الحجارة في شبه الجزيرة العربية تروي الكثير، حين تتحدث. فهذه البقعة من الكرة الأرضية، كانت ولا تزال موقع نشاط بشري أثر في تاريخ البشرية، منذ قرون طويلة.
بعض هذه الحجارة يروي عن تاريخ سبق يومنا هذا بمليون عام. وبعضها يروي عن عصور كثيرة متعاقبة، تقترب شيئاً فشيئاً لتكتمل القصة.
ريتشارد كوفنقتون كاتب مقيم في باريس، يكتب في الثقافة والتاريخ لمتحف سمثسونيان (واشنطن)، وصحف عديدة، كتب هذه المقالة عن الطرق في شبه الجزيرة العربية، ونشرتها مجلة (سعودي أرامكو وورلد)، العدد مارس/أبريل 2011م.
قبل نحو 13 عاماً وتحت حرارة شمس الصيف، كان علماء الآثار يعملون داخل أحد الخنادق التي حُفرت في تلة على أطراف بلدة ثاج القديمة في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية. آنذاك لم يكونوا قد اكتشفوا سوى بعض قطع الفخار والرماد. وقد بدا المشهد قاتماً والاحتمالات ضئيلة. فجأة، ومع استمرار الحفر بالمجرفة، ظهر ثقب أطل منه عبد الحميد الحشاش والطاقم المعاون من متحف الدمام، ليكتشفوا وجود مقبرة أثرية.
مرت بضعة أيام، فعثروا على أدوات جنائزية تشمل قناعاً صغيراً وقفازاً وحزاماً وعدداً من القلادات، جميعها من الذهب الخالص، مع مجموعة من الجواهر الرائعة، كانت تزين بقايا جثمان طفلة في السادسة من عمرها على ما يبدو، دُفنت هنا قبل نحو ألفي سنة.
وعلى الفور، أعاد «قناع ثاج» البارز المصنوع بمهارة لإظهار الفم الصغير والأنف الطويل والعينين الصغيرتين، للذاكرة ما يسمى قناع أجاممنون، الذي اكتُشف في عام 1876م وهو قناع من أنفس بقايا الألفية الثانية قبل الميلاد، التي اكتُشفت بمدينة مسّينا.
لم يكن قناع ثاج وما كان معه من أدوات، سوى قليل من المعروضات الرائعة التي قُدمت في معرض «طرق الجزيرة العربية» في متحف اللوفر في مدينة باريس من تموز/يوليو حتى أيلول/سبتمبر العام الماضي.
لكن ربما كان أروع ما في القصة أن معرض «طرق الجزيرة العربية: آثار وتاريخ المملكة العربية السعودية» هذا، كان المعرض الدولي الشامل الأول من نوعه للتحف التاريخية في المملكة. ضم المعرض 320 قطعة أثرية مضى على بعضها أكثر من مليون سنة، وصولاً إلى بدء العصر الحجري القديم وحتى نشأة المملكة العربية السعودية في العام 1932م، فتحول إلى استعراض فعلي لكنوز مجهولة، تشكل كل قطعة منه فصلاً من قصة الحضارات، التي نَسجت على مدى ألوف السنين فنونها وسيّرت تجارتها على نحو يتجاوز بكثير ما كان يعتقده علماء الآثار في السابق.
معرض في متحف اللوفر
لقد أخرجت هذه المجموعة التاريخية، التي عُرضت أيضاً في مدينة برشلونة في شهر شباط/فبراير، وستزور كلاً من سانت بطرسبورغ وبرلين وشيكاغو خلال العام 2013، شبه الجزيرة العربية من هامش العالم القديم، ووضعته في قلب شبكة تاريخية مترامية الأطراف من طرق التجارة والحج تربط الهند والصين بالبحر الأبيض المتوسط ومصر واليمن وشرق إفريقيا، حتى سوريا وإيران وبلاد ما بين النهرين.
ويتضح من هذه الشبكة أن العرب الأوائل، فيما كانوا يتأثرون بسطوة الإمبراطوريات والممالك المجاورة ونفوذها، إنما صنعوا أعمالهم الخاصة، المتميزة إقليمياً، من الخزف (السيراميك) والجواهر والرسوم والمنحوتات. فإلى جانب الأعمال الذهبية في ثاج، شملت مجموعة التحف الأثرية، أعمالاً أكثر جاذبية وقيمة من الناحية الثقافية، بينها ثلاثة تماثيل لرجال، يزيد حجم كل منها على الحجم الطبيعي بقليل، ويعود تاريخها إلى القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد، وترمز هذه التماثيل إلى ملوك في شمال مملكة لحيان العربية التي لم تكن معروفة حتى أمد قريب. وضم المعرض أيضاً مجموعة من الجداريات المحفوظة حفظاً جيداً، ورؤوساً مضيئة من المرمر ومقتنيات برونزية إغريقية من قرية الفاو الواقعة على أطراف الرُّبع الخالي.
صورة أغنى لتاريخنا
وقد تمكنت مجهودات التنقيب الأثرية من إغناء صورة ماضي المملكة إغناء قل مثيله، فقد عُثر على سفن مصنوعة من الحجر الأملس شرق جزيرة العرب، في جزيرة تاروت، تحمل رسوماً لثعابين متشابكة وأشخاص. وكانت من أبرز موجودات المعرض. وثمة معالم حجرية عليها كتابات باللغة الآرامية ولغة جنوب الجزيرة والعربية وشمالها في أول استخدام معروف لهذه اللغة.
أما أكثر الكتابات أناقة فتظهر قرب نهاية المعرض، وتأتي من مكة المكرمة، وهي منحوتة على سلسلة مثيرة للذكريات من شواهد القبور التي تحمل نقوشاً عن حياة الحجاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي في فترة ما بين القرنين التاسع والسادس عشر الميلاديين.
ويضم معرض «طرق الجزيرة العربية» القائم في الأساس على مقتنيات مأخوذة من المتحف الوطني بمدينة الرياض، قطعاً مهمة من متاحف المملكة الإقليمية أو الجامعية والمكتبات والمؤسسات. وثمة أيضاً منسوجات مأخوذة من متحف الفنون الزخرفية في باريس، ولوحات السيراميك التي تصور مكة المكرمة والمدينة المنورة من متحف اللوفر، ونقوش من القرن الثامن عشر للحرمين الشريفين من مكتبة فرنسا الوطنية في باريس.
ويضم المعرض كذلك خريطة نادرة لسكة حديد الحجاز التي بناها الأتراك العثمانيون، مطلع القرن العشرين، مستعارة من الجمعية الجغرافية الملكية في لندن.
نقَّاد وخبراء مبهورون
وقد أعرب النقاد عن شدة انبهارهم بالمعرض. فقد تحدث إريك بيتري ريفيير في صحيفة «لو فيجارو» اليومية الباريسية عن دهشته باكتشاف «ماضينا الرائع والمزدهر الذي يكاد يكون غير معروف بالمرة». وفي صحيفة «إنترناشونال هيرالد تريبيون» أشار الناقد الفني سورين ميليكيان إلى أن «ما كشفته مئات القطع الأثرية التي لم تسبق رؤيتها خارج المملكة العربية السعودية يُعد أمراً مذهلاً». وكان الخبراء هم أيضاً منبهرين بالمعرض أيما انبهار. فها دانيال بوتس، أستاذ علم آثار الشرق الأوسط بجامعة سيدني، يعقب بقوله: «يا له من أمر رائع أن نظهر للعالم ثروة الكنوز الأثرية الموجودة في المملكة». وكان بوتس واحداً من أكثر من ستة وثلاثين عالماً أسهموا بمقالات ضمن كتاب المعرض المصور المكون من 600 صفحة.
استطرد بوتس قائلاً: «تظل المملكة العربية السعودية بالتأكيد الجزء الأقل حظوة بجهود الاستكشاف، والأكبر مساحة من لغز جزيرة العرب، وعلى هذا المعرض أن يفعل الكثير لحث العلماء على النظر إلى المنطقة بقدر أكبر من الجد».
مرحلة جديدة لتنظيم المتاحف
ويعود تاريخ هذا التطور الكبير في التنظيم السعودي للمتاحف وإدارتها، إلى شهر نيسان/أبريل 2004م، عندما أبرمت الهيئة العامة للسياحة والآثار اتفاق تعاون مع متحف اللوفر. فكانت باكورة ثمار هذا التعاون معرض المسوح الذي ضم 150 قطعة، تحت عنوان «روائع من مجموعة الفنون الإسلامية في متحف اللوفر» الذي افتتح في المتحف الوطني السعودي في ربيع عام 2006. (وفي مشروع منفصل، وبتمويل من جهات متعددة الجنسيات، يعتزم متحف اللوفر بناء جناح جديد مخصص للفن الإسلامي، مقرر افتتاحه في عام 2012).
من جانبه، أوضح علي الغبان، نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار لشؤون الآثار والمتاحف، المنسق المشارك بمعرض «طرق الجزيرة العربية»، أن تبادل المعارض يمثل «جزءاً من استراتيجيتنا البعيدة الأمد للاستفادة من الآثار في تعزيز مكانة البلاد وبناء السياحة، وهو يساعد كذلك السعوديين كي يفخروا بتراثهم». وتابع قائلاً: «لقد نُشر الكتاب المصوَّر الخاص بالمعرض باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية»، فأكد أنه ليس مجرد كتاب مصوَّر لمعرض، بل إنه وثيقة علمية تشرح تفصيلاً كيف أسهم العديد من الحضارات في تاريخ المملكة العربية السعودية».
والدكتور الغبان عالم آثار مرموق وهو أستاذ بجامعة الملك سعود في الرياض، وقد حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة إيكس أون بروفانس الفرنسية، وهو أحد المخضرمين في المسوح الأثرية والتنقيب منذ أكثر من ثلاثة عقود.
جولة وحديث مع الغبان
وخلال أحد الأيام في متحف اللوفر، استقطع الدكتور الغبان من وقته ليقودني في جولة عبر المعرض، وتباحثنا الأمر في وقت لاحق ونحن نتناول الكسكسي المغربي بالسمك في قاعة الطعام المجاورة للمتحف. قال مبتسماً: «يعتقد معظم الغربيين أن السعودية ليست سوى أرض صحراوية بها آبار نفط، فهم لا يعرفون أن المملكة كانت جسراً بين الشرق والغرب، وقد اضطلعنا بهذا الدور في الألفية الرابعة قبل الميلاد وسنواصل لعب هذا الدور في المستقبل، كذلك يتحتم علينا على المستوى الخارجي أن نصحح الصورة الخاطئة عن بلادنا. وفي الداخل، علينا أن نعرّف الشعب بتراثه. نود أن نوضح للجميع، أجانب وسعوديين، كيف أننا شاركنا في صنع تاريخ البشرية، لم نفعل ذلك في الحقبة الإسلامية فقط، بل قبل الإسلام أيضاً».
وفي متحف اللوفر، تقول بياتريس أندريه سالفيني، المنسقة المشاركة للمعرض بالتعاون مع الغبان، وهي مديرة قسم الآثار الشرقية في اللوفر: «لقد سلط معرض «طرق الجزيرة العربية» الضوء على مسيرتي المهنية، فتجميع عناصر المعرض برمتها، كانت أمراً محبباً للغاية بالنسبة لي». ومع الغبان وغيره، سعى المنسقون إلى موازنة رؤية الجمال بعيون حديثة عند مشاهدة «قطع أثرية تمثل نقطة تحوّل».
ولأن العديد من الغربيين يتصورون أن شبه الجزيرة العربية لا تحوي أكثر من رمال لا نهاية لها، يؤكد المعرض التنوع الجغرافي في الجزيرة العربية، عبر صور بانورامية باللونين الأسود والأبيض بحجم الحائط التقطها المصور البرازيلي همبيرتو دا سيلفيرا، الذي قضى سنوات في المملكة.
بلاد لقاء الحضارات واستيعابها
ويقول المنسقون: «أردنا أن يعي الزوار أمام كل قسم أن هناك أشخاصاً يعيشون في الواحات والمناطق الجبلية، وأن ثمة مراكز حضارية مهمة كانت هناك، لقد أردنا تغيير المفاهيم المأخوذة عن المملكة».
وعلى الرغم من كونها خبيرة، تعترف أندريه سالفيني بدهشتها البالغة من تنوع المكتشفات وثرائها.
وتقول معقبة: «إن تاريخ المملكة العربية السعودية صنعه التواصل مع الحضارات المحيطة بها، لكن على الرغم من هذه المؤثرات الخارجية، فقد استوعِب كل ما هو آت من الخارج وأعيد تفسيره على نحو أصيل لا يحتمل الخطأ. ويبدو الأصيل واضحاً تماماً في صالة العرض الأولى، حيث يلتقي القديم بالحداثة: إذ هناك ثلاثة مجسمات مهيبة لمقابر صنعت من الحجر الرملي، تبدو كما لو كانت من صنع نحات تجريدي من القرن العشرين، على الرغم من مرور أكثر من 5000 سنة عليها».
ظهور قوافل الجمال
وفي الفترة من عام 1200 حتى 1000 قبل الميلاد، أحدث ظهور النقل بالجِمال ثورة في حركة التجارة العربية. ومع ظهور نُزُل القوافل المترامية الأطراف، تحوَّلت واحة تيماء في شمال غرب المملكة إلى مفترق طرق بدائي وحيوي على طريق اللُّبان والبخور الممتدة من اليمن شمالاً إلى بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. وقد توافد ألوف التجار، الذين انضموا إلى تلك القوافل، ومعهم نسّاخ وحراس مسلحون، على بستان النخيل الشاسع هذا، الذي أحيط في بعض أجزائه بحائط يصل ارتفاعه إلى ستة أمتار (19 قدماً).
وبشكل عام، حققت جزيرة تاروت ثراءً بفضل هذه التجارة. ويقول الغبان مازحاً: «كل محطة على طريق القوافل هي بمثابة بئر زيت الوقت الحاضر، ويشير إلى أن التجار كانوا يدفعون بسخاء لأصحاب النزل من أجل توافر الإقامة والطعام والكلأ لأنعامهم علاوة على الأمن.
وتجدر الإشارة إلى أن كلا من تيماء وددان (المعروفة اليوم باسم العلا، قد ورد ذكرهما مراراً في كتاب العهد القديم. وقد لفت ازدهار تيماء أعين الحكام البابليين الطامعين.
ففي القرن السادس قبل الميلاد، خرج الملك نابونيدس من عاصمة بلاده، بابل، لاحتلال تيماء والسيطرة على تجارة البخور والمر والتوابل والمعادن والأحجار الكريمة، وأحضر معه آلهته: شاهد مسفوع من الحجر الرملي يظهر رسوماً باهتة للملك والآلهة البابلية ونقوشاً مسمارية تصوّر التفاني في خدمة المعبد.
وهناك نحت آخر يسمى بـ «مكعب الحمرا»، على اسم المحراب الذي عثر عليه، ونُحت بعد مرور نحو قرن على رحيل نابونيدس في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد، يلخص بوضوح أكثر، مزيج الثقافات المماثلة في تيماء.
وقد وشعت أندريه سالفيني علامات على العناصر التوفيقية لهذا النحت: «كاهن بابلي يقف أمام ثور أبيس الإله المصري وتظهر في الخلفية صورة رموز مجنّحة ونجمة ذات ثمانية رؤوس مأخوذة على ما يبدو من حضارة الأناضول. وتقول: «على الرغم من استعارة التخيلات من ثقافات أخرى، إلا أنه فن فريد بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، فهو يمتلك هوية عربية أصيلة تختلف عن بلاد ما بين النهرين ومصر وسوريا».
لحيان: حضارة أخرى من البوائد
وإبان الفترة نفسها تقريباً التي كان يحتل فيها نابونيدس تيماء، كانت ددان تنمو وتزدهر في وادي العلا الخصب حيث بساتين الفاكهة والمحاصيل المروية والمراعي باعتبارها عاصمة لواحدة من أقدم القوى الكبرى في شبه الجزيرة الأقل شهرة: لحيان.
وعلى الرغم من الكشف الجزئي عن الآثار التي كانت تحويها أطلال المدينة أوائل القرن العشرين على يد الفرنسيين أنطونين جوسين ورفاييل سافينياك، استطاع مجموعة من علماء الآثار في جامعة الملك سعود منذ ستة أعوام فقط كشف المساحة الكاملة لموقع يبلغ طوله نحو 300 متر (960 قدماً) وعرضه 200 متر (640 قدماً) عبر سهل صخري، حسبما أفاد سعيد السعيد، عميد كلية السياحة والآثار بالجامعة.
ويقول الغبان «كانت لحيان لا تختلف عن المملكة النبطية لاحقاً من حيث كبر المساحة والأهمية، على الرغم من أننا لا نعرف عنها الكثير». وقد أشار المؤرخ الروماني بليني الكبير في القرن الأول باقتضاب إليها عندما أطلق على خليج العقبة اسم «خليج لحيان».وقد غطت لحيان المساحة نفسها من الأرض التي حكمها في وقت لاحق الأنباط، كما ألمح الغبان، من العقبة جنوباً الى المدينة المنورة في الوقت الحاضر.
وخلال نحو 400 سنة، وحتى غزو الأنباط لمنطقتهم في القرن الثاني قبل الميلاد، سيطر اللحيانيون على طرق التجارة من الصين والهند واليمن وصولاً إلى بلاد ما بين النهرين وسوريا ومصر.
ومن المكتشفات المذهلة التي توصل لها فريق جامعة الملك سعود حول اللحيانيين ثلاثة تماثيل ضخمة من الحجر الرملي الأحمر، اكتشفت في عام 2007م بالقرب من محراب معبد الكريبة شمال العلا.
ويزيد طول كل تمثال من التماثيل الثلاثة التي تصور الملوك في معرض «طرق الجزيرة العربية» على مترين (6 أقدام وخمس بوصات). وتقف التماثيل وأيديها مرسلة إلى جنبيها، في صورة تذكرنا بالنماذج المصرية. إلا أن التصوير الطبيعي لجذوعهم العضلية يشير إلى تأثير اليونانيين.
وبينما كان النحاتون اللحيانيون يرسمون معالم مدرستهم الفنية الهجينة، كان أسلافهم من المصريين واليونانيين هم مصدر إلهامهم. وبحلول القرن الأول الميلادي، أصبحت مدائن صالح، التي تبعد 22 كيلومتراً (35 ميلاً) شمال العلا، المحطة الجنوبية لمملكة الأنباط للسيطرة على طرق القوافل العربية. وواصل المعرض تقديم صور مفصلة للمقابر النبطية محفورة في جروف صخرية.
آثار الحقبة الرومانية
وتظهر واجهات المقابر مزيجاً انتقائياً من الأفاريز المصرية والمتاريس الآشورية ذات البروز البسيطة وزخارف المداخل اليونانية والرومانية الثلاثية الشكل. وقد احتل الرومان المنطقة أوائل القرن الثاني، وهناك لوحة حجرية، اكتشفها عالم الآثار ضيف الله الطلحي في عام 2003م، توثق ترميم أسوار المدينة إبان عهد الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس. ومن بين النقوش اللاتينية النادرة التي عُثر عليها في شبه الجزيرة العربية، نص يأمر المواطنين المحليين بدفع أموال لفيلق المحاربين الرومان لتنفيذ أعمال البناء.
الكلمة المكتوبة
تدل الأسئلة العلمية الكثيرة التي أثارتها أخيراً على نحو جزئي، المعروضات التي ضمها معرض «طرق الجزيرة العربية» على تطور اللغات والكتابة.
إن ما يطلق عليه الخبراء اسم «الأدلة النقشية» (أي الكتابة بالنقش على الحجر والبرونز ونادراً على الخشب) يكون حاضراً على الدوام لغرض عملي هو حماية مقبرة، وتكريم الآلهة والحكام، ووصف الطقوس أو كتابة العقود.وفي كتاب المعرض المصوَّر، يوضح كريستيان روبين المتخصص في دراسة النقوش والمؤرخ في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث بقوله: «فيما نعرف الكثير من نتف الشعر الجاهلي في القرن السادس، لم تبق قصص ولا أساطير أو وثائق تتحدث عن الزراعة وإدارة المياه وغيرها من الأعمال الفنية الأخرى. فمعرفة هذه الأمور متروكة بلا مصادر». ويضيف قائلاً: «في الواقع، يبقى السؤال هل كان لهذه المصادر وجود أصلاً. ومع ذلك، تكشف الدراسات اللغوية التعقيد المتعاظم للتاريخ الثقافي في جزيرة العرب».
لغات متعاقبة قبل لغة القرآن
تعود أقدم الكتابات في شبه الجزيرة العربية إلى مخطوطة سينائية من عام 2000 إلى 1500 قبل الميلاد. وبحلول العام 1000 قبل الميلاد، كانت هناك مجموعتان لغويتان هما لغة شمال الجزيرة القديمة ولغة جنوب الجزيرة القديمة.
بدأت اللغة السابقة للغة العربية الفصحى، السابقة للغة القرآن الكريم، التي أصبحت في النهاية اللغة العربية الحديثة، في التطور في القرن الأول قبل الميلاد تقريباً. وقدَّم معرض «طرق الجزيرة العربية» شاهداً من واحة تيماء، يعود تاريخه إلى منتصف القرن السادس قبل الميلاد، عليه حروف مسمارية تشير إلى أنها نقشت على الأرجح بناءً على أوامر من نابونيدس، الملك البابلي الذي احتل الواحة في ذلك الوقت.
وبحسب روبين، اعتمد البابليون أيضاً الآرامية التي كانت سائدة في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم. أما في المنطقة، فيمكن أن نراها على نصب حجري يعود للقرن الرابع قبل الميلاد، يُعرف باسم «الشاهد الأحمر»، نسبة إلى أحد الملاذات في تيماء حيث عثر عليها.
وفي العلا (ددان القديمة)، يجد المرء نقوشاً بلغة اليمن «الجنوب» أو بلغة شمال الجزيرة القديمة التي تطوّرت في عهد اللحيانيين. ومن طلاسم هذه اللغة، تمكَّن علماء النقوش من فك رموز سجلات العشور السنوية التي كان يدفعها عبدة الآلهة المحلية، لقاء عقوبات الجرائم وترسيم حدود المملكة الجغرافية.
ويشير سعيد السعيد، عميد كلية السياحة والآثار في جامعة الملك سعود في الرياض، إلى أنه «كان واضحاً» من الكتابات أن ديدن لم تكن فقط عاصمة مملكة لحيان، بل كانت أيضاً موقعاً للحج ومركزاً للقضاء».
وعرض في معرض «طرق» أحد الشواهد الحجرية من قرية الفاو يعود تاريخه إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهو أقدم نص معروف باللغة العربية، على الرغم من أنها كُتبت في الواقع باللهجة التي تسبق اللغة الفصحى التي تستخدم حروف اللغة الجنوبية القديمة.
وهناك لوحة برونزية من القرن الأول قبل الميلاد أيضاً مكتوبة بلغة الجنوب تروي رحلة تجارية إلى سلوقية بالقرب من بغداد. كذلك عُثر على نقوش لحيانية ونبطية في قرية الفاو، تشير إلى أنها لم تكن مركزاً للتجارة فقط بل كانت أيضاً موطناً لأناس أصولهم من مناطق تبعد 1000 كيلومتر (620 ميلاً) إلى الشمال. ووفقاً لروبين، استخدمت الأبجدية العربية، المأخوذة من الكتابات النبطية والآرامية أول مرة في أوائل القرن السادس الميلادي. فالنص الذي يسميه عالم النقوش الفرنسي «شهادة ميلاد» اللغة العربية، هو عبارة عن نص من ثلاث لغات، الآرامية واليونانية والعربية، يعلن تشييد هيكل مسيحي بالقرب من حلب عام 512. وقد أعلنت هذه الحروف الأبجدية العربية الجديدة انفصالاً واضحاً عن اللغتين العربية الأولى والآرامية، وفيما يزيد قليلاً على 100 سنة، أصبحت هي لغة الإسلام.
ولمسات شخصية أيضاً
وفي جدارية يعود تاريخها إلى القرن الأول أو الثاني الميلاديين، يظهر رجل، هو صاحب الجدارية الثري على الأرجح، يشبه ديونيسوس من المنطقة العربية الجنوبية، بشعره الأسود الكثيف الجعد وشاربه المتدلي النحيل جداً وعينيه الواسعتين.
وقد صور الرجل وهو واقف بجوار خادم يرتدي سترة وسط لوالب الكرم وعناقيد العنب في مشهد يبدو أنه داخل فيلا رومانية أو بطلمية مطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. كذلك، كان هناك رأس بالحجم الطبيعي مصنوع من البرونز، تكسوه قصة الشعر الجعد نفسها التي كانت دُرجة رومانية اتبعها شخص مجهول من وجهاء العرب.
لكن وفقاً لأندريه سالفيني، صنع هذه القطعة في الواقع أحد الحرفيين في قرية الفاو، حيث كانت صناعة البرونز أكثر تطوراً منها في روما أو اليونان في ذلك الوقت. وفي ورشة عمل محلية أيضاً، كانت هناك مغرفة فائقة الجمال طويلة مصنوعة ببراعة متقنة من الفضة ومطلية بالذهب يعلوها رأس وعل. وهناك أوان أخرى كانت عبارة عن مزيج من الأدوات المنزلية صُنعت باليد في محترفات الزجاج وأفران السيراميك، والقطع المستوردة الفارهة، من إيطاليا، كالوعاء المضلع ذي اللونين الأزرق والأبيض والكأس التي تحمل نقوشاً مماثلة.
ربما تكون قرية الفاو قد نشأت عند أطراف واحدة من أكثر الصحاري وحشة في العالم، إلا أن النخبة فيها قد انغمسوا في اعتناق الأذواق الرفيعة وانغمسوا في حياة على الطراز الإغريقي واستوعبوا أنماطاً مرهفة.
مملكة الجرهاء: سادة النقل
في الفترة نفسها التي ازدهرت فيها قرية الفاو في الغرب، كانت مملكة الجرهاء في الشرق قد أحرزت ثروة كبيرة من خلال التجارة البحرية وتجارة القوافل في البخور والعطور واللؤلؤ والتوابل والعاج والحرير الصيني. يقول عوض بن علي السبالي الزهراني مدير المتاحف العام في المملكة العربية السعودية: «كان أهالي الجرهاء هم سادة النقل البري والبحري ويعزى هذا إلى مهارتهم في بناء السفن ومعرفتهم بالرياح الموسمية».
ويضيف في مقالته التي تحدث فيها عن المملكة في الكتاب المصور: «لقد جنوا كذلك ثمار المكاسب الكبيرة من صيد اللؤلؤ في منطقة الخليج العربي، والرسوم الجمركية المفروضة على البضائع التي تمر عبر بلدهم». وكما هو معروف في شتى أنحاء العالم القديم، أقام شعب الجرهاء في مساكن كبيرة مزخرفة بالعاج واللؤلؤ والأحجار الكريمة، وكانوا يتناولون الطعام في آنية من الذهب والفضة وينامون على أسرة مطلية بالذهب، حسب روايات القرن الأول التي سردها بليني الكبير والجغرافي اليوناني سترابو.
ثاج: عاصمة الجرهاء؟
لكن على الرغم من تاريخها الممتد أكثر من 600 سنة، تقريباً من عام 300 قبل الميلاد إلى عام 300م، اختفت الجرهاء بعد ذلك ولم يبق لها أثر وباتت درباً من أطلس الرمال، فأرهقت محاولة الاهتداء إلى موقعهم علماء الآثار وأصابتهم بالإحباط سنوات، وبحسب الزهراني دام هذا الشعور على الأرجح إلى أن اكتُشف القناع الذهبي والقلائد الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة والياقوت واللؤلؤ والفيروز ورقائق الذهب الممهورة بصور إلهَيْ الإغريق زيوس وأرتميس في مدينة ثاج عام 1998م.
ومنذ ذلك الحين، اكتُشفت قصور ومنازل ومبانٍ عامة بمحاذاة جدار بابلي عظيم طوله 335 متراً (1100 قدم) وعرضه نحو خمسة أمتار (16 قدماً). وأضاف الزهراني استناداً إلى أكوام الرماد والأنقاض الضخمة التي اكتشفت، أن علماء الآثار خلصوا إلى أن ثاج كانت مركزاً رئيساً لصناعة الفخار وتماثيل الخزف والمباخر. كذلك تشير العملات المعدنية إلى احتمال وجود معابد لم تُكشَف مواقعها حتى الآن.
وتقود الأدلة العلماء، بمن فيهم الزهراني والغبان، إلى الاعتقاد بأن هذا الموقع كان عاصمة مملكة الجرهاء.
العصر الإسلامي تحت شمس التاريخ
جدير بالذكر أن أكثر من ثلث المعرض قد خُصِّص للعصر الإسلامي الذي بدأ في أوائل القرن السابع الميلادي، ويبرز المعرض الطرق التي سلكها الحجاج من مكة المكرمة والمدينة المنورة وإليهما منذ نحو 13 قرناً. وخلال هذه الفترة التاريخية الأكثر حداثة والمعروفة جيداً، وكأنها تحت أشعة الشمس التاريخية، احتوى معرض «طرق» على الكثير من المفاجآت: على سبيل المثال، اكتشف الغبان على طريق الحج الآتية من مصر عتبة بدائية يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر عند ميناء الحوراء المطل على البحر الأحمر، عليها نقوش من الزهور وأجزاء من آية الكرسي باللغة العربية وأحرف جميلة مزينة بسعف النخيل أو رسوم البجع.
كانت الطريق المؤدية إلى المدن المقدسة من العراق معروفة من القرن الثامن بأنها درب زبيدة، وذلك تكريماً لزبيدة امرأة الخليفة العباسي هارون الرشيد لتحسينها الطريق في أعمال مولتها بنفسها.
وعلى بعد نحو 200 كيلومتر (125 ميلاً) شمال شرق المدينة المنورة، كانت مدينة الربذة تمثل محطة أساسية بمحاذاة درب زبيدة. وأصبحت المدينة، التي تحولت إلى مركز للتعليم الديني مجهزة بمساجد وقصور والعديد من الآبار والمروج المترامية الأطراف لرعي الإبل والخيول، فأصبحت المكان المفضل لاستراحة الحجيج، بدءاً من العوام وحتى الخلفاء، ومنهم الخلفاء المنصور والمهدي والرشيد (الذي مر فيها تسع مرات). ومثلما اختفت مملكة الجرهاء، اختفت معالم الربذة تماماً تقريباً، عندما تحوَّلت طريق الحج في القرن العاشر، ولم يتسن التحقق من موقعها إلا من خلال أعمال الحفر التي بدأت في العام 1979م.
التعليم بالمجرفة
أحياناً يحالف الحظ علماء الآثار. ففي أوائل عام 2010م، شرع مالك عقار في مدينة الظهران في حفر الأساس لإقامة منزل له، لكنه لاحظ وجود بعض قطع الخزف مطمورة، فبادر إلى إبلاغ سلطات الآثار. وعندما توجه فريق من مدينة الدمام إلى الموقع، أدهشهم ما شاهدوا. يقول علي الغبان، نائب رئيس الآثار والمتاحف في الهيئة العامة للسياحة والآثار: «إنه موقع رائع، واستطعنا على عمق 12 متراً أن نكشف ثلاث طبقات منفصلة من الإشغال يعود تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد، علاوة على أكثر من 80 قطعة أثرية».
إلا أن الأروع كان منزلا كاملاً يعود تاريخه للقرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد، كان مزوداً غرفَ تخزين الحبوب.
وأضاف الغبان يقول: «بعد تحليل المواد ستتكون لدينا صورة أدق بكثير عن مدينة الظهران القديمة، إلا أن هذا الاكتشاف العارض أظهر لنا أن مجرد تحديد موقع محتمل، يحتم علينا أن نتحرك بأقصى سرعة، وإلا واجهنا خطر فقدانه».
ووفقاً لضيف الله الطلحي، الرئيس السابق لقسم البحوث في الهيئة العامة للسياحة والآثار، يوجد في المملكة العربية السعودية نحو 4000 موقع أثري معروف، بالإضافة إلى الألوف من نماذج الفن الصخري، ويشير إلى أن الهيئة العامة للسياحة والآثار والسلطات الإقليمية تطلق حملات في جميع أنحاء البلاد لزيادة الوعي بالتراث الأثري الغني الذي تحتويه المملكة.
تثقيف المواطن وتدريب الطلاب
ويؤكد الغبان أن «حماية المواقع بالقوانين لا تُعد كافية»، إذ علينا أن نشجع كل مواطن ليكون حامياً لثقافته، ويلفت النظر إلى أن وزارة التربية والتعليم تعكف الآن على تثقيف طلابها بشأن الموارد الأثرية، بينما يجري تطوير المتاحف المحلية والمعالم الأثرية من أجل السياحة الثقافية.
وبالفعل هناك سبعة متاحف إقليمية جديدة تحت الإنشاء. كما يجري الآن ترميم المواقع المركزية وتجديدها، مثل مقابر الجروف الصخرية الموجودة في مدائن صالح، التي أدرجت ضمن قائمة منظمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي في عام 2008م، ومدينة الدرعيّة المبنية من الطوب اللبن والتي كانت عاصمة الدولة السعودية الأولى، لتصبح وجهات سياحية.
ويعاد الآن تأهيل القرى القديمة للسماح للزوار بالإقامة في المنازل التقليدية المزودة بوسائل الراحة الحديثة. وأوضح الغبان «إننا ننظر إلى الآثار بصفتها قطاعاً للتنمية».
فريق دولي ودعم رسمي
وفي هذا المجال، يتعاون علماء الآثار السعوديون الآن مع 14 فريقاً دولياً من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وأستراليا للتنقيب عن الآثار في جميع أنحاء البلاد.
وتجدر الإشارة إلى أن تدريبات علم الآثار تسهم في زيادة عدد الطلاب السعوديين المقبلين على القطاع. وبحسب الغبان، تتعاون الهيئة العامة للسياحة والآثار مع أرامكو السعودية لإعداد قائمة مفصلة بأصول المملكة الأثرية والتاريخية.
كذلك يعاد الآن تصميم موقع الهيئة، التي لا تزال تنشر «الأطلال»، وهي مجلة علمية توثق المكتشفات في مختلف أنحاء البلاد.
وتشيد بياتريس أندريه سالفيني، المنسقة المشاركة لمعرض «طرق الجزيرة العربية» ومديرة قسم الآثار الشرقية في متحف اللوفر، بجريدة «الأطلال»، وتشير إلى أن «المملكة من الدول القليلة التي توفر هذه البحوث والتراجم بالمجان، وفي الوقت نفسه تغري الفرق الأجنبية لمساعدتها، وهذه سياسة شجاعة للغاية».
حصيلة آثار رائعة
كتبت كارين جوفين، أمينة متحف اللوفر المستشارة العلمية لدى إدارة المتحف الإسلامي: «إن من أروع ما استُخرج من قرية الربذة زهرية عراقية كبيرة خضراء اللون عليها زخارف محفوظة حفظاً جيداً. وثمة نماذج لمجموعة من أواني الخزف الرائعة القادمة من العراق أيضاً. وهناك جزء من جدار يعود تاريخه إلى القرن التاسع، يحمل نقشاً بالخط الكوفي الأسود على خلفية من تراب صلصالي حمراء وصفراء، تشبه جداريات مماثلة في العراق.
إلا أن الأثر الأكثر إثارة في القسم الإسلامي بمعرض «طرق» هو في القاعة ذات الضوء الخافت التي تضم اللوحات الجنائزية، حيث يوجد صف من الأحجار البازلتية ذات اللون الأحمر والأرجواني والرمادي مضاءة بأنوار خافتة، ويرجع تاريخها إلى ما بين القرنين التاسع والسادس عشر، مستخرجة من مقبرة المعلاة في مكة المكرمة، منقوشة عليها أسماء أشخاص وقبائل، وأصول الموتى وأحياناً مهنهم، وقد تحمل استثناءً أسماء الفنانين الذي نحتوها.
وتوضح جوفين أن «هناك وثائق تاريخية واجتماعية تعكس صورة المجتمع المكي، بالإضافة إلى آل الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، والنصب التذكارية التي تخلد ذكر الحجيج من جميع أنحاء العالم الإسلامي، بدءاً من الأندلس إلى إيران والعراق وسوريا وآسيا الوسطى والهند». وبغض النظر عن أن هناك أكثر من 600 من تلك الأحجار، التي ينتمي معظمها إلى المتحف الوطني في الرياض أو متحف قصر خزام في جدة، لم ينشر أول كتاب مصور عنها إلا في العام 2004م، وكان باللغة العربية.
آثار من عصور متعاقبة
وقد نقبت جوفين في المجلد الموسوعي لجميع النقوش الـ 600 لاختيار الأحجار الثمانية عشر المعروضة. ولتتبع تطور الأنماط الزخرفية والخاصة بالخطوط. تقول جوفين إنها اختارت نماذج من العصور المتعاقبة. وتشير إلى أن الآثار الأولى نقشت بالخط الكوفي الواضح، لكن بحلول القرن الثاني عشر ساد نمط كتابة أكثر مرونة وهو أحرف النسخ المتصلة. وبالتمعن في النقوش، حصلت جوفين على كنز من المعلومات عن الشخصيات الغنية والفقيرة والشهيرة وحجاج مجهولين من بلاد بعيدة. ومن بين الأحجار كان هناك شاهد يعود للقرن العاشر يسرد الأنساب العريقة لتسعة أجيال مضت.
وكان هناك شاهد من القرن التاسع حيث تكرم إحدى الإماء على أنها أم لابن سيدها. وكان هناك نصب على شكل هرم، منقوش عليه صورة قنديل مسجد يتدلى أسفل القبة، مقام على قبر إمام من القرن الثاني عشر من مدينة مكناس المغربية.
وهناك نقش دائري غير تقليدي يخلد ذكرى أحد قضاة منطقة بحر قزوين في طبرستان، إذ هاجر هذا القاضي إلى مكة المكرمة في سبعينيّات القرن الثاني عشر وأسس أسرة من مشاهير القضاة.
أما صالتا العرض الأخيرتان فتحويان مقتنيات أخاذة: قماش من الحرير اللامع ذي اللونين الأحمر والقرمزي وباب ضخم مصفح مطلي بالذهب والفضة وكلاهما برع فيهما السلاطين العثمانيون لتزيين الكعبة المشرّفة، بالإضافة إلى لوحات خزفية للمدينتين المقدستين، وصورة للملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، وبجواره سيفه وعباءته.
لكن الشواهد الجنائزية كانت أكثر الأشياء تعلقاً بذاكرتي على نحو عميق. فعلى الرغم من أنها كانت تحدد نهاية الطريق لمن تخلد ذكراهم، فقد تجاوزت نصوصها وبراعتها الفنية الغرض الأصلي منها، فأصبحت معالم مؤثرة تمتد على طول شبكة الطرق الأعظم بكثير، التي لم تربط فقط أراضي عالم قديم مفعم بالحركة، بل ربطت عالم ذلك الزمن بعالمنا.
كوادر
تاروت عاصمة دِلمون؟
بحلول منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد، أي قبل نحو 4500 سنة، ظهرت التجارة في منطقة الخليج مع اشتداد الحرارة وجفاف المناخ في شبه الجزيرة العربية.
يقدِّم المعرض تشكيلة كبيرة من مقتنيات هذه الفترة التي اكتُشفت في جزيرة تاروت عام 1966م، على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة، إبان تشييد الجسر الذي يربط اليوم جزيرة تاروت باليابسة. ويضم الكنز جراراً من الحجر الأملس رمادية وسوداء، وعدداً من الأواني والقطع، وقد نُقش على العديد منها صور ثعابين وقطط تشبه النمور، ونسور لها رأس أسد وأشياء أسطورية أخرى.
وفي مقال نُشر في الكتاب المصور، يرى عالم الآثار بوتس أن تاروت كانت المرفأ الأساسي، وربما كانت عاصمة حضارة دِلمون الأولى، وقد انتقلت دِلمون في وقت لاحق، عام 2200 قبل الميلاد تقريباً، إلى الجنوب والشرق باتجاه الجزيرة المعروفة اليوم باسم البحرين. وفي إطار ما يسميه علماء الآثار نمط الثقافات البينية، كانت هناك سفن مماثلة مصنوعة من الحجر الأملس متداولة على نطاق واسع في حركة التجارة من المشرق العربي إلى آسيا الوسطى، ثم تتحوَّل إلى سوريا وبلاد ما بين النهرين وإيران. وكانت خطوط التجارة تصل إلى الشرق الأقصى وإلى وادي فرغانة المعروف اليوم باسم أوزبكستان.
وعلى الرغم من اعتقاد الغبان بأن مقتنيات المعرض قد صنعت باستخدام الحجر المحلي في جزيرة تاروت، يميل غيره من العلماء، بمن فيهم بوتس وأندريه سالفيني، إلى أن أصولها تعود إلى جنوب شرق إيران.
إلا أنه لا خلاف على أن تمثال الرجل المصنوع من الحجر الجيري، الذي يظهر وهو يصلي على الأرجح، قد نحت في تاروت.
ويشبه هذا الرجل ذو اليدين المتشابكتين والرأس المستدير والعينين الجاحظتين وهو يرتدي نطاقاً ثلاثياً، السومريين الذين عاشوا في الحقبة نفسها، نحو العام 2500 قبل الميلاد. إلا أن ساقيه المربعتين وركبتيه اللتين تظهر عليها بروز كثيرة تجعلانه يشبه كذلك دمى وادي السند.
ولعل أكثر ما يثير الدهشة بحسب أندريه أن التمثال الذي لا يتعدى طوله متراً واحداً (39 بوصة) يُعد أكبر تمثال على غرار تماثيل بلاد ما بين النهرين يُكتشَف حتى الآن، وهو أكبر بكثير من أي تمثال آخر اكتُشف في منطقة دجلة والفرات نفسها.
وتقول أندريه سالفيني: «لقد استقى النحات على ما يبدو بعض السمات من النماذج الموجودة في بلاد ما بين النهرين ووادي السند ليضفي مسحة من الجمال الخاصة به.
ثقافة حرة
يقول الغبان: «كانت هناك حرية كبيرة في الثقافة تستمد التأثر من كل مكان، وكما يبرهن المعرض، فإن انفتاح العرب يُعد أمراً جديداً، وهو في حقيقته أمر وجد منذ قرون وقرون».
رجل عمره 5500 سنة
وضمت المعروضات، تمثالاً جذعياً لإنسان ضئيل بعيون كئيبة، وقد عقدت يده على قلبه في مشهد يبرز روعة التعبير، تعززه الخطوط الرفيعة المحفورة ببراعة حول عظم الترقوة واليدين والذراعين علاوة على الثغر الساخر والأذنين الغريبتين على شكل مقبض. وتقول أندريه سالفيني ضاحكة متلعثمة: «لقد سميته «رجل المعاناة». وسرعان ما أصبحت الشخصية الغامضة نجم المعرض وخُصت بلقب «صبي الملصقات» لهذا المعرض، وبات لها حضور في كل مكان إذ وُضعت على اللافتات داخل المتحف، وعلى غلاف طبعة الكتاب المصور الفرنسية.
وبحسب أندريه سالفيني وُضع التمثال، الذي عُثر عليه في مدينة حائل شمال المنطقة الوسطى في المملكة، في هيكل في الهواء الطلق.
واستناداً إلى أوجه الشبه مع اللوحات الأخرى المحفورة في اليمن مع بقايا عظمية بشرية يعود تاريخها إلى الفترة بين 3500 و3100 قبل الميلاد، تقول أندريه سالفيني: لقد صُنع «رجل المعاناة» في الحقبة نفسها.
قرية الفاو عند طرف الربع الخالي
على بعد نحو 1000 كلم (620 ميلاً) جنوب مدائن صالح، على الطرف الغربي من صحراء الربع الخالي، ظهرت قرية الفاو، أحد المراكز التجارية التي ظلت مزدهرة أكثر من 600 سنة، من القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الرابع بعد الميلاد، وهي واحة قصور مبنية من الطين الأحمر والمعابد والأسواق، وكانت كذلك بمثابة مقبرة كبيرة، وهي تضم أيضاً ما لا يقل عن 120 بئراً.
كانت مدينة للمزارعين ورعاة الماشية والأغنام والإبل، وباتت «محطة للتجار والمسافرين والحجاج من الممالك المختلفة في جزيرة العرب» حسبما قال عبد الرحمن الأنصاري، عالم الآثار المخضرم الذي كان مسؤولاً عن أعمال التنقيب هناك من 1971 حتى 1995م، وكتب في الكتاب المصوّر الخاص بالمعرض عن قرية الفاو، قائلاً: بصفتها عاصمة مملكة كندة، كانت قرية الفاو «مركزاً دينياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً في قلب شبه الجزيرة». وأقيم السوق المركزي في قرية الفاو، التي يعني اسمها «قرية الفجوة»، باستخدام كتل من الحجر الجيري والطوب، وكان السوق من ثلاثة طوابق تحيط به سبعة أبراج للتخزين. وهناك ثلاثة معابد وهيكل كنسي منفصل من الحجر الجيري، يدلّ على تنوع الحياة الدينية آنذاك في قرية الفاو.
وشيدت المنازل من طابقين بفضل الجدران الحجرية التي يبلغ سمكها نحو مترين (6 أقدام) وكان أصحابها يتفاخرون بوجود شبكات إمداد للمياه والمراحيض في الطابق الثاني.
ومن الأشياء اللافتة هناك جدارية تصوِّر منزلاً متعدد الطوابق وقد رسمت على نوافذه أشكال مختلفة، وهو يشبه في تصميمه المساكن التقليدية الموجودة الآن في اليمن وجنوب غرب المملكة العربية السعودية.
وضم المعرض أشكالاً للبخور من اليمن، وتماثيل برونزية للإله حربوقراطيس الإغريقي جُلبت من مصر (حيث كان يعبد في فترة من الفترات على أنه حورس)، بالإضافة إلى لوحات على الطراز الروماني وسيراميك الأنباط وجميعها توضح إيضاحاً رائعاً اتساع رقعة شبكة التجارة التي كان ملتقاها قرية الفاو.
أين الأحبة والجيران؟
هناك شاهد ربما يكون الأكثر روعة وجمالاً، يعود للقرن الثاني عشر، يحيي ذكرى أب وابنته توفيا أثناء الحج. وبحسب جوفين يُحتمل أن يكونا من المغرب. وهناك بعض الشواهد التي أعيد استخدامها، منها مرثية حزينة لشاب أندلسي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر أيضاً، عليها نقوش «لصانع عطور محترف اسمه علي» على أحد جانبيها، أما الجانب الآخر فنقشٌ بدا على شكل محراب. وقد حزن عليه أبواه واقتبسا أبياتاً من قصيدة لشاعر أندلسي في القرن العاشر، هو ابن أبي زمنين الصوفي:
الموتُ في كلّ حينٍ ينشرُ الكفَنا ونحنُ في غـفلةٍ عـما يُـرادُ بنا
أين الأحبةُ والجيرانُ؟ ما فعلوا؟ أيـنَ الـذين هُـمُ كانوا لـنا سَكَنا
سقاهمُ الموتُ كأساً غيرَ صافيةٍ فصيَّرَتهم لأطباقِ الثرى رُهُنا