لا تقبل الفلسفة بخطاب يجاورها سوى الشعر. وإن كانت تبالغ في توسيع المسافة ما بين الذات الشاعرة بمنحاها التخييلي، والذات المتفلسفة بنزعتها العقلية. فبموجب ذلك التفريق بين الوعي والشعر أعلن أفلاطون جمهوريته الفاضلة، التي طرد الشعراء منها بدعوى أنهم كائنات فوضوية، لا أخلاقية، ولا منهجية، وبجعل الشعر هو المعادل للزيف، وأن الشاعر يمتلك من سلطة الكذب ما يكفي لتزوير الحقيقة، والقدرة على الانفلات من الوجود، ومن ثم فهو صورة من صور التردي الجسدي، مقابل مناقبية الفيلسوف وروحانيته وعقلانيته.
ويبدو أن هذا النمط من الفهم هو الذي تسبب في اضطهاد الشعر، حيث تمت موضعته كحالة من حالات التيه والهوى مقابل رصانة العقل، أو هكذا تكرّست فكرة التعارض بين الخطابين: الفلسفي والشعري، مع ميل واضح لتغليب الفلسفة بوصفها جوهر التفكير البشري، وتاج الفضائل الإنسانية، وخزان الحقائق والمعاني العليا. مقابل تضييق واضح لدروب الشعر الملعون، الذي صار بمنزلة المعادل للفسق والمجون، المعبِّر عن وقائع حياتية غير لائقة.
وعلى هذا الأساس تطور التعارض الشكلي بين الخطابين، ليتحول إلى إشكالية أخلاقية، أدت بدورها إلى انفصام في الأداء المعرفي، حيث أتهم الشعر بكونه كلمة هاذية تتشكل خارج يقظة العقل، وفي مدارات خارج الزمان، وبمعزل عن الذاكرة، أي في هوامش لا تتجاوب مع دقة الفيلسوف وحصافته. بمعنى أن الشاعر ترك ذاته نهباً لمجازات الكلمة، وشطح المخيلة، ليقيم خارج معانيها، فيما تمسك الفيلسوف بالكلمة كأداة أو كملكية خاصة يفكر من خلالها، ولا يستسلم لها لتستحوذ عليه.
ومن ذلك المنظور، بدا الشعر وكأنه قد غدر بالإنسان وخان نفسه، عندما اعتنق الكلمات وانفصل عن العقل، وبالتحديد عندما وظَّف الكلمات بطريقة غير شرعية. وعليه، حدث الطلاق، داخل العقل، المكون أصلاً من كلمات وأفكار. وهكذا أصبح كلمة لا عقلانية. كلمة مكرّسة لخدمة النشوة، التي بمقتضى الانغماس فيها، يتخلى الإنسان عن روحه، ويفقد وعيه، وكأنه يتنازل حتى عن جسده ليتركه لكائن آخر كسول، يقيم فيه وينطق بالأهواء نيابة عنه.
هذا ما يسرده التاريخ الإبداعي من انقسام العالم إلى دربين يجسدان الهم الإنساني، درب الفيلسوف الآمن والواضح، الكلياني المستنير، المنشغل بتفسير ظواهر الوجود. مقابل درب الشاعر الغارق في ذاته، المشتبك مع الجزئي والتفصيلي، بما يحقق له فردانيته، وهو افتراق إجرائي يمكن تقويضه بتلمّس صلة الوعي القائمة كجسر بين الشعر والفلسفة، بدليل وجود القلق كأساس لكل فلسفة، وانغراسه في الشعر أيضاً.
ثمة مصالحة ما بين حميمية الشاعر ووضوح الفيلسوف داخل التجربة الزمنية، تتأكد عند تأمل حبهما المشترك للحقيقة، وانهمامهما بمعاني الحرية، كل على طريقته، وعدم ادعائهما امتلاك الحقيقة الحصرية، حيث يجسان الوجود بحس الريبة، والبحث عن الحقائق في معارج العزلة، والشعور بالكآبة، والابتعاد عن العام بحثاً عن المعنى الخاص، فهذا هو حال الفلسفة بما هي حوار مع الذات، ينتهي إلى حيازتها، ومساءلة الوجود. وكذلك الشعر بما هو ارتداد ذاتي إلى الداخل والخارج في الوقت نفسه.