على الرغم من ضخامة الجهود المبذولة في مجال التوعية المرورية، إلا أن نسبة المخالفات والحوادث والوفيات الناجمة عن حوادث السير تكاد تقول بفشلها كلها تقريباً في العالم بأسره، وفي المملكة أيضاً حيث لا تزال نسبة الوفيات في هذا المجال تثير الخوف والحزن.
ومع العلم أن السلامة المرورية تتطلب تضافر عوامل ومؤثرات عديدة تشمل القوانين وتطبيقها وحال المركبات والطرقات وما إلى ذلك، تركز هدى صالح، بمشاركة فريق التحرير، البحث هنا عن الدور المأمول من حملات التوعية الهادفة إلى تغيير السلوك كجزء من منظومة عوامل السلامة المرورية، وتبحث في جملة الأسباب التي أبقت تأثير هذه الحملات دون المستوى الذي يستحق الذكر، مواكبةً أسبوع المرور العالمي الأول بين 23 و 29 من إبريل، والذي ركَّز على سلامة الطرق لصغار السن حتى الرابعة والعشرين من العمر.
من ضمن الحملات الإعلانية، هناك مجموعة مميزة بمهمتها تهدف إلى توعية عامة الناس من خلال لفت انتباههم إلى خطر ما، أو دعوتهم إلى تغيير سلوك معين قد يضر بهم. إنها مجموعة الإعلانات الصحية ، التي تندرج في إطارها حملة التوعية المرورية.
ولعل أفضل مدخل للحديث عن حملات التوعية المرورية قد يكون في مكان آخر، في حملة لقيت أصداءً واسعة، وحظيت بإجماع على أنها حققت حيزاً عريضاً من النجاح المرجو منها. فكثيرون يتذكرون الإعلان الذي بثته القنوات الفضائية للمرة الأولى عام 2001م، وعرف بخاتمته الشهيرة: أقم صلاتك، قبل مماتك . كان هذا الإعلان التوعوي الأول من نوعه في الوطن العربي الذي وجد صدىً ورواجاً تجاوز المتوقع له. وقد ردَّ البعض نجاحه إلى معرفة منتجيه بطبيعة الجمهور الذي يتوجه إليه الإعلان، وقدرته على ملامسة أوتار حساسة في شخصية المشاهد العربي عامة والسعودي خاصة.
لندع التفاؤل، جانباً!
نستطيع أن نردِّد العبارة الشهيرة الوقاية خيرٌ من العلاج إلى أن تبح أصواتنا. وكلنا نقولها باقتناع، ذلك أنها بديهية عقلية لا يمكننا أن نجد سبباً منطقياً للاعتراض عليها.. إلا أن علماء النفس يحدثوننا عن قناعة أخرى، تعيش في الخفاء، تقضي على إيماننا بهذه العبارة. هذه القناعة هي وسيلة نفسية دفاعية، يسميها علماء النفس -كما ذكر الدكتور أحمد النابلسي في ورقة مقدمة إلى مؤتمر حوادث السير في دول الخليج للعام 2002م- بالتفاؤلية الدفاعية (Optimistic Bias)، وتدفعنا إلى التعرض للأخطار المختلفة، بدءاً بالسمنة، ومروراً بالتدخين، وانتهاءً بالحوادث المرورية، حيث نعتقد في قرارة أنفسنا أن كل الحوادث والأخطار تصيب الجميع، ما عدانا!
هذا الاعتقاد هو ما أطلق عليه عالم النفس رالف شفاتسر اسم خطأ مونت كارلو ، حيث يظن الرابح في ألعاب الحظ والقمار، أن احتمال ربحه في المرات التالية لفوزه قد انخفض، وهذا غير صحيح بالطبع، إذ إن احتمال الربح يبقى وارداً نظرياً بغض النظر عن عدد مرات الربح والخسارة. ولا سبيل لمقاومة هذه التفاؤلية، إلا بمزجها بقليل من التشاؤم العقلاني إن جاز لنا التعبير، حيث لا يتَّبع المتفائلون الدفاعيون سلوكاً وقائياً سليماً إلا بعد أن يدركوا الخطر الذي يتهددهم، ويثقوا بقدرتهم على التصرف بنضج ووعي، وبالتالي بقدرتهم على تفادي هذه الأخطار واتقائها. وفي هذه الحال، قد تلعب وسائل الإعلام المختلفة دوراً فاعلاً في تفعيل وعي هذه الشريحة وغيرها من الشرائح المستهدفة، بالمخاطر التي تشكلها الحوادث المرورية على حياتهم ونوعيتها.. ومن هنا، أتت أهمية الحملات الإعلانية للتوعية المرورية، خاصةً مع تنامي دور الإعلام كمصدر للمعلومات، ومن ثم قبوله -بدرجات متفاوتة- كمهندس لمنظومة القيم الشخصية، في مقابل تراجع دور الأسرة التي كانت القائم الأساس على هذا البناء.
القاتل الكبير: سوء التصرف
تشير الدراسات المرورية، ومن أولاها دراسة أجريت في سبعينيات القرن الماضي إلى أن %94 من حوادث الطريق تعود أسبابها إلى سوء تصرف مستخدمي الطرق، وتعود النسبة الباقية إلى عوامل خارجية كحالة السيارة أو ظروف المناخ. ومراقبة رجال المرور للطرق منعاً للمخالفات المرورية أمر مهم ومثمر. ولكن من المستحيل عملياً مراقبة كل سيارة على الطريق. لذلك، كان من المهم أن يكون كل سائق رقيب نفسه، باتخاذه القرارات الصائبة فيما يتعلق بأبسط قواعد المرور. فإن لم يكن السائق كذلك، يكون من بجانبه أو مرافقه في السيارة حسيباً عليه، وعلى الأمانة التي ائتمنه المجتمع عليها بالسماح له بالقيادة. إذ يبدو للعاقل أن من العبث أن تتحول منظومة مبتكرة عظيمة كمنظومة المواصلات البرية إلى سلاح يقتل ويؤذي وبأعداد مخيفة يكشف عنها تقرير صادر عن الإدارة العامة للمرور للعام 1427هـ، ويشير إلى أن ستة عشر شخصاً، أغلبيتهم من الشبان، يُقتلون بسبب الحوادث المرورية في المملكة كل يوم على مدار العام، أي بمعدل شخصين كل ثلاث ساعات. والسبب؟ إساءة استخدامنا لهذه المنظومة. وهنا يمكن أن يتأتى لحملات التوعية المرورية الناجحة إصابة الهدف، ورفع مستوى الوعي بأهمية قضية السلامة المرورية لتصبح هماً عاماً يتسلل إلى مناقشاتنا في حياتنا اليومية مع أفراد الأسرة والأصدقاء، ويغير من مدى الأهمية التي نقيِّم بها سلوكياتنا على الطريق.
خطوات صغيرة تغيِّر الكثير
صممت منظمة الصحة العامة الكندية (CPHA) في أواخر العام 2005م مشروعاً بعنوان الحشيش والقيادة للقيام بحملة إعلانية توعوية ضد تدخين الحشيش قبل وأثناء القيادة. إذ إن الشبان الكنديين يتوهمون أن الحشيش مخدرٌ من دون أضرارٍ جانبية.
ولتحقيق هدف المشروع، طبَّقت المنظمة عدداً من استراتيجيات التسويق التي تقوم بها الشركات التجارية عند تخطيطها لحملة دعائية لمنتج جديد. فقد دعت مجموعة من الخبراء في مختلف التخصصات كعلماء الاجتماع والنفس والتسويق وهندسة المرور للقيام بأبحاث ودراسات تستخدمها الحملة كأساس نظري لتحدد رسالتها والشريحة المستهدفة بالإعلان، بالإضافة إلى الطرق الملائمة للوصول إلى الهدف. وتضمَّنت الأبحاث دراساتٍ حول إدمان الشباب الحشيش والكحول وتدخين التبغ، والشريحة العمرية التي تستخدم الحشيش تحديداً، وخطر الاصطدام تحت تأثير الحشيش، والضرر الواقع، ووسائل النقل المستخدمة من قبل هذه الشريحة، وما إلى ذلك من تفاصيل.. بعد ذلك، أجرت المنظمة مجموعة من اللقاءات مع الشبان المدمنين من طلبة الجامعة والمدارس الثانوية، للوصول إلى واقع تدخينهم لهذا المخدر وآرائهم حول القيادة تحت تأثير الحشيش. وبالنظر إلى نتائج الدراسات، وملخصات اللقاءات مع الشباب اتضح للجنة المنظِمة أن السبب الأساس وراء ممارسة الشباب للقيادة تحت تأثيره هو الوهم أن تدخين الحشيش لا يؤثر على تركيز ومهارة قائد السيارة، عكس الكحول مثلاً التي يقر الشباب أنها تؤثر على قدراتهم أثناء القيادة. وبتحديد أهداف الحملة، والاستجابة المطلوبة التي بواسطتها يدرك القائمون عليها أن الرسالة قد وصلت إلى الشرائح المستهدفة، كلفت المنظمة وكالة إعلانية مشهود لها بالكفاءة بتنفيذ الحملة.
قدمت الوكالة الإعلانية أربع أفكار رئيسة لإعلانات تلفزيونية عرضتها على اللجنة المنظمة. وكان من بين الأفكار الأربع إعلانٌ لقي اهتمام وإعجاب الشرائح السبع، وهو الإعلان المسمى بلا عقل! (!Senseless) حيث يظهر طياران في قمرة قيادة الطائرة، وهما يدخنان الحشيش، مع عبارة تتساءل: إن لم يكن هذا منطقياً هنا، ما الذي يجعله منطقياً لك حينما تقود السيارة؟! . وتشير الإحصاءات إلى أن الحملة استطاعت أن تقلص عدد الشباب الذين يقبلون على تدخين الحشيش بنسبة %9 من مجموع نسبة الشباب البالغة %35.
ساعد اعتماد حملة بلا عقل! على الأساس النظري على النجاح في تغيير سلوك الشباب، حيث إن تحديد الأساس النظري (من نظريات علم النفس والاجتماع والتسويق وغيرها) صاغ الحملة بحيث التقطت الدافع الرئيس إلى قيام الشباب بالقيادة أثناء تدخينهم الحشيش. وبمراجعة مراحل تصميم هذه الحملة، يمكننا صياغة أركان تصميم الحملات التوعوية المرورية، وهي تكمن أولاً في تحديد السلوك الذي تهدف إلى تغييره، وماهي أكثر الشرائح العمرية قياماً به، ومن ثم القيام بالأبحاث والدراسات المعمقة لمعرفة النظم الاجتماعية والنفسية والمرورية وحتى التسويقية الحالية التي قد تمنع أو تشجِّع هذا السلوك.
وانتقاء الوسيلة الإعلامية كالتلفزيون مثلاً لا ينتهي باختيارها فقط، وإنما يمر بمراحل عديدة منها الوقت الذي يستغرقه الإعلان، وعادةً ما يكون أقل من دقيقة كبقية الإعلانات التجارية، والوقت الذي يبث فيه.. فبعض الحملات يعتمد بث إعلاناتها على النوايا الطيبة لمعدي البرامج التلفزيونية، فيبث الإعلان الموجه إلى شريحة الآباء مثلاً في البرامج الصباحية، وهي الفترة التي يتواجد فيها الآباء في العمل! وبينما ترتفع شعبية القنوات التلفزيونية الأرضية في بعض الدول ويصبح من المنطقي إدراج إعلانات الحملة في هذه القنوات، ينبغي على مصممي الحملة تحديد القنوات الأرضية والفضائية التي تصل إلى الشريحة المستهدفة بالإعلان لإدراجه فيها، فعلى سبيل المثال، أشارت دراسة أجرتها د. سهام الصويغ الأستاذة في جامعة الملك سعود، إلى أن القنوات التابعة للقمر الصناعي عربسات حازت على أعلى نسبة مشاهدة بين السعوديين (%72) وتأتي بعدها بفارق كبير القنوات الحكومية.
أهمية التعبير عن الرسالة
أما أهم ملامح الحملة على الإطلاق، فهو قدرتها على التعبير عن رسالتها بطريقة خلاَّقة. فقد قدمت وزارة الصحة الأسترالية في عام 1996م حملةً إعلانية للتشجيع على الامتناع عن التدخين بعنوان أعذار ، حيث أظهر إعلان الحملة التلفزيوني شخصاً يجلس باسترخاء على أريكة، ويعدد أعذاره التي تمنعه من ترك التدخين: تأخرت كثيراً على ترك التدخين ، سأصبح بديناً ، عندما أدخن أشعر بالاسترخاء .. وغيرها من الأعذار، وأمام كل عذر، يرد الشخص المقابل له، والذي لا نستطيع رؤيته بما ينقض عذره كأن يقول: يمكنك الاستفادة من ترك التدخين حتى وإن كنت مدخناً لأربعين سنة . كانت نتائج الحملة مخيبة للآمال للغاية، ولم ينتج عنها تقريباً أي نتائج إيجابية. والسبب؟!
تشير دراسة إحصائية أجريت عبر الهاتف مع مشاهدي هذه الحملة إلى أن الإعلانات كانت مفيدة أكثر من اللازم! الإعلانات خاطبت عقولهم من دون أن تستثير مخيلتهم، أو أن تقدم معلومات جديدة لم يعرفوها من قبل.. وعند سؤالهم عما إن كانوا يتذكرون إعلاناً آخر للوقاية من التدخين، أجاب أغلب المشاركين في الإحصاء أنهم يتذكرون إعلاناً قدمته حملة التبغ الوطنية، حيث تظهر رئة مدخن في الإعلان وكأنها إسفنجة تعصرها يد، فيتصبب منها القطران الأسود.
تتطلب إعلانات التوعية العامة من المستهلك تغيير سلوكه، عكس الإعلانات التجارية التي تشجِّع المستهلك على الاستمرار في أكل البرجر مثلاً، ولكن تقنعه بأكل برجر من ماركة معينة بدلاً من ماركة أخرى. لذلك نجد أن تحقيق هدف هذه الإعلانات لا يتأتى برسائل إعلانية مبهجة أو مثيرة للضحك والابتسام كالرسائل التي ترسلها الإعلانات التجارية، أو رسائل عقلانية مليئة بالمعلومات التوعوية التي تناسب فكرتنا التقليدية عن فعاليات كفعالية أسبوع المرور على سبيل المثال. بل أثبتت التجارب أن الإعلانات التوعوية الناجحة، ومنها إعلانات حملات التوعية المرورية، تقوم على مخاطبة عاطفة المشاهد أولاً، وإثارة الخوف في نفسه من خطر ما ثانياً، وتطمينه في الإعلان نفسه وتقديم الأساليب التي تنفي أو تقلل من احتمالية حدوث هذا الخطر ثالثاً، بالإضافة إلى التأكيد على قدرته على تلافي الخطر. إلا أن هذه التجارب أيضاً أشارت إلى أن نوعية الإثارة ومداها تختلف من مرحلة عمرية إلى أخرى، فبالنسبة إلى بعض الشرائح العمرية قد يكون مجرد الإشارة إلى احتمال حدوث الخطر كافياً لإثارة خوفها. أما البعض الآخر، فينبغي أن تكون جرعة الإثارة عالية كي يجذب الإعلان انتباهها.
وقد أشارت بعض الدراسات إلى أن طبيعة المعلومات الإرشادية قد تؤثر في نجاح الحملة بشكل كبير إن كانت المعلومات الواردة تتميز بالجدة واللماحية. فعلى سبيل المثال، قامت حملة حوادث النقل الفيكتورية (TAC) في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وحتى عام 2001م بخمس وستين حملة توعوية ناجحة غيرت من شكل الكثير من الحملات الإعلانية بعدها. وهدفت الحملة إلى جعل أمن الطرق قضية اجتماعية بالدرجة الأولى، فتضاعفت الميزانية المخصصة للسلامة المرورية، وترافقت الحملة مع تقديم نظامين جديدين لضبط المرور أولهما يتعلق بمنع السرعة، والآخر باختبار القيادة تحت تأثير الكحول. كما تميزت الحملة، بالإضافة إلى مرافقتها للأنظمة المرورية الجديدة، باستخدام جميع الوسائل الإعلامية المتاحة كالتلفزيون، الراديو، الصحف وإعلانات السينما. واعتمدت على الأسلوب العاطفي المثير للخوف في التوجه إلى جمهورها، ولكن في الوقت نفسه، خلطت بعضاً من المعلومات الجديدة على الجمهور في هذه الإعلانات. فمثلاً، تخاطب عبارات بعض هذه الإعلانات الجمهور قائلة: 15 دقيقة للقيلولة، قد تنقذ حياتك بأكلمها ، كل 5 كيلومترات أعلى من السرعة المحددة لك، تضاعف خطر إصابتك في حادث… السرعة ليست آمنة أبداً .
الفشل الذي لا يقتلني.. بالتأكيد يضرني
هناك ازدياد في استخدام حملات التوعية لبرامج السلامة المرورية بمختلف فروعها، ولكن الكثير منها يفتقر إلى دراسة واضحة وأساسية يعتمد عليها. وقد يقول البعض إن الحملة التي لا تصيب الهدف، لن تضره أيضاً، ولكن تتابع الأمور المنطقي يؤكد العكس. فالرسالة التي لا يقبلها المشاهد أو المستمع تدفعه إلى تعزيز سلوكه غير المرغوب فيه، وتجعله أعصى على التغيير، وأكثر مناعة أمام رسالة أخرى في السياق نفسه. فالرسائل الإعلانية التي توحي بانتشار ما يحذر منه الإعلان، ولنقل السرعة في القيادة كمثال، هو خطأ يقع فيه العاملون في مجال التوعية المرورية. حيث تلاحظ الدراسات أن جمهور الشباب مثلاً لا يتعامل بالجدية الكافية مع مثل هذه الإحصاءات. بل يؤدي الإعلان عن تفشيها إلى استسهالها وقبولها من قبل الجمهور. من ناحية أخرى، تضيع مثل هذه الحملات الاهتمام الجمعي الذي يمكن لرسالة ناجحة الحصول عليه. وهذا الاهتمام فائق القيمة كونه يوجه المجتمع بشكل عام إلى قضية السلامة المرورية ويجعلها من أولويات الرأي العام. وتقلل الحملات الإعلانية الفاشلة أيضاً من المصداقية والثقة التي يمنحها الناس للجهة المرسلة. فإن فقدت لجنة السلامة المرورية مثلاً صدقيتها في أعين الجمهور، فكيف يمكن لأية جهة أخرى أن تحل محلها، وأن تتولى أمراً مثل هذه الحملات؟
بالإضافة إلى ذلك، تتطلب حملات التوعية المرورية، خاصة الطويلة منها، مبالغ لا يستهان بها. فالحملة الإعلانية التي أقامتها الحكومة النيوزيلندية مثلاً تجاوزت كلفتها تسعة ملايين دولار في السنة، وتتراوح تكاليف الإعلان الواحد بين 50 و80 ألف دولار في العادة، ويمكن أن تصل إلى 270 ألف دولار في بعض الحالات.
فكِّر! .. دعوة بريئة وماكرة
في الوقت نفسه!
ربما تابع البعض منا باستغراب إعلانات تبثها قناة فضائية خليجية تخصصت ببث الأفلام والبرامج الترفيهية الغربية. ركَّزت هذه الإعلانات على السلامة المرورية، وكانت معنونة بكلمة فكِّر! (THINK!) كعلامة تجارية لها. والحقيقة أن الكثير منَّا اعتقد أن هذه الإعلانات كانت من تصميم وإنتاج القناة. واستغرب بعضنا استخدام القناة للغة الإنجليزية وحدها لغةً للإعلان، إلا أننا أثناء البحث في موضوع الحملات المرورية، وجدنا أن فكِّر! هي حملة السلامة المرورية البريطانية التي انطلقت في عام 2000م.
تهدف الحملة المتفائلة الجريئة إلى أن يتقلص عدد الحوادث المرورية حتى يصبح أقل بنسبة %40 في العام 2010م، وهي نسبة جريئة نظراً لأن بعض الدراسات تشير إلى أن نتائج الحملة الناجحة للغاية قد تحقق تراجعاً في نسبة الحوادث يقَّدر بـ %20 فقط. ولكن القائمين على حملة فكِّر! يعتمدون في مطلبهم هذا على أسس منطقية منها تحقيق قسم السلامة المرورية في بريطانيا انخفاضاً في نسبة الوفيات يقدَّر بـ %39 بين السنوات 1987م وحتى العام 2000م، ومنها طول مدة الحملة واستمراريتها على مدى أعوام عشرة، ومنها أيضاً اعتماد الحملة على تقديم قوانين جديدة كلما استدعت الحاجة لضبط السلامة المرورية. إذ أظهرت الدراسات أن الحملات الناجحة هي التي توفق بين التوعية المرورية، وبين الرقابة المرورية الصارمة على سلوك الجمهور. ويتضح ذلك في تراجع نسبة الحوادث في منطقة الرياض تحديداً مع انطلاق حملة يكفي للتوعية المرورية في مايو 2006م، حيث رافقها تطبيق صارم لكل القوانين والأنظمة المرورية.
نجاح يقظ.. على مدار الساعة
لا يعود نجاح فكِّر! إلى تميز إعلاناتها فقط. وإنما أيضاً إلى قدرتها على التنكر والتحول من لجنة حكومية مملة، إلى هيئة ناشطة خارج الإطار في الإعلام البريطاني والعالمي، فقد أكد %86 من المشاركين في الاستفتاء السنوي لعام 2006م أنهم يثقون بأي إعلان أو معلومة عليها شعار حملة فكِّر! .
وقد وصلت العلامة المسجلة المرحة إذا جاز لنا التعبير فكِّر! إلى الشباب والمراهقين كدعوة بريئة وخالية من المواعظ، ولكنها بالتأكيد مليئة بالحس الإنساني، والتقرب إلى المتابع.. آملةً أن يكون هذا هو الطريق إلى التأمل والتفكير، ومن ثم اتخاذ القرار الصائب.
واستطاعت فكِّر! أيضاً أن تحقق هذا النجاح عبر متابعة يقظة لكل ما يجد من متغيرات في سوق الاستهلاك المروري على حد تعبيرها. وبمتابعة آخر إعلان صممته اللجنة، نستطيع أن نرى ملامح هذه اليقظة. الإعلان صوره بالكامل شاب تحت العشرين بواسطة كاميرا الفيديو لهاتفه المحمول، وهي المرة الأولى التي يتم فيها تصوير إعلان بأكمله بواسطة الهاتف المحمول. ويظهر في الإعلان مراهق يستمتع بالحديث مع أصدقائه بينما يمشون عائدين من المدرسة، وعندما يحاول بطل الإعلان عبور الشارع، يتشتت انتباهه بمداعبة أصدقائه، ثم يعود لينظر في اتجاه ليتأكد من خلوه من السيارات، فتفاجئه سيارة قادمة من الاتجاه الآخر.
متابعة فكِّر! للمسائل الصغيرة التي تطرأ على ساحة السلامة المرورية أشارت إلى أن نسبة كبيرة من حوادث المراهقين سببها انهماكهم بالأحاديث الجانبية مع زملائهم أو عبر هواتفهم المحمولة أثناء عبورهم للشارع، ولذلك كان هذا الإعلان. ونلاحظ في هذا الإعلان أيضاً ملمحاً آخر من نجاح الحملة، وهو أن إعلانات الحملة تصور أبطالاً ينتمون إلى الشريحة العمرية التي يستهدفها الإعلان، وتتواجد في كثير من الفعاليات الموجهة إلى الشريحة المستهدفة، فهي راعٍ رسمي لبطولة الركبي البريطانية، والدوري البريطاني.
ويحرص القائمون على الحملة في حال انتقاء أحد المشاهير ليمثل هذه الشريحة على ألا يكون طبيباً يداوي الناس وهو عليل، فيدعوهم إلى سلوك ما، ويخالف دعوته في حياته الشخصية.
ويتوقع المراقبون أن تُحدث خطوة فكِّر! القادمة نقلة نوعية في ساحة التوعية المرورية. إذ أدى نجاح الإعلان المصور بكاميرا الهاتف المحمول، والذي شارك في تصويره مجموعة من المراهقين، إلى تقديم مسابقة جديدة برعاية الحملة، وبمشاركة إم تي في (MTV)، القناة الأكثر شعبية بين الشباب. تدعو هذه المسابقة المراهقين بين عمر 12 و16 سنة إلى تقديم أفكار إعلاناتهم الخاصة عن السلامة المرورية. وستقوم لجنة من القناة والحملة، باختيار 18 فكرة من هذه الأفكار، ودعوة أصحابها إلى لقاء تعده القناة و فكِّر! مع شركتي الإعلانات الشهيرتين كارات (Carat) و ليو برنت (Leo Burnett)، حيث سيطور الشباب مع الخبراء أفكارهم، وتُحكَّم النصوص والأفكار لاختيار أفضل ثلاثة. وسوف يقوم الثلاثة الأوائل بتصوير إعلاناتهم، ومن ثم ستعرض على القناة، ليصوِّت أقرانهم لاختيار أفضل إعلان.
يكفي .. هل تكفي؟
وفي المملكة العربية السعودية، تشكلت اللجنة الوطنية لسلامة المرور بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لتكون هيئة بحث علمي ميداني تقوم بمعاونة الإدارة العامة للمرور، وذلك من خلال إجراء أبحاث في الجوانب المختلفة لسلامة المرور. ومن هذه الأبحاث، رعت الجهة بحثاً لتقويم برامج التوعية المرورية في العام 1410هـ قدمه الدكتور خالد السيف كباحث رئيس، مع مجموعة من الباحثين المشاركين، أجري على عينة من الجمهور مكونة من 1550 شخصاً من خمس مدن رئيسة هي تبوك والدمام وجدة والرياض وأبها من بين طلاب المدارس المتوسطة والثانوية وطلاب الجامعة. وأظهر البحث أن %80 من العينة لا تسترعي برامج التوعية المرورية اهتمامهم، أما النسبة الباقية (%20) فاسترعت انتباههم البرامج التلفزيونية مثل برنامج (قف/ سلامتك/ احذر تسلم)، وأظهر البحث أن عدم اهتمام العينة بالبرامج التوعوية يعود إلى اقتناع عام لدى السعوديين بمفهوم القضاء والقدر، مع عدم ربطه بقوله -صلى الله عليه وسلم- (اعقلها وتوكل) والأخذ بالأسباب.
وعندما طلب الباحثون من عينة البحث تقديم اقتراحات لتفادي الحوادث المرورية، احتل التركيز على برامج التوعية المرورية قاع التوصيات. أما الاستبانة التي قدمها الباحثون إلى الجهات القائمة على برامج التوعية المرورية، فقد قدمت نتائج مثيرة للدهشة، فـ %60 من الإجابات عن الاستبانة أشارت إلى أن برامج التوعية الحالية كافية لإثارة اهتمام الجمهور بالتوعية المرورية، وأجاب %80 بأنه لا توجد برامج توعوية مرورية أخرى يودون تقديمها. وفي نفس الوقت، عندما سئلت هذه الجهات عما إذا كانت هناك أهداف محددة لبرامج التوعية المرورية التي تقوم عليها، لم يجب أكثر من %60 عن هذا السؤال، أو قرر أن الأهداف غير واضحة، بينما قرر الآخرون أن الهدف هو رفع مستوى التوعية المرورية . وهذا الهدف كما أشار البحث، وكما تشير الدراسات، عام وغير محدد.. عكس الحملات المرورية التي توالت بعد ذلك، كحملة حزام السلامة التي انطلقت في عام 2000م لمدة تسعين يوماً، واستهدفت تحديداً ربط حزام الأمان، أو الحملات التي تلتها بعنوان اعقلها وتوكل و اللبيب بالإشارة وأخيراً حملة يكفي التي ركزت على قطع الإشارة، والسرعة الزائدة.
وأظهرت الدراسة أيضاً أن فعاليات أسبوع المرور، التي تشارك فيها دول مجلس التعاون الخليجي، لم تأتِ بنتيجة على الإطلاق. أما عن متابعة الجمهور للإعلام المروري إذا جاز لنا التعبير، فأظهرت الدراسة أن %7 فقط من الجمهور يهتم بمتابعته. ومن أسباب ضعف اهتمام الجمهور بمثل هذه البرامج ضعف المادة الإعلامية المرورية شكلاً ومضموناً، وهي نتيجة طبيعية لعدم وجود مخططين استراتيجيين لمثل هذه الحملات (حتى العام الذي أجريت فيه الدراسة 1410هـ)، وضعف الميزانيات المخصصة لهذا الغرض.
وأظهرت الدراسة أيضاً أن البرامج التلفزيونية التي قدمت في تلك الفترة للتوعية المرورية، ومن أهمها برنامج (قف!) كان يهتم بالسلوك الظاهر أكثر من اهتمامه بالنواحي الداخلية لهذا السلوك. فعلى المواطن ربط الحزام، وعلى المواطن تجنب السرعة الزائدة مثلاً. ولكن البرنامج لم يخاطب المواطن ويتجاوز الأسباب التي تجعله لا يربط الحزام أو يتجاوز السرعة المحددة. وأيضاً، كانت هذه البرامج تركِّز على السلوك الحسن وتحاول تنميته، من دون أن تركِّز على أن المواطن قد لا يكون أساساً ممارساً لهذا السلوك الحسن.
أضف إلى ذلك أن تأثير هذه الحملات، كما تشير الدراسات، لا يتجاوز تقليص عدد حوادث المرور في العادة خلال إجرائها %8.5، وقد ترتفع النسبة بعد انتهاء الحملة لتصل إلى %14.8. وقد تبدو نسب كهذه من بعيد ضئيلة وغير فاعلة بشكل حقيقي.. ولكن إن اقتربنا أكثر لنعرف ما وراء هذه الأرقام، فسنعرف أنها فرصة لا يستهان بها ليحتفظ أحد منا بعزيز له إلى جانبه. حملة يكفي للتوعية المرورية، والتي أقامتها لجنة السلامة المرورية السعودية في ربيع الآخر من العام 1427هـ، والتي استمرت لمدة شهر حفظت للمملكة 99 عزيزاً، أي أنها خفضت نسبة الوفيات بمعدل %4.2 عن العام السابق للحملة 1426هـ. هؤلاء الأعزاء الذين لن يقدر لنا أن نعرف من هم ولله الحمد، يستحقون منا الفرح لأجلهم ولأجلنا، والرغبة في مواصلة حملات التوعية على مدار العام وتحسين أدائها ونوعيتها.