأحمر المستخرج منها في صباغة الأقمشة وأرقى أنواع السجاد اليدوي. وقد قيل في غلاء ثمن هذا الصباغ إن “طلاء السماء باللون الأزرق عشر مرّات يبقى أرخص من صباغة خرقة نسيج بهذا اللون”.

حرب الكوشنيل
في عام 1519م، اكتشف الغزاة الإسبان في أمريكا الوسطى أن الهنود الأزتك يبيعون مادة صبغية حمراء في أسواق مكسيكو، ويطلقون عليها اسم “كوشنيل”. فشحن الغزاة هذه المادة مع باقي الأشياء التي نهبوها من هناك إلى أوروبا حيث أنتج منها اللون الأحمر الأكثر إشراقاً الذي عرف في العالم حتى آنذاك.
بعد ذلك بسنوات ثلاث، جرَّد كارلوس ملك إسبانيا حملة لاحتلال تنشتتلان عاصمة الأزتك ونهب ما فيها من ذهب وأصباغ, وكان له ما أراد. فبدأ الصباغ الأحمر يتدفق على إسبانيا، ومنها إلى بقية أنحاء أوروبا.
استخدم القسم الأكبر من الكوشنيل في صناعة الملابس. إلا أن هذه الحشرة المجففة استخدمت لأغراض أخرى. فخلال عصر إليزابيت الأولى في إنكلترا، اعتبر التنافر ما بين الشفاه المطلية بالكوشنيل مع الوجه المطلي ببودرة بيضاء شاحبة أرفع درجات الجمال. واستخدم الرسامون الأوروبيون الكوشنيل في فنهم، كما أضافه الطباخون إلى بعض الأطعمة، واستخدمه الأطباء كدواء لبعض الأمراض.
احتكرت إسبانيا تجارة الكوشنيل لنحو ثلاثة قرون. ويروى أن الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابارت أعلن في عام 1810م عن جائزة مقدارها 20000 فرنك لأي شخص يتمكن من إنتاج الكوشنيل في فرنسا.
ولكن حشرة الكوشنيل لم تصل إلى أوروبا إلاّ في العقد التالي. فبعد استقلال المكسيك عن إسبانيا عام 1821م، وفرار حشرة الكوشنيل من المكسيك إلى غواتيمالا المجاورة، خشيت إسبانيا من خسارة هذه السلعة الثمينة, فنقلتها إليها، ومنها راحت تنتشر في فرنسا وإيطاليا وجزر المتوسط وحتى شمال إفريقيا. ولكن هذه البيئة الجديدة لم توفر إنتاجاً بجودة الأصل المكسيكي.

من محاسن الصدف في الكيمياء
في العام 1853م، انضم شاب إنكليزي في الخامسة عشرة من عمره يدعى وليم بيركن إلى الكلية الملكية للكيمياء. وبعد ذلك بسنوات ثلاث، وخلال سعيه لاكتشاف الكينين المضاد للملاريا، اكتشف بالصدفة مادة سوف تطوي حقبة دموية من تاريخ الأصباغ. ففي نهاية التجربة حصل بيركن على مسحوق أحمر يميل قليلاً إلى البني، ودفعه فضوله إلى تجربته على قطعة قماش، ثم أرسل نماذج منها إلى مصانع الألبسة في اسكتلندا يسألها رأيها فيها. فأجمعت الأجوبة على أن اللون مرغوب وسيلقى رواجاً إذا كان ثمنه رخيصاً.
بدأ بيركن بإنتاج المادة الجديدة بكميات تجارية بين عامي 1858 و1863م، وراح الناس يتحولون من الكوشنيل إلى الأحمر الصناعي لوفرته ورخص ثمنه. وبهذا غابت شمس الكوشنيل إلى الأبد. وتولى تطور الكيمياء في العقود اللاحقة إنتاج أصباغ حمراء عديدة للملابس، وللطلاء المعدني، وللرسامين، ولكل من يحتاج إلى إضافة لون أحمر إلى أي شيء، وصولاً إلى صبغ الطعام “ألورا ريد آي سي”، المسموح باستخدامه من قبل السلطات الصحية في العالم، ويبقى مثيراً للجدل على صعيد آثاره الجانبية المحتملة، خاصةً لأنه مستخرج من قطران الفحم الحجري.

تتعدد الأهداف واللون واحد
تضافرت ميزة اللون الأحمر لجهة حضوره القوي أمام العين، مع ارتفاع كلفة الحصول عليه تاريخياً وندرته في الطبيعة، لتنسج التاريخ الفريد لهذا اللون، وترتقي به إلى مستوى الخطاب الذي يعلن، وإن بصمت عن مضامين لا حصر لها في تنوعها وأيضاً في وضوحها، بحيث توزع اللون الأحمر الواحد إلى مجموعة ألوان لا علاقة لها ببعضها البعض.

الأحمر العسكري
تعود أقدم الشهادات إلى ربط الملابس الحمراء بعالم المحاربين إلى المؤرخ الإغريقي كزينوفون الذي كتب عن الأردية الحمراء التي كان يلبسها المحاربون في إسبرطة القديمة، ربما لأن الرداء يخفي بقع الدم، ويمكِّنهم من الظهور كمقاتلين عتاة لا يقهرون.
وتبنت الإمبراطورية الرومانية “ذات المزاج العسكري جداً” الأردية الحمراء لفيالقها، وزادت عليه عرفاً من الشعر الأحمر فوق خوذة الرأس. وكان ارتداء الوشاح الأحمر يعني أن مرتديه قد أقسم اليمين العسكرية، ولم يعد يعيش وفق القوانين التي تسود حياة العامة أو غيره من الجنود.
وعاش الأحمر العسكري منذ أيام إسبارطة حتى بدايات الحرب العالمية الأولى. فالجيش البريطاني الذي استعمر أمريكا كان مميزاً بستراته الحمراء، وقلب نابليون بونابارت في العام 1807م لون سترات جيشه من الأبيض والأزرق إلى الأحمر. وظل هذا اللون معتمداً في الجيش الفرنسي حتى عام 1915م، حينما لاحظ أحد القادة أن حمرة ملابس جنوده أصبحت هدفاً ممتعاً للقناصة الألمان، فقرر التحول إلى الأسود بدلاً منه.
وخلال الحرب الأهلية الأمريكية، لم يكن الجنوب الأمريكي الذي أخذ إلى الحرب على حين غرة مستعداً لها بزي موحد. فقامت النسوة بإهداء الجنود مناديل حمراء تربط حول العنق لإذكاء الحماسة وتوحيد الزي.

الأحمر الملكي
لأن الإمبراطور الروماني كان القائد الأعلى للجيش، ولأن الصباغ الأحمر كان الأغلى ثمناً (عادل في عصر ديوكليسيان وزنه ذهباً)، اعتمد الأباطرة هذا اللون في ملابسهم الرسمية. ومنهم، انتقل هذا التقليد إلى معظم ملوك أوروبا حتى القرن التاسع عشر. فحتى عندما تكون ملابس الملك بألوان مختلفة كان لا بد له من إضافة لمسة حمراء مميزة، مثل الأحذية الحمراء التي يرتديها لويس الرابع عشر على سبيل المثال في الحفلات الرسمية. أما معاطف حفلات التتويج فكانت كلها حمراء، إلى أن تغير الأمر في عهد الملكة فيكتوريا في بريطانيا، حين أصبح اللون الأحمر رمزاً لحياة الفسق والفجور، فامتنع عنه البلاط ومن ثم الأرستقراطية بأسرها.

الأحمر الوطني
ويحضر الأحمر القومي أكثر من أي لون آخر في أعلام دول العالم، والدافع إلى اعتماده يبقى واحداً أينما كان: إنه رمز دم الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن أوطانهم، أو الاستعداد لذلك. ومعظم الدول العربية صاغت أعلامها الحالية من وحي العلم المتخيل للوحدة العربية ذي الألوان الأربعة: الأحمر والأبيض والأسود والأخضر، المستوحاة بدورها من بيتي شعر شهيرين لصفي الدين الحلي:
سلي الرماح العوالي عن معالينا
واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا
بيض صنـــائعنا سود وقائعنـــا
خضـــــر مــــــرابعنا حمرٌ مواضينــا
وإضافة إلى أعلام بعض الدول، نرى الأحمر يصبغ جزءاً بارزاً من الأزياء الوطنية بدءاً بالتنورة السكتلندية، التي يرتديها الرجال، وصولاً إلى الطربوش المغربي والعثماني. أما المثل الذي نعرفه جميعاً فهو الزي الوطني السعودي الذي لم يقبل إضافة أي لون على بياضه الطاغي، إلاّ النقاط الحمراء على الشماغ.

الأحمر السياسي
تعود المضامين السياسية للون الأحمر إلى ما قبل الثورة السوفياتية بنحو قرن من الزمن. فعندما فر الزعيم الإيطالي غاريبالدي عام 1804م من بلده إلى الأوروجواي، ساعد مواطنيها في ثورتهم الاستقلالية، وأنشأ فيلقاً إيطالياً لدعم الحرب الاستقلالية. وتلقى هذا الفيلق تبرعاً كريماً تمثل في مجموعة قمصان حمراء، كان صاحب مصنع يستعد لتصديرها إلى الجزارين في الأرجنتين. فكان ذلك إيذاناً بنشوء “موضة” اعتماد الثوار اللون الأحمر للدلالة على هويتهم السياسية. وهذا ما حصل خلال مجموعة الثورات التي اندلعت في أوروبا عام 1848م. غير أن الثورة السوفياتية في العام 1917م هي التي أعطت المضمون السياسي للون الأحمر أكبر دفع له على المستوى العالمي. إذ أصبح هذا اللون رمزاً للشيوعية. حتى أن الأمريكيين خلال الحملة الكبرى لاستئصال تسلل الشيوعية إلى بلادهم، والتي قادها ماكارثي، لم يكن يشار إلى المتهمين بكلمة “شيوعيين” بل بكلمة “حمر”، كما كان يطلق على المد الشيوعي “المد الأحمر”.

الأحمر الطبقي
ظل الأحمر طوال القرون الوسطى حكراً على النبلاء. وفي إحدى الثورات التي اندلعت في ألمانيا عام 1552م، كانت المطالبة بالحق في ارتداء الملابس الحمراء من ضمن مطالب الفلاحين. وبقيت الأحذية الحمراء ذات الكعوب العالية ممنوعة قانوناً على غير النبلاء في فرنسا حتى قيام الثورة الفرنسية. ولذا اعتبِر انتعالها بعيد الثورة تحدياً لقيم الثورة ذاتها. وسنت قوانين جديدة تحصر حق ارتداء القبعات وأغطية الرأس الحمراء بالطبقة البرجوازية العليا. الأمر الذي تحداه أبناء الطبقات الأدنى، لأن جاذبية الأحمر كانت أقوى من القانون.

أحمر النهي والمنع
ويمارس الأحمر وظيفة لا علاقة لها بالسياسة والتاريخ والطبقات: وظيفة النهي عن الإقدام على شيء معين. فالضوء الأحمر في إشارة المرور يمنع السائق من التقدم عبر التقاطع ويأمره بالتوقف. أليس غريباً أن يتبدل سلوك شخص بين لحظة وأخرى بناءً على ظهور لون أمامه؟
الوظيفة نفسها يمارسها الخط الأحمر على دفتر التلميذ، وعلى الأرض في بعض المواقع القريبة من مناطق محظورة أو على الأبواب، وحتى على إشارات السير المعدنية لمنع الوقوف، لمنع السلوك في اتجاه معين، لمنع التجاوز…

الأحمر الإعلاني
ولا يقتصر حضور اللون الأحمر على إشارات السير المعدنية الناهية عن أمر معين، بل هو حاضر في معظمها، ولو على شكل إطار يحيط بمضمونها، ويعود ذلك إلى قدرة هذا اللون على جذب الانتباه.
هذه القدرة على لفت النظر هي التي أعطت هذا اللون مكانته في الإعلان وفي شعارات الشركات التي اصطبغت كلياً أو جزئياً بهذا اللون. وأيضاً على أغلفة المجلات الموجهة إلى العامة، إما لكتابة اسم المجلة، أو كإطار حول صفحة الغلاف لشد النظر إليه دون غيره وسط ازدحام الأغلفة المختلفة في الأكشاك.

أحمر الخطر
وحيثما اقترب الإنسان من مكان خطر، يطالعه اللون الأحمر. قد يكون الإنذار على شكل قمع من البلاستيك على الطريق، أو قد يكون علماً يلوِّح به عامل صيانة على الطريق السريع أو غير ذلك. أما في الثكنات والمنشآت العسكرية فإن إطلاق صفارات الإنذار مصحوبة بإضاءة الأنوار الحمراء يعني إعلان أعلى درجات الاستنفار، استعداداً لمواجهة الأعمال الحربية, أو للبدء بها.

أحمر حسن الضيافة وأحمر الطرد
بدءاً من القرن التاسع عشر، راجت في أوروبا الشرقية عادة فرش البساط الأحمر عند مداخل القصور وفي محطات القطار لاستقبال كبار الزوار من رؤساء الدول والرسميين. ومن المرجح أن هذا التقليد مستوحى من التقاليد الأوروبية التي ترى اللون الأحمر ملكياً. ولكن يروى أن ولي عهد النمسا علّق على حمرة البساط الذي سار عليه لدى وصوله إلى سارييفو عام 1914م، إنه جيد لأن دماء الاغتيالات لا تظهر عليه، وكان ذلك قبل اغتياله فعلاً بوقت قصير.
على كل حال، لم تؤثر حوادث الاغتيالات على ديمومة البساط الأحمر، الذي صار يستخدم عند مداخل القصور غير الملكية، وفي كل المناسبات الاجتماعية الكبرى، مثل حفل جوائز “الأوسكار”، الذي دفع بدلالة البساط الأحمر، إلى أن تصبح مرادفاً للظهور الاجتماعي البارز، حتى ولو لم يكن هناك أي بساط حقيقي على الأرض.
ومن غرائب قدرة الأحمر على جمع التناقضات، هو أنه في الوقت الذي يكون فيه عنواناً لحسن الضيافة والترحيب في البساط، يصبح أمراً بالطرد في حالات أخرى مثل “البطاقة الحمراء” التي نعرفها جميعاً، وبها يطرد لاعب الكرة الذي يرتكب مخالفة جسيمة على أرض الملعب.

الأحمر العاطفي
ربما لأن القلب يخفق بسرعة لدى الإحساس بعاطفة معينة، أو ربما لأن الوجنتين تتوردان، وربما لأن الأحمر لون دافئ، وربما لأن الورد الأحمر هو الأقوى حضوراً أمام البصر، أصبح اللون الأحمر في المجتمعات الغربية رمزاً للعاطفة وللتعبير عنها. أما إذا تدنت العواطف إلى مستويات غير أخلاقية أو غير مقبولة اجتماعياً، فيصبح الأحمر رمزاً للخطيئة والسوء. فمن هولندا إلى الهند توصم الأحياء التي تنتشر فيها أعمال السوء والرذيلة في المدن بـ “الأحياء الحمراء”، كما توسم ليالي الصخب والمجون بـ “الليالي الحمراء”.
الأحمر للأفراح والأحزان
ولمناسبة ذكر الهند، نشير إلى أن العرائس في الهند يرتدين ثوباً من الساري الأحمر في حفلات الزفاف. والأمر نفسه ينطبق على بلدان آسيوية عديدة مثل النيبال وتايلند والصين.. أما في البلاد العربية فالحناء الحمراء على اليدين والوجه هي تقليدياً زينة العروس. وفي المقابل هناك مجتمعات تعتبر اللون الأحمر لون حداد على الموتى كما هو الحال في جنوب إفريقيا، وكما كان الحال عند إنسان النياندرتالي قبل آلاف السنين.

الأحمر للتجميل
وتحتوي المحال التي تبيع مستحضرات تجميل نسائية على أكبر تشكيلة منوعة من الأحمر. وخاصة في تلك الصناديق الكبيرة التي تعرض أصابع أحمر الشفاه بعشرات وربما مئات التنويعات المختلفة من هذا اللون الواحد والتي تراوح ما بين الوردي والبنفسجي والقرمزي مروراً بمختلف درجات الحمرة…

الأحمر الصيني
ولا تختلف علاقة الثقافة الصينية باللون الأحمر عن غيرها، إلا بكونها أكثر زخماً وأوضح للعيان. فكل من دخل مطعماً صينياً أينما كان في العالم، لاحظ فوراً طغيان اللون الأحمر على الجدران والمصابيح وأغطية الطاولات وحتى الباب والإضاءة الخارجية.
ففي الصين لا مكانة لأي لون تقارب مكانة الأحمر. فهو اللون الإمبراطوري، وهو الطاغي على المدينة المحرمة التي كانت مقراً للأباطرة، وهو لون الحظ والمجد والصحة. وهو لون ملابس العروس كما أسلفنا.
وإضافة إلى ما تقدَّم يحمل الأحمر في الصين جملة معانٍ إيجابية مثل الشجاعة، الإخلاص، الشرف، النجاح، الثروة، الخصوبة، السعادة، ويرمز أيضاً إلى ما يبتعد كلياً عن هذه المعاني. ومن ضمن رموزه فصل الصيف، وجهة الجنوب، سواءً أكان الجنوب بشكل عام، أم جنوب الصين. ناهيك عن أنه يحتل لوحده علم البلاد.

الأحمر.. أحمران وزهري
مايدعوه الناس باللون الأحمر، والأحمر كما نعرفه نحن، هو ليس الأحمر ذاته الذي ينتمي إلى الألوان الأولية والأساسية الأربعة (الأزرق، الماجنتا، الأصفر، والأسود) ، والتي يمكن أن تركب منها جميع الألوان، كما هو معروف خاصة في الطباعة الملونة.
فاللون الأحمر الأساسي هو الأحمر (الأرجواني) الذي تنتجه الطبيعة أو ما يسمى “ماجنتا”، وفي الاستخدام اليومي يطلق عليه أحياناً اسم “بامبي”. وهو لا يصبح الأحمر الذي نعرفه نحن إلا حين يضاف إليه اللون الأصفر وبنفس الكمية تقريباً. أما إذا زدنا الأصفر إلى “أحمرنا” فيصبح برتقالياً. ومن خصائص الألوان الحمراء عموماً أنها إذا أضفت إليها الأبيض لا تصبح حمراء فاتحة، بل أقرب إلى اللون الزهري. وهي خصوصية لا يحبها فيها الرسامون.

الأحمر في الفن التشكيلي
قد ازدادت أهمية اللون الأحمر في الرسم مع انطلاقة المدرسة الانطباعية. فهذه المدرسة التي بدأت تتخلى عن أصول الرسم الكلاسيكي لتلجأ إلى أساليب تعبيرية أكثر حرية وحيوية تخاطب المشاعر، استطاعت أن تجوّد استخدام اللون الأحمر لتزيد من وقع اللوحة العاطفي. وقد قيل أن الرسام الانطباعي لا ينهي لوحة إلا إذا أضاف إليها في مكان ما، خاصة في المنطقة الوسطى، نقطة حمراء واحدة. ومن أشهر اللوحات التي لعب فيها الأحمر هذا الدور هي لوحات أزهار “البرقوق” للفنان الفرنسي مونية.. والذي بدوره لم يتوان عن المبالغة في ” حمرة خدود” الصبايا اللاتي رسمهن بكثرة!

بعض العالم أحمر
ويمكننا أن نستمر في جولتنا على عوالم الأحمر ودوره المميز للشيء، إلى ما لا نهاية. فلو قلنا “الكتاب الأحمر” لوجدناه عنوان الكتاب الشهير الذي ضم مقتطفات من أقوال الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وظل يُقرأ ويدرس في الصين طوال الستينيات من القرن الماضي، وحتى انتهاء الثورة الثقافية في عام 1976م. والاسم نفسه كان لمجلة نسائية أمريكية شهيرة جداً في عشرينيات القرن الماضي. ولو بحثنا عن “الغيمة الحمراء” لوجدناها اسماً لزعيم هندي خاض أشرس حرب عرفتها أمريكا ضد المستوطنين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، و”السلالة الحمراء” اسم لفصيلة من زهور التوليب في هولندا.
باختصار، يبدو أن العالم لم يجد في الماضي ولا في الحاضر ما يساعده على التميز أمام بصر الآخرين ووجدانهم ما هو أفضل من اللون الأحمر.. اللون الذي حضر أكثر من غيره في شتى نواحي الحياة، ولا يزال يكتسب ميادين جديدة ليضمها إلى مملكته الشاسعة.

الأحمر الروائي
تنتهي رواية “الأحمر والأسود” للكاتب الفرنسي ستندال بعبارته المفضلة “لأولئك القلة من السعداء”.. والإهداء المتهكم هنا يأتي للقلة الحاكمة في المجتمع الفرنسي في أوائل القرن التاسع عشر: الحمر المنتسبين إلى الجيش ممن يرتدون زي الجندية الأحمر، والسود المنتسبين إلى الكنيسة ويرتدون زي الكاردينالات الأسود. والسعادة المقصودة هي سعادة مرّة تقوم على النفوذ الجائر والنفاق والمال الحرام.
يقع على عاتق الأحمر في رواية ستندال وغيره من الروائيين حمل ثقيل من رمزية يلقيها الكاتب، ويتوقع من الأحمر أن يقوم بها بجدارة. وهذا ما يحدث في كثيرٍ من الأحيان. مبدئياً، الأحمر طريق سهل ليوقظ الكاتب به حواس قارئه، ولذلك بمجرد أن نبحث في مكتبة ما عن رواية تبدأ بالأحمر، نجد المئات. على رفوف أمازون الافتراضية مثلاً، وبنظرة سريعة نستطيع أن نحصي مالا يقل عن 600 رواية يبدأ اسمها بهذه الكلمة، عدا تلك التي يقع الآحمر في منتصفها أو آخرها. آما بقية الألوان فليس لها الحظ نفسه.
وإن وضعنا جانباً الدور الأولي الذي يلجأ إليه الكتّاب بحاجة أو بدون حاجة إلى الأحمر لاستنفار انتباه القارئ واقناعه بجدوى تصفح الرواية إن لم يكن قراءتها، نجد أن هناك الكثير من الروايات الناجحة المؤثرة التي كان وجود الأحمر فيها مدروساً وفاعلاً، بل ومترفعاً عن ذلك الدور الأولي الذي تحدثنا عنه سابقاً ليلعب دوراً يصب في صلب أحداث الرواية أو يعبر عن حبكتها الرئيسة. نجد هذا في رواية الفرنسي ستندال، كما نجده في رواية “الأحرف القرمزية” للأمريكي ناثانيل هاوثورن، ورواية “مطاردة الغواصة أكتوبر الأحمر” للأمريكي توم كلانسي، ورواية “إسمي أحمر” للكاتب التركي أورهان باموق.. وغيرها كثير. الأحمر هنا لا يأتي للوصف والدعاية الصرفة، بل يأتي رمزاً وحدثاً وبطل.

الأحمر الخالص الثمين
أي أحمر؟
لو تطلعنا إلى اللون الأحمر كما تعرف به القواميس لوجدنا أنه يضم في الواقع عدة ألوان مثل الأحمر المائل إلى البرتقالي, أو إلى الوردي أو إلى البنفسجي أو البني… ويتسع عالم الأحمر في ألوان الطباعة التي تضم مئات المستويات المختلفة من هذا اللون. ولكن للبحث عن الأحمر الخالص الذي لا تشوبه شائبة لون آخر, فلا يوجد أمامنا غير عالم الحجارة الكريمة, حيث يتربع الأحمر على القمة بلا منازع من قريب أو بعيد.
فأغلى حجر كريم على الإطلاق هو الماس الأحمر, الذي يباع القيراط الواحد منه بما يتجاوز المليون دولار، مقابل نصف مليون للأزرق, وعشرة آلاف فقط للألماس عديم اللون. ولكن من النادر أن يدور الحديث عن الماس الأحمر لأن كل الكمية المتداولة منه في العالم لا تزيد على أربعين قيراطاً (8 غرامات)!
إن كل الحجارة الكريمة الحمراء تنتمي أساساً إلى عائلات من الحجارة التي تتكون بألوان مختلفة وتكتسب حمرتها من اختلاط معدنها الأساسي بشيء من الماغنيزيوم أو الكروم أو أكسيد الحديد.. ومجرد اصطباغ الحجر الكريم بهذا اللون يعطيه اسماً مميزاً ويرفع سعره إلى مستويات فلكية.. من هذه الحجارة نذكر البيروب أغلى حجر في عائلة الغرانيت، والروبيلايت وهو التورمالين الأحمر, والروبيسال وهو السبينال الأحمر، والياقوت الأحمر (ruby) وهو من عائلة الكورندوم، وهذا الأخير هو الأشهر، وأغلى بكثير من شقيقه الياقوت الأزرق (saphire).

الأحمر الذي خدع الملوك
ياقوتة الأمير الأسود
يمكن لحمرة الحجارة الكريمة أن تتقارب إلى درجة تخدع فيها أكثر العيون تمرساً باللون الأحمر: عيون ملوك أوروبا. ففي وسط التاج الذي تعتمره ملكة بريطانيا يوجد حجر كريم أحمر عُرِفَ تاريخياً باسم “ياقوتة الأمير الأسود” (Black Prince Ruby). ولهذه “الياقوتة” التي تزن 170 قيراطاً (34 غراماً) سيرة ملحمية تبدأ من الأندلس. ففي أواسط القرن الرابع عشر، كانت هذه الجوهرة الحمراء في حوزة صاحب قصر الحمراء أبو سعيد أمير غرناطة, الذي قتله غدراً مضيفه بطرس الرهيب صاحب إشبيلية، للاستيلاء على جواهره. ولكن بطرس الرهيب تعرض لتمرد من أخيه، فاستنجد بالأمير الإنجليزي إدوارد أوف وودستوك المعروف باسم “الأمير الأسود”، وقدم هذا الأخير المساعدة العسكرية المطلوبة مشترطاً الحصول على “الياقوتة الحمراء”, فكان له ما أراد بعد معركة “ناجيرا” التي دارت عام 1367م في إسبانيا. ومنذ ذلك الحين استقرت هذه الجوهرة ضمن ممتلكات ملوك إنكلترا، وظهرت في مناسبات تاريخية ومعارك عديدة. حتى استقرت وسط التاج الذي صيغ لتتويج الملكة فيكتوريا, وما زال ملوك بريطانيا يستخدمونه في بعض المناسبات الرسمية. الطريف في الأمر، أن تطور وسائل اختبار نوعية الحجارة الكريمة في العصر الحديث كشفت أن “ياقوتة الأمير الأسود” ليست ياقوتة بل حجر “سبينال”, ولكن ذلك لا يعني انتقاصاً من قيمة هذه الجوهرة لأن “السبينال” بهذا الحجم الكبير يبقى يساوي ملايين الدولارات، ناهيك عن قيمته التاريخية.. وأكثر من ذلك، يؤكد الخبراء في هذا الشأن أن كل الأحجار الحمراء الضخمة التي رصعت تيجان أوروبا في الماضي بوصفها من الياقوت، هي في الواقع سبينال.

أي ثمن لأي أحمر؟
اليوم, لم يعد الخلط بين الياقوت الأحمر وغيره وارداً, بفضل أدوات فحص إلكترونية متوافرة في الأسواق بأسعار زهيدة.. ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي التمييز بين ياقوتة حمراء وأخرى استناداً إلى قوة احمرارها, لأن لكل درجة من الحمرة ثمنها المختلف جداً عن ثمن غيرها. ولذا، صنف تجّار الحجارة الكريمة أنواع الأحمر في الياقوت إلى عدة مستويات (بعد استبعاد الألوان القريبة من الأحمر مثل الوردي والبرتقالي والبنفسجي والبني استبعاداً تاماً).
ففي إطار الأحمر الصافي، نجد الياقوت يتوزع بحمرته على عدة تصنيفات، نذكر منها ما هو متداول أكثر من غيره:
• أحمر قرمزي
• أحمر أرجواني
• أحمر دموي
• أحمر قرنفل
• 
أحمر فارسي (نسبة إلى لون مميز في السجاد الشيرازي)
• 
أحمر كاردينال (نسبة إلى ملابس الكرادلة الأوروبيين)
• 
أحمر راديكالي (نسبة إلى أعلام الحركات اليسارية)
• أحمر شريط (نسبة إلى شريط الهدية)
• 
أحمر رازمتاز (كلمة تركية الأصل، دخلت القاموس الإنكليزي للإشارة إلى المحير المدهش).
• أحمر كرز

أحمر دم الحمام
أما أغلى أنواع الياقوت الأحمر فهو الذي يكون بأقوى لون أحمر، والمعروف باسم “دم الحمام”. وأصل هذه التسمية الغريبة يعود إلى طريقة ظلت لبضعة قرون معتمدة في أوروبا لتصنيف أفضل ألوان الياقوت. وتقتضي هذه الطريقة بوضع الياقوتة على ورقة بيضاء، وإسالة نقطة دم طازجة من طير حمام بقربها. فإذا تطابق لون الحجر مع نقطة الدم، يتم الإعلان أن لونه مثالي. وتبقى مسألة الشوائب الداخلية التي نادراً ما تخلو منها أحجار الياقوت. أما إذا خلت منها، فيتجاوز سعر الياقوتة سعر الماس عديم اللون بأضعاف مضاعفة.

الأحمر شعراً
دمٌ.. وردٌ.. وغيرهما الكثير
تستمد الألوان مكانتها في الأدب والشعر من مكانتها في الوجدان الشعبي، فمخيلة الشعراء وأقلام الأدباء ترجمة لذلك الوجدان.
وللأحمر في وجدان الناس حضور استثنائي، وكذلك في الأدب العربي بنثره وشعره، وقد لا يضاهيه في مكانته لون آخر، وبنظرة خاطفة للموسوعات الشعرية نجدها مزدحمة بذكره، فكلمة أحمر تكررت مئات المرات، بل إنها باشتقاقاتها الأخرى تكررت أضعاف ذلك، وقد أخذ الأحمر دلالات متعددة، وتوظيفات مختلفة في أشعار العرب، ولو أردنا استقصاءها في هذا الموضع لأعجزنا ذلك، غير أنه لا يسقط ميسور بمعسور، فإليك بعضاً من تلك الدلالات..
من ذلك قول عنترة (22 ق.هـ):
ولقد ذكرتُك والرماحُ نواهلٌ
مِنّي وبيضُ الهند تقطرُ من دمي
فودِدْتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فعلى الرغم من عدم ذكر الأحمر، تبدو متانة الصورة في تشبيه بياض السيف وحمرة الدماء عليه، ببياض الأسنان تحوطها الشفتان الحمراوان.
وقد استخدم الأحمر للدلالة على المنعة والقوة ولذا سميت قبيلة مضر “مضر الحمراء”، يقول بشر ابن أبي خازم (22 ق.هـ):
دعوا مَنْبِت السيفين إنهما لنا
إذا مضر الحمراء شبّت حروبها
ويقول ابن حيوس (473هـ):
إن تُرِد علم حالهم عن يقين
فالقَهُم في مكارم أو نزال
تَلْقَ بِيض الأعراض سُمْرَ مَثَارِ
النقع خُضرَ الأكناف حُمرَ النصال
وأشهر منهما بيتي صفي الدين الحلي (755هـ) المذكورين آنفاً، واللذين استُوحِيَت منهما ألوان كثير من أعلام دول العرب.
وللإشارة للموت “الكأس الأحمر”، كقول الأخطل الصغير (1388هـ):
ضحك المجدُ لنا لمّا رآنا
بدم الأبطال مصبوغاً لوانا
عرُس الأحرار أن تسقي العدى
أكؤساً حمراً وأنغاماً حزانى
وللدلالة على القتل، كقول أبي تمام (231هـ):
تَرَدّى ثيابَ الموتِ حمراً فما أتى
لها الليلُ إلا وهي من سندسٍ خُضرُ
وقد أصح للون في لغة العرب دلالة بلاغية، وفي ذلك يقول العباسي في معاهد التنصيص: ومعنى البيت أنه ارتدى الثياب الملطخة بالدم، فلم ينقض يوم قتله، إلا وقد صارت الثياب خضراً من سندس الجنة.
ثم قال: والشاهد في البيت الطباق المسمى التدبيج، وهو أن يذكر الشاعر في معنى من المدح أو غيره ألواناً لقصد الكناية أو التورية، ويسمى تدبيج الكناية أيضاً، فإنه ذكر هنا لون الحمرة والخضرة، والمراد من الأول الكناية عن القتل، ومن الثاني الكناية عن دخول الجنة.
ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم (39 ق.هـ):
بأنا نورد الرايات بيضاً
ونصدرهن حمراً قد روينا
وقول أبي الشيص (196هـ):
فأوردها بيضاً ظماءً صدورها
وأصدرها بالري ألوانها حمر
وهذا ما وصفه العباسي بأبدع بيت للعرب في الطباق، لأنه طابق بين الإيراد والإصدار، والبياض والحمرة، والظمأ والري.
كما استخدم كناية عن الخضاب، وفيها يقول عنترة:
وما كنت في دوح تمس غصونه
ولا خضبت رجلاك أحمر قاني
وقال البحتري (284هـ):
لو رأت حادث الخضاب لأنّت
وأرنّت من احمرار اليرنّا
واليرنا الحناء..
وفي خضاب الموت بالدم الأحمر، يقول صالح الكواز (1290هـ):
خضبوا وما شابوا وكان خضابهم
بدم من الأوداج لا الحناء
وقد لوّن أحمد شوقي (1351هـ) الحرية بالأحمر، في قوله عند قيام قوات الانتداب الفرنسي عام 1926م بقمع ثورة سلطان باشا الأطرش في سوريا:
دمُ الثوّار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه نورٌ وحق
وللحرية الحمراء بابٌ
بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقُّ
هذا عن الأحمر الدموي. أما الأحمر العاطفي فمن أجمل ما قيل فيه، قول النقدي (1369هـ):
قالوا نرى لون حناء براحتها
فقلت ما لون حناء ولا عنم
كانت تلاعب صدغيها فأظفرها
أدمت فؤادي وهذا اللون لون دمي
وعلى الرغم من أنه كعنترة لم يذكر الأحمر لفظاً إلا أنه صريح في ذكر العنم تلك الشجرة ذات الزهرة الحمراء، ولون الدم القاني المسفوك على مذبح الهوى.
أما عن حمرة الخجل، فيقول ابن الرومي (283هـ):
أما ترى الحمرة في خده
تنطق عن خجلة مفضوح
ويقول حسين الدجيلي (1305هـ):
فقيل من أنت فارتاعت فرائصه
وقد كسا الخدَ ثوبَ الحمرةِ الخجل
وعن احمرار العين حزناً، فيقول الخبز أرزي (317هـ) هذين البيتين الجميلين:
شكوت إلى إلفي سهادي وعَبرتي
فقلت احمرار العين يخبر عن وجدي
فقال مُحالٌ ما ادعيت وإنما
قَطَفتَ بعينيك التورُد من خدي
ورديف لهذا الجمال قول أمين نخلة (1396هـ) في حمرة الشفاه لا في أحمرها:
أنا لا أصدق أن هذا الأحمر المشقوق فم
بل وردة مبتلة، حمراء، من لحم ودم
أكمامها شفتان، خذ روحي، وعللني بشم
إن الشفاه أُحِبها، كم مرة قالت: نعم
وقد أخذ الأحمر دلالات حديثة في الشعر بعدما تعددت استخدامات اللون الأحمر ودلالاته، كالجيش الأحمر والمد الأحمر، والشاشة الحمراء، والسجادة الحمراء، ومن ذلك قول جاسم الصحيح، إشارة إلى التفخيم:
هل أَنْزَلَتْكَ الأبجديَّةُ باسمِها
ضيفاً على الأبديَّةِ الفَيْحاَءِ؟!
هل قابَلَتْكَ فخامةُ الفِكَرِ التي
تمشي على سَجَّادَةٍ حمراءِ؟!
ويطول بنا المقام، غير أننا نختم بنص انصبت كل أبياته على اللون الأحمر، فذَكَرَتْه في الزهر والملابس والدم والشمس والخدود وغير ذلك، وهو نص من أربعة أبيات، أصله على ما يبدو للوزير المهلبي (352هـ)، لكنه استهوى الوأواء الدمشقي (385هـ) فنسج على منواله إلى حد المطابقة، أو على الأقل هو منسوب إليه، كما نسج أبو العباس أحمد الدارمي المعروف بالنامي (399هـ) على منواله، وزاد عليه ليصبح ستة أبيات، هذا الشغف بهذه الأبيات سلك بها إلى الوجدان الشعبي، وأدرجها في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وفيها وصف لحبيب يرتدي قميصاً أحمر، يقول النامي، صاحب الوقائع والمعارضات الشهيرة مع المتنبي:
أتاني في قميص اللاّذ يسعى
عدوٌّ لي يلقّب بالحبيب
وقد عبث الشراب بمقلتيه
فصيّر خدّه كَسَنا اللهيبِ
فقلت له بما استحسنت هذا
لقد أقبلت في زي عجيب
أحمرة وجنتيك كستك هذا
أم أنت صبغته بدم القلوب
فقال الشمس أهدت لي قميصاً
بلونٍ قد حكى شفق الغروب
فثوبي والمدام ولون خدي
قريب من قريب من قريب
ولو قال: لهيبٌ في لهيبٍ في لهيب، لكان أروع.

الناس الحمر
كان العرب قديماً يصفون الأوروبيين بالحمر، وليس بالبيض، لأنهم كانوا يرون أن صفة العرب هي السمرة، أما أولئك الذين على الجانب الآخر من البحر المتوسط فيميلون إلى اللون الوردي الأحمر. وعندما وصل كريستوف كولومبوس إلى أمريكا، وكان يسعى إلى الوصول إلى الهند، وجد أن سكان المناطق المستكشفة هم ذوو بشرة تميل إلى اللون الوردي وليس إلى اللون الأسمر كما كان يتوقع. فأطلق عليهم اسم “الهنود الحمر”، وهو الاسم الذي أُلصِق بسكان القارة الأصليين ومن تبقى منهم حتى عصرنا هذا.
ومن الناس من يولد بشعر يميل لونه إلى الحمرة. وفي لون الشعر الأحمر درجات تراوح بين البرتقالي والشقرة النحاسية. والسبب في ذلك هو أن ذوي هذا الشعر الأحمر يكثر عندهم الصبغ المسمى “فيوميلانين”، فيما يقل عندهم الصبغ المسمى “أوميلانين”. وتبلغ نسبة ذوي الشعر الأحمر بين 1 و2 في المئة من البشر، وتتركز نسبة أكبر (بين 2 و6 في المئة) عند شعوب أوروبا الشمالية والغربية.ويصاحب هذا اللون في الغالب لون فاتح في البشرة، ونمش، وحساسية عينين من أشعة الشمس فوق البنفسجية.
وقد قوبل ذوو الشعر الأحمر في أوروبا بالتقدير تارة وبالعداء تارة أخرى. فالفنانون أعجبوا بهذا اللون عندما رسموه في لوحاتهم، ومن هؤلاء فنانو عصر النهضة بشكل خاص، ولكن في الوقت نفسه، نجد أنه في إنكلترا ذات النسبة الكبيرة من ذوي الشعر الأحمر تعتبر كلمة جنجر التي تشير إلى ذي الشعر الأحمر، كلمة غير لطيفة، حتى أن الجنجرية كادت أن تساوي نوعاً من العنصرية.

أضف تعليق

التعليقات