الثقافة والأدب

حكومة الظل
براونية.. عربية.. مختلفة

  • 80a
  • 78a
  • 79a

اللون الروائي الذي أرساه الأمريكي دان براون, والقائم على نسج أحداث رواية بوليسية معاصرة بناءً على معطيات تاريخية حقيقية, يبدو اليوم وكأنه قد تحوَّل إلى مدرسة عالمية.
حكومة الظل للدكتور منذر القباني هي واحدة من هذه الروايات المحبوكة على المنوال نفسه, غير أنها تختلف عن غيرها من الروايات البراونية كما يبين هنا عبود عطية الذي يعرض قراءته لها، ويختار لنا بعض المقتطفات منها.

تدور أحداث هذه الرواية في عصرين مختلفين. أحدهما عصرنا الحالي, والثاني محدد بدقة بعام 1908م. أحداث العصر الحالي تتوزع بين المغرب والقاهرة والرياض والمدينة المنورة وبريطانيا وكندا. أما أحداث العام 1908م فتبقى محصورة في استانبول عاصمة الخلافة آنذاك، وبالمناخ الذي أحاط بالتئام مجلس المبعوثين الذي أنشأه السلطان عبدالحميد المحاصر من قبل حزب الاتحاد والترقي الشهير.

بطل هذه الرواية هو نعيم الوزان, رجل أعمال سعودي شاب وناجح, يسافر إلى المغرب ومصر بهدف ترتيب بعض الأعمال مع بعض الشركاء في مشروع إنشاء شركة اتصالات ثالثة في السعودية. وفي المغرب يزور نعيم أستاذه الدكتور عبدالقادر بنوزاني الذي درَّسه التاريخ في جامعة الملك سعود بالرياض، وتربطه به علاقة صداقة لم تنقطع.

غير أن الدكتور عبدالقادر هذا يموت مشنوقاً تاركاً لنعيم رسالة غامضة تقوده إلى متاهات بوليسية تتوالى فصولاً في القاهرة، حيث يكتشف بمساعدة الصحافي المصري أن هناك عمليتي شنق مماثلتين حصلتا في اليوم نفسه في كل من تورنتو بكندا وفي القاهرة أيضاً. ولا تتكشف حقيقة ما جرى, وأيضاً حقيقة بعض الشخصيات, إلا في الصفحات الأخيرة.. عندما يعود نعيم إلى المدينة المنورة..

وكل ما جرى ويجري حول نعيم، ما هو إلا تكملة لأحداث بدأت في استانبول عام 1908م، وفصلاً جديداً من فصول الصراع بين منظمتين سريتين: الماسونية من جهة والعروة الوثقى من جهة أخرى!

على خطى دان براون
لا يمكن للقارئ وهو يقلِّب صفحات هذه الرواية إلا أن يعود بذاكرته إلى روايات الأمريكي دان براون، وبشكل خاص شيفرة دافنشي و ملائكة وشياطين .. فكما جمع براون الكثير من المعطيات التاريخية الصحيحة علمياً أو التي يُرجَّح أن تكون كذلك, ونسج منها مادة لرواية معاصرة، يتأرجح فيها القارئ بين عصرنا الحالي وغياهب الماضي، كذلك يفعل القباني.

وهذا التشابه لا يقتصر على البناء العام للرواية وحبكتها، بل نجده أيضاً في الكثير من التفاصيل.. فالدكتور عبدالقادر يترك قبيل وفاته رسالة غامضة لنعيم مليئة بالرموز والألغاز التي تقوده بمساعدة من الصحافي طلعت إلى معرفة الحقيقة, تماماً كما يترك مدير متحف اللوفر في رواية شيفرة دافنشي رسالة غامضة إلى حفيدته تقودها بمساعدة المحقق والأستاذ الجامعي إلى اكتشاف الحقيقة.

وأكثر من ذلك، فإن الرموز التي تشكِّل مادة ملائكة وشياطين تكاد تكون هي نفسها الرموز الغامضة التي كانت في قصر طلعت باشا في استانبول, وفي سلسلة مقاهي إنترنت معاصرة في القاهرة..

أما في العمق، فهناك تشابه آخر لا يمكن إغفاله, وهو أن كلاً من هذين الأديبين هو صاحب قناعة فكرية يسعى إلى ترويجها من خلال الرواية. وإذا كان دان براون لم يعلن بوضوح عن قناعاته الشخصية, بل اكتفى بإلصاقها بشخصيات رواياته, فإن القباني يكاد يعلن صراحة عنها, أو ربما هو قام بذلك فعلاً.. إذ جاء على الغلاف: لا بد من كسر قشرة البيضة، لا بد من معرفة من وراء تلك الشخوص والأحداث.. وفي مكان آخر: مزيج من الخيال والواقع للقارئ مطلق الحرية في تبيان الواقع من بين سطور الخيال.. أما تعريف الناشر بالرواية فيقول: إنها تنتمي إلى الكتابات الحديثة التي تحاول الخوض في المناطق غير المأهولة. وهي استجابة لأثر معين في الثقافة السياسية.. .

أما أوجه الاختلاف فهي..
على الرغم من كل ما تقدم, فمن التجني إغفال أوجه الاختلاف ما بين حكومة الظل من جهة وأعمال دان براون من جهة أخرى, حتى على مستوى الشكل.

ففي حين أن ربط الحاضر بالماضي يأتي عند براون على لسان متحدث معاصر هو أستاذ جامعي ومثقف، فإن القباني يفصل في سرده الماضي عن الحاضر. فيخصص للماضي فصلاً يبدأ دائماً بعنوان 1908, يليه فصل من مجريات أحداث اليوم, ثم عودة إلى الماضي فالحاضر.. وهكذا دواليك. هذا من ناحية الشكل.

أما من ناحية المضمون, فلا بد من الاعتراف للقباني بإبداع يستحق الثناء.

فموضوع الرواية عربي من الألف إلى الياء, يتناول مسألة تاريخية لا تزال تشغل المؤرخين, ولعبت دوراً حاسماً في مسار السلطنة العثمانية في السنوات الأخيرة من عمرها: حزب الاتحاد والترقي, ودور يهود الدونمة في هذا الحزب. ناهيك عن العروة الوثقى التي بقي شأنها أقل من شأن هذا الحزب، إعلامياً وبحثياً على الأقل.

وهنا لابد من التوقف قليلاً أمام الموضوع.
لا شك في أن المؤلف أجرى الكثير من الأبحاث التي تتعلق بالجانب التاريخي من الموضوع. ولكن ما يقدمه كاكتشاف، ليس في الواقع كذلك.

فالقول إن بعض باشاوات حزب الاتحاد والترقي كانوا يهوداً تظاهروا بالإسلام، سبق أن ورد حتى أصبح شبه لازمة في معظم الكتب التي تناولت سقوط السلطنة العثمانية. ومعظم الوارد في الكتاب حول الحركة الماسونية ليس جديداً. حتى الحديث عن دورها ليس جديداً أيضاً.. فقد ورد في العديد من الأبحاث والروايات سابقاً. حتى أن بعض التفاصيل مثل اجتماع البولدبرج يمكن للقارئ أن يجد حديثاً موسعاً عن ماهية البولدبرج في أي كتاب يتناول المنظمات السرية، أو المصنفة في وجدان الناس على أنها كذلك. وربما وجد بعض الاختلافات حتى في المعلومات المجردة التي تتعلق بالبولدبرج كما هي واردة في هذه الرواية وفي الأبحاث الأخرى.

ولكن لطالما أننا هنا أمام رواية أدبية، يمكنها أن تتعامل مع التاريخ بمرونة أكبر مما هو عليه الحال في البحث العلمي, فلا بأس من أن يتم تناول دور الحركات السرية والمنظمات الخفية بالشكل الذي تناوله به المؤلف, وحتى الحد الذي وصل إليه.

ما قد يؤخذ قليلاً على المؤلف كراوٍ, وليس كباحث, هو الحديث عن الماسونية والتعريف بها وكأن هذا الحديث يجري للمرة الأولى في تاريخ الرواية. فالصحافي طلعت يحدِّث نعيم، رجل الأعمال الناجح والمثقف عن الماسونية وكأن هذا الأخير لم يسمع بها قبلاً.. في حين أن القليل من الهمس والاختصار يبدو أدبياً في عالم الرواية أفضل بكثير من كثرة الشرح.

من جهة أخرى تكمن إحدى ومضات الإبداع عند المؤلف في موضوع عمل المنظمات السرية، عندما يتهم واحداً من مراكز الدراسات يدعى المركز العربي للبحوث والدراسات بأنه غطاء لعمل المنظمة السرية. وهو المركز الذي يشير إليه أحد أبطال الرواية بـ المعبد .. ويستدرك موضحاً أن التسمية هي اختصار مؤلف من الأحرف الأولى لاسم المركز.. ولعل المؤلف كان في هذه النقطة بالذات على أقرب مسافة بخياله من الواقع..

أما حبكة القصة البوليسية, وإن بقيت في بعض زخارفها ضعيفة نسبياً, فإنها بشكل عام أكثر من مُرضية, لا بل تبدو ممتازة في أماكن كثيرة.. ولا يقل إبداع القباني في حل الكثير من الألغاز الرئيسة في أسطر قليلة مفاجئة في الصفحات الأخيرة، أو حتى في الصفحة الأخيرة من الرواية، عن إبداع دان براون في ملائكة وشياطين مثلاً.

ولعل من أوجه الإبداع المعبرة، جلاء الكثير من الغموض, واتضاح الصورة البانورامية برمتها, خلال وجود بطل الرواية نعيم الوزان في المدينة المنورة في الفصل ما قبل الأخير من الرواية، لما للمكان من رمزية يعتبر توظيفها، وفي الإطار الذي أتى فيه هذا التوظيف, عملاً موفقاً.

بانتظار الرواية الثانية
حكومة الظل هي الرواية الأولى للدكتور منذر القباني. ورغم ذلك، فقد جاءت قوية متكاملة أكثر بكثير مما يمكن أن نتوقعه من رواية أولى لمؤلف يعمل أساساً كطبيب. لا بل يمكن القول إنها رواية ناضجة عموماً، خصوصاً في اللون البوليسي الهزيل جداً في الرواية العربية المعاصرة.

ومن باب الأمانة, ولأننا نتمنى فعلاً أن يقدِّم لنا القباني عملاً آخر بالجدية والمستوى نفسيهما, لا بد من الإشارة إلى بعض النقاط التي تستوقف القارئ في هذا العمل الأول, وبعضها قد يكون موجهاً إلى الناشر وليس إلى المؤلف.

يطالعنا على كل صفحة يمنى من هذا الكتاب اسم الرواية بالإنجليزية وقد كتب عامودياً، تقابله على الصفحة اليسرى عبارة أكثر من تشويق .. والواقع ألاَّ معنى لذلك على الإطلاق. فالرواية مكتوبة بالعربية، ولا مبرر لترجمة عنوانها إلى الإنجليزية على كل صفحة، أما الأكثر من تشويق ، فيبدو تنشيطاً دعائياً لعمل هو في الواقع أرقى من ذلك, ولا مبرر له ولا أثر في نفس القارئ.

إلى ذلك، تطالعنا أحياناً بعض الأسطر التي كتبت بالخط الأسود الغليظ لفتاً للانتباه، وتمثل بعض الأفكار والحِكَم مثل: لا بأس من خسارة معركة من أجل كسب الحرب ، أو الإنسان الحر هو الأقدر على العطاء أو الحقيقة ملك للناس ولا يمكن إخفاؤها ، أو في بعض الأحيان تكون الحقيقة واضحة كالشمس, ولكن من شدة وضوحها لا نستطيع النظر إليها.. .

وكان من الأجدى ترك هذه الأفكار والحكم تنساب في سياق النص، لتصل بقيمتها الحقيقية بشكل عفوي إلى ذهن القارئ. أما تكبير الحروف التي كتبت بها, فيفصلها عن السياق, ويجعلنا نحاكمها بالاستقلال عمَّا عداها وعن سياقها، وفي هذه الحالة، لا تبدو مختلفة جداً عن حِكَم مجلة ريدرز دايجست .

وأخيراً, وعلى الرغم من أنني لست شخصياً من الذين يتوقفون طويلاً أمام قضية الصرف والنحو في الأعمال الروائية, فإن كثرة الأخطاء اللغوية في هذه الرواية وصلت إلى حد يسيء إليها.

من الممكن أن نبتلع مرة جملة تقول: وخرج رجلاً سميناً.. (ص 14)، ولكن عندما تليها على الصفحة المقابلة غرفة ذي طابع أندلسي.. ومن ثم خرج الرجلين (ص 102) وما إلى ذلك الكثير من الأخطاء المشابهة, لا بد وأن يشعر القارئ بشيء من الانزعاج, مهما كان مشدوداً إلى القراءة. طبعاً، إننا لا نطلب من طبيب، ولا حتى من الراوي المحترف أن يكون عالم صرف ونحو أيضاً.. ولكن ألا يفترض بالناشر أن يبذل بعض الجهد لمعالجة هذا الجانب؟

إنها ملاحظات نبديها لا للانتقاص من قيمة هذه الرواية التي قرأناها باستمتاع, بل على العكس، لأننا نطمح إلى أن يتحفنا أديبها برواية ثانية. وأن تكون التالية أفضل.

صفحات من..
حكومة الظل..
15

عام 1908
لاحظ خليل الوزَّان عند دخوله قصر طلعت باشا الشبه الواضح بينه وبين قصر الضيافة تماماً كما قال يوري بك كوهين. لا شك في أن القصرين صمما من قبل شخص واحد قد تأثر بالمعمار الأوروبي الممزوج ببعض اللمسات التركية. كانت أرضية المدخل مصفوفة بأجود أنواع الرخام المفروش بسجاجيد أصفهان المصنوعة من الحرير، أما الأسقف فكانت مزينة بمنقوشات جبسية مطلية بماء الذهب لا يضاهيها جمال سوى الثريا المصنوعة من الكريستال الخالص.

– 
 طلعت باشا يعشق البناء والمعمار . قال يوري بك لخليل الذي فوجئ بتعليقه كما لو كان يراقب نظراته وتأملاته للقصر. أنت لم تقابل طلعت باشا من قبل، أليس كذلك ؟.
– 
 لا لم ألتق به ولم أسمع به قبل مجيئي إلى استانبول . قال خليل الذي بدأ يشعر بأن يوري بك يحاول التقرب منه ربما من أجل ضمه لكتلة الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثان .
– 
 أنا أعرفه جيداً.. يجب أن أعرِّفك عليه فهو من أكثر الساسة نفوذاً اليوم ولا أستبعد أن يصبح الصدر الأعظم عمَّا قريب خصوصاً إذا تولى الحكم سلطان جديد .
– ماذا تقصد ؟ سأل خليل.
– 
 السلطان عبدالحميد الثاني لا يحب أهل سالونيك، فهو يعتبرهم أهل فتن، لذلك قاوم بشدة تعيينه صدراً أعظم بالرغم من كل الضغوطات . أجاب يوري بك ثم نظر إلى رجل أشقر في العقد الخامس كان يتحدث مع رجل آخر في أحد أركان المجلس ثم دخلا إلى قاعة مجاورة فقال ها هو طلعت باشا .
– 
 تقصد الرجل الأشقر الذي كان يتحدث مع محمد جاويد باشا ؟ سأل خليل.
– 
 نعم هو، لقد دخلا إلى قاعة المكتب قال يوري بك ثم بدأ بالاتجاه نحو الباب الذي خرج منه الرجلان من قاعة الاستقبال. تعال معي سأعرِّفك على طلعت باشا .
– 
 لماذا لا ننتظر حتى يحضر إلى قاعة الاستقبال فربما يريد التحدث مع محمد جاويد باشا على انفراد .
– 
 الآن أفضل وقت للتعرف والتحدث إليه بعيداً عن باقي الحضور .

اتجه يوري بك نحو الباب المؤدي إلى قاعة المكتب مصطحباً معه خليل حتى وصلا إلى الباب ثم طرق عليه يوري بك ثلاث طرقات فدخل ومعه خليل.

– 
 مساء الخير. أنا آسف طلعت باشا على اقتحام خلوتك مع محمد جاويد باشا ولكني أردت أن أسلِّم عليك وأعرِّفك بخليل أفندي الوزَّان أحد مبعوثي ولاية الحجاز بعيداً عن زحمة الضيوف .
– 
 مساء الخير يوري بك، أهلاً بك وبخليل أفندي، أنت تعلم أنك لا تحتاج إلى استئذان . قال طلعت باشا مرحباً.

(…)

بدأ طلعت باشا بالتحرك نحو الباب ومعه يوري بك كوهين وخليل الوزَّان الذي توقف فجأة أمام مجسم انتبه له حين تحرك من أمامه طلعت باشا الذي كان يواريه بجسده الضخم. كان نفس المجسم الهرمي الذي يتوسطه نحت على شكل عين إنسان والذي رآه في مكتبة قصر الضيافة وكانت العين تنظر إلى حائط به مدفأة حطب كما في قصر الضيافة. أيعقل أن يكون وجه الشبه بين القصرين إلى هذا الحد تساءل خليل في خاطره.

– 
 ما الخطب خليل أفندي ؟ سأل طلعت باشا الذي لاحظ توقف خليل.

– 
 هذا المجسم الهرمي، رأيت مثله في قصر الضيافة، بل يكاد يكون هو نفسه .
– 
 نعم إنه جميل أليس كذلك؟ الهرم هو رمز قدرة الإنسان على التشييد والبناء، بعض المؤرخين اعتقدوا خطأ أن العبيد هم الذين بنوا أهرامات الجيزة.. ولكن العبيد خليل أفندي لا يبنون الحضارات، أوليس كذلك؟ .
– 
 نعم أتفق معك أن الإنسان الحر هو الأقدر على العطاء .
– 
 ألا تتفق معي أيضاً أن الحرية هي قيمة مقدسة تعلو فوق كل القيم ؟
– 
 طلعت باشا.. القداسة لله، والحرية هي هبة منه لعباده وليست حقاً لهم عليه . لم يعجب ذلك الرد طلعت باشا الذي بدأ يتحرك مجدداً نحو الباب مصطحباً معه يوري وخليل الذي توقف مرة أخرى ونظر نحو المجسم الهرمي الذي يتوسط القاعة. هذه المرة لفت انتباهه العين المنحوتة والتي تطل على حائط ذي مدفأة حطب كالتي في قصر الضيافة.
– 
 ما الخطب الآن خليل أفندي ؟ سأل طلعت باشا وقد بدأ ينفذ صبره من ملاحظات خليل غير المرغوبة.
– 
 أي اتجاه ذلك الحائط الذي تنظر إليه العين المنحوتة في المجسم ؟
– ماذا؟ لا أفهم قصدك
– 
 خليل أفندي ما أهمية هذا السؤال ؟ سأل يوري بك الذي كان صامتاً طوال الوقت مستمعاً ومستمتعاً بالحوار الدائر بين خليل الوزَّان وطلعت باشا الذي كان قد وضح عليه التوتر جرَّاء ملاحظات خليل.
– 
 ستعرف سبب سؤالي ولكن بعد أن أتلقى الجواب .

ظل طلعت باشا صامتاً لا يعرف بم يجيب خليل. في تلك الأثناء نظر يوري بك حوله ثم أجاب خليل إنه يعتقد أن الحائط يقع على الأرجح في اتجاه جنوب الشرق.

– غريب .
– ما الغريب خليل أفندي ؟ سأل طلعت باشا.
– 
 هذا نفس الاتجاه الذي تنظر إليه العين في مجسم قصر الضيافة .
– 
 يا لها من صدفة لا أعتقد أنها تعني الكثير. هيا بنا يا حضرات لا بد أن نخرج للضيوف . قال طلعت باشا وهو يتجه نحو الباب دون توقف مصاحباً معه يوري وخليل الذي كان يتمتم في سره صدفة ؟ ثم تذكر قول الشيخ أبو بكر الحسيني بأن الصدفة هي تبرير الجاهل لم لا يفقه، ولكنه شعر أن كلمة تبرير الجاهل لا تنطبق على طلعت باشا.

17

كان نعيم يتناول وجبة الغداء في مطعم الفندق وعيناه على الجوال ينتظر مكالمتين. مكالمة من طلعت ليخبره بالذي جرى في المركز العربي للبحوث والدراسات, ومكالمة من فؤاد شوكت ليخبره بما توصل إليه مع كمال أغلو. كانت الدقيقة تمر على نعيم وكأنها دهر, لذلك عندما رن الجوال أسرع في الرد دون أن يرى اسم المتصل على الشاشة.

– 
 السلام عليكم أبو عبدالله, بشِّر ما الذي جرى في اجتماع البارحة مع فؤاد شوكت ؟ كان صوت شريكه سعد العثمان يحادثه.
– 
 وعليكم السلام.. وعدني بأنه سيتحدث مع كمال أغلو ويحاول أن يتوصل إلى حل معه يرضي جميع الأطراف, وما زلت أنتظر منه مكالمة .
– 
 إذاً كلِّمني حينما يأتيك خبر .
– 
 إن شاء الله.. بالمناسبة, هل سمعت بسلسلة من المقاهي تسمى الهرم الذهبي؟ .
– 
 نعم رأيتها في بيروت عندما كنت هناك منذ أسبوعين. لماذا السؤال هل تفكر في أخذ وكالتها؟ .
– 
 لا.. فقط لفت انتباهي سرعة انتشارها في عدة دول عربية. لقد اكتشفت البارحة أن فؤاد شوكت هو أحد الشركاء ولكن الشريك الأساس مغربي ولكني لا أعرف من هو. ظننتك قد تعرف .
– 
 فؤاد شوكت شريك في عدة شركات حول العالم فالرجل ملياردير. ولكن ما سر الاهتمام؟ .
– 
 هناك أمر ما لا أدري ما هو لفت انتباهي إلى هذه السلسلة من المقاهي, لكني أريد أن أعرف أولاً من هم باقي الشركاء .
– 
 هذه مسألة بسيطة. سأطلب من مصطفى أن يأتي لك بكل ما يخص هذا الأمر .

كان شعور نعيم نحو الهرم الذهبي كشعور المسافر المتجه إلى المطار وهو يظن أنه نسي شيئاً لا يدري ماهو. وكعادته، إذا صادف مثل هذا الشعور يصفي نعيم ذهنه من الموضوع الذي يشغله ويفكر في أمر آخر. كان الحل يقدم نفسه عاجلاً أم آجلاً.

بدأ نعيم يراجع الرسالة التي بعثها إليه الدكتور عبدالقادر مرة أخرى:

عزيزي نعيم
لقد سعدت بلقائك البارحة فقد كانت أمسية جميلة قضيتها في حوار معك لا يمل.
لا أدري إن كنا سنلتقي مجدداً أم لا, فهناك الكثير من الموضوعات التي كنت أود التحدث فيها معك ولكن يبدو أنه لا نصيب لي في ذلك.
في الختام أقرئك السلام.
تحياتي إلى طلعت أحمد نجاتي.
ورحم الله جدك خليل 256 – 2 / 114
عبدالقادر بنوزاني 8 – 2 / 114 .

بدت الرسالة لنعيم كما لو أنها أنهيت على عجل. فالبداية كانت مكونة من جمل طويلة والنهاية كانت جملها قصيرة ومقتضبة. هل كان الدكتور عبدالقادر يفكر في الانتحار عندما كتب الرسالة؟
ماذا كان يقصد بعدم درايته إن كانا سيلتقيان مجدداً أم لا؟
فهذه الجملة لا تدل على أن صاحبها ينوي الانتحار، إلا إذا كان قد قرر الانتحار بعد كتابة الرسالة.

كان نعيم يحاول أن يقرأ ما بين السطور متسائلاً إن كان هناك أمر غير واضح حاول الدكتور عبدالقادر أن يقوله لنعيم في هذه الرسالة. ولكن إن كان هناك أمر ما لِمَ لم يكتبه مباشرة دون تلميح؟
ثم ما القصد من السلام على طلعت نجاتي؟
فلا الدكتور عبدالقادر ولا هو قد التقيا بطلعت من قبل، بل إنه لم يسمع بالاسم قبل قراءة الرسالة؟
ظل نعيم يفكر في أمر الرسالة حتى رنَّ جواله وانتبه هذه المرة إلى اسم المتصل على الشاشة، كان طلعت.

– نعيم أين أنت؟ سأل طلعت بصوت مضطرب.
– أنا في مطعم الفندق, هل حصلت على شيء؟ .
– 
 ربما.. فالأمر قد زادني حيرة.. لا أدري. ولكن عندي شعور بأن المسألة أخطر بكثير مما كنا نتوقع! .

19

حضر طلعت إلى مطعم الفندق حيث كان نعيم وقد بدا عليه الشغف بشكل جعل نعيم يشعر بأنه ربما قد وجد شيئاً مثيراً يضفي الضوء على رسالة الدكتور عبدالقادر.

– يبدو أنك توصلت إلى شيء. قال نعيم بلهفة.
– 
 بل إلى أشياء. نعيم المسألة أكبر بكثير مما كنت تتوقع.. ولكن لا يصلح الحديث هنا.
– 
 نستطيع الذهاب إلى جناحي. ولكن ما الخطب لقد أثرت فضولي .
– 
 سأخبرك كل شيء ولكن ليس هنا. لا أريد أن يسمعنا أحد. قال طلعت وهو ينظر حوله كما لو كان يخشى أن يكون مراقباً.

قاد نعيم طلعت نحو جناحه المكون من غرفة نوم وصالة جلوس منفصلة وهو يسابق الثواني والخطوات حتى يصل ويستمع إلى ما توصل إليه طلعت من أمر كبير على حد قوله.

– 
 ها قد وصلنا، هل يمكن أن تخبرني الآن إلى ماذا توصلت. قال نعيم وقد ملأه الفضول.
– 
 نعيم، هل تذكر اسم الرجل الذي زار الدكتور عبدالقادر في تلك الليلة؟ .
– 
 قلت لك لم يخبرني سوى أنه مدير قسم التاريخ بالمعبد.
– المعبد؟ تساءل طلعت.
– 
 هكذا تساءلت أنا الآخر، ولكنه أوضح بعد ذلك قصده بالمركز العربي للبحوث والدراسات.. الحروف الأولى من الاسم.
– 
 غريب.. لم أسمع أحد يطلق عليه ذلك الاختصار.. على أية حال لا أعتقد أن المدير الحالي هو المقصود، فهو لم يستلم المنصب سوى الإثنين الماضي .
– 
 بعد وفاة الدكتور عبدالقادر بيوم. ردد نعيم متفقاً مع طلعت. ولكن ماذا عن المدير السابق؟
– 
 هنا بيت القصيد.. لقد توفي الدكتور أحمد عبدالوارث قبلها بيوم.
– ماذا؟ تساءل نعيم بدهشة.
– 
 ليس هذا فقط، الأغرب من ذلك هي الطريقة التي مات بها، لقد وجد مشنوقاً في منزله. هنا كانت دهشة نعيم قد وصلت إلى ذروتها.
– 
 نفس اليوم ونفس الطريقة التي مات بها الدكتور عبدالقادر. ردد نعيم.
– 
 أنا لا أعتقد أن ذلك كان اليوم العالمي لانتحار المؤرخين.. نعيم، أن ينتحر عالما تاريخ في نفس اليوم ذلك أمر مريب. ولكن أن ينتحر ثلاثة على صلة بطريقة غير مباشرة في نفس اليوم فذلك أمر خطير يجعلني أعيد تقييم الأمور كلها. قال طلعت بنبرة جادة.
– ثلاثة؟ تقصد اثنان.
– 
 بل ثلاثة.. عندما كنت في مدينة تورنتو الكندية لتغطية مؤتمر الدول الثمانية كنت قد التقيت بصديق قديم يدعى موشي جولد. أخبرني عن أمر أدهشه كان قد اكتشفه صدفة يخص جد موفاز حائيم وزير خارجية إسرائيل. الشاهد في الموضوع أن موشي وجد منتحراً في منزله مساء السبت .
– 
 مساء السبت بتوقيت تورنتو.. صباح الأحد في المغرب ومصر. ردد نعيم الذي بدأ يدرك سر دهشة طلعت. ولكن ما علاقة موت صديقك بالدكتور عبدالقادر ومدير قسم التاريخ؟
– 
 لست متأكداً بعد. ولكن لا يمكن أن تكون المسألة مجرد صدفة. الثلاثة لهم علاقة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.. نعيم، الأمر أعقد بكثير مما تخيلت .

ساد الصمت المكان ونعيم يفكر في ما سمع من طلعت محاولاً أن يجد لنفسه تفسيراً لما حدث ولكن دون جدوى. الأمر كان أعقد من أن يكون مجرد مصادفة، ولكن ما الذي يجعل ثلاثة أشخاص في بقاع مختلفة من العالم يقدمون على الانتحار في نفس الوقت تقريباً؟

ألح السؤال نفسه على نعيم دون أن يجد له إجابة منطقية ترضيه فأخذ يسترجع مرة أخرى ذكريات ذلك اللقاء الأخير مع الدكتور عبدالقادر. حدثه عن الكتاب الذي أعد له عن أواخر عهد الخلافة العثمانية وعلاقتها بالاتحاد والترقي. كان الحماس يغمره وهو يتحدث عمَّا سيحتويه الكتاب ثم ذكر له جده خليل وفاجأه بأنه كان في مجلس المبعوثان في أواخر عهد السلطان عبدالحميد الثاني.

كان الدكتور عبدالقادر يتمتع بوهجه المعتاد إلى أن عاد من لقاء ذلك الزائر. مدير قسم التاريخ بالمعبد كان ذلك كل ما قاله عن ذلك الرجل الذي أخبره بنبأ وفاة أحد زملائه.

– 
 طلعت، هل تدري إن كان قد توفي أحد العاملين بالمركز العربي للبحوث والدراسات منذ أسبوعين أو أكثر قليلاً؟ .
– أستطيع أن أسأل لك، ولكن بماذا تفكر؟ .
– 
 هناك حلقة مفقودة في الموضوع وأشعر أن الحلقة لها علاقة بذلك الرجل الذي زار الدكتور عبدالقادر والخبر الذي أبلغه إياه. ما لا أفهمه إن كان الزائر هو أحمد عبدالوارث فمتى عاد إلى القاهرة ولماذا انتحر هو الآخر. ألا ترى معي أن الفترة الزمنية كانت ضيقة؟ .

نظر طلعت إلى نعيم وهو يتأمل سؤاله. نعيم على حق، الرجل زار الدكتور عبدالقادر مساء السبت في الرباط ثم وجد مشنوقاً فجر الأحد في منزله بالقاهرة. هل يعقل أنه في غضون يوم واحد رجع إلى القاهرة ثم قرر الانتحار. وهل الذي ينوي الانتحار يسافر لمقابلة زميل له ويخبره بوفاة زميل آخر؟
– 
 هل تقصد أن الذي زار الدكتور عبدالقادر ليس أحمد عبدالوارث؟ ولكنك قلت أن الزائر كان مدير قسم التاريخ .
– 
 هذا ما قاله لي الدكتور عبدالقادر، ولكن ربما كان يقصد شخصاً آخراً .
– 
 أو ربما كان يريدك أن تعتقد أنه هو الدكتور أحمد عبدالوارث . قفز طلعت من مكانه مع جملته الأخيرة وقد بدى الوهج في عينيه كأنه اكتشف سراً من أسرار الكون. نعيم أنا ذاهب لمقابلة زوجة أحمد عبدالوارث، هل تريد الذهاب معي؟ .
– 
 الآن دون موعد؟ تساءل نعيم الذي لم يفهم سر الحماس المفاجئ لطلعت.
– 
 سأكلمها عبر الجوال ونحن في الطريق، ولكن عندي إحساس أن ما ستنبؤنا به سوف يكشف جانباً من هذا الغموض .

أضف تعليق

التعليقات