على الرغم من حداثة عهدها أصبحت المراكز التجارية من أبرز المعالم في المدن المعاصرة، ومن أقوى نقاط الجذب لسكانها. ولكن الدور الذي تلعبه هذه المراكز من خلال تشكيلها لنسيج الحياة في المدينة لا يزال موضع نقد ونقاش. المهندس الدكتور مشاري النعيم يحدثنا عن المراكز التجارية في مدننا العربية معتمداً على الدراسات العديدة التي أجراها حول هذا الموضوع وعلى خبرته المهنية في تصميم عدد من المراكز التجارية في المملكة خلال السنوات الخمس الماضية.
عرفت المدن منذ القدم بأسواقها، حيث تلتقي جميع طبقات المجتمع، وتتجلى القيم المشتركة وعادات الناس وتقاليدهم، حتى أن العرب في جاهليتهم عُرفوا بأسواقهم التي كانت ساحات للشعر والخطابة وليس فقط للتجارة وتبادل المنافع.
في السوق، تعيش المدينة بوهجها وصخبها وبألوانها وبروائحها. أذكر عندما كنت طفلاً, كان سوق القيصرية في مدينة الهفوف محطة رئيسة في تجوالي اليومي.. حتى أنني لا أستطيع نسيان تلك المناظر المتداخلة والروائح المميزة لسوق العطارة في طرف السوق وسوق البدو في الطرف الآخر… كنت أشعر بكل المدينة في تلك الدكاكين الصغيرة المتراصة، والبضائع البسيطة التي أتت من كل مكان إلى هذا السوق الذي يضج بالحياة.
أما اليوم فقد تحولت المدينة كلها إلى سوق كبير أفقدنا الإحساس بذلك الاختلاف بين السكن والسكينة وبين السوق والصخب.. لا أعلم لماذا هذا الامتداد للسوق, حتى أن المدينة تحولت إلى أشرطة من الدكاكين, ولم يعد لها مركز؟!
ربما آن الأوان أن ننظر إلى الجانب الثقافي لظاهرة التسوق، وأن ننتقد إشكالية الاستهلاكي/الإنتاجي التي تهدد المدينة العربية المعاصرة. فمن الناحية العمرانية، كانت المدن تتشكل بطرقاتها وأحيائها حول مركزها الذي كان يمثل السوق أحد أهم عناصره. ربما كانت هذه الصورة التي ميّزت المدينة العربية لقرون عديدة قبل أن تتحول إلى الحداثة، ويتحول وسطها إلى مجرد سوق غير مرغوب فيه ، مقارنة بأسواق حديثة صارت تنتشر على الأطراف وفي كل مكان، جعلت من المدينة المعاصرة كياناً مشوشاً يصعب فهمه.
تحولات رأسمالية
في المدينة العربية
عندما زرت مدينة الرباط هالني تحوّل أزقة المدينة وأفنية المساكن إلى محلات وورش. ولم يعد هناك أماكن يشعر فيها الزائر بالسكينة إلا ما كان بعيداً عن سرطان السوق الشره. لم يبقَ من المدينة القديمة داخل السوق إلا دكاكين متناثرة.. فهل المطلوب منا أن نستسلم ونترك المدينة العربية بتاريخها تتحول إلى سوق؟ قلت في نفسي لمَ لا..؟ فنحن نطالب بعودة الحياة الاقتصادية والاجتماعية إلى المناطق التاريخية، والتداخل بين المسكن والسوق أمر مهم ورئيس لإبقاء الحياة وتطورها في تلك المناطق.
أتذكر هنا مدينة نابولي الإيطالية التي يقال إنها أقرب مدينة غربية من الشرق وأقرب مدينة شرقية من الغرب . الإحساس بالشرق في نابولي يطغى على كل شيء، ومع ذلك فإن الحضور الروماني بهيبته وضخامته بين ثنايا المدينة وبيوتها يظهر فجأة.. هذا ما يمكن أن نراه عندما نمر في أحد شوارع المدينة القديمة ويشدنا فجأة الجالاري أو البساج Passage.. وهو سوق مسقوف مزجج يستفيد من أعماق المدينة ويتشكل من البنايات, حيث تتحول الطرق بين مجموعة من البلوكات (عادة أربعة بلوكات كبيرة) إلى سوق داخلية للمشاة وتصبح الواجهات الخلفية للمساكن دكاكين ومقاهي وقد ظهر في نهاية القرن الثامن عشر في المدن الأوروبية وانتشر في القرن التاسع عشر.
المفارقة هنا هو ما رأيتة في مدينة دبي مؤخراً والسوق الجديد ميركاتو الذي يوحي اسمه بمعنى السوق. ففكرة المشروع كلها ترتكز على تقليد فكرة الجالاري الموجود في المدن الإيطالية, حتى أن المعماري في معالجته لواجهات المركز ميركاتو في دبي كان يحاول أن يعيد روح المدينة الإيطالية التقليدية من خلال تصميمه للواجهات الجانبية على شكل وجود أبنية عديدة مصفوفة وكأننا في إحدى المدن الإيطالية، على أن الوظيفة الحضرية للسوق الإيطالي التاريخي تختلف كثيراً، فهو موصل لأجزاء المدينة المختلفة ورابط بينها ينقلنا من عالم صاخب ومتحرك إلى عالم ساكن.. بينما يمثل مركز ميركاتو مجرد صورة متخفية , ومكاناً للمتعة من دون وظيفة حضرية ذات قيمة..
ونتساءل لماذا تحولت نابولي إلى سوق كبير ممتع ورائع, ولم تتحول المدن العربية بالقدر نفسه من الجمال والمحافظة على روح المدينة القديمة؟
تحولات تفتقد الحياة
كما ذكرت كان منظر الرباط القديمة يبعث على الأسى. أما القاهرة فكل ما فيها يشعر بعدم الراحة, لم تتحول المدينة إلى سوق متوهج بقدر ما تدهورت المباني وتراجع تراثها البصري والمعماري. وحلب التي يمر بها طريق الحرير ، المدينة النابضة بالحياة التجارية لا تجد فيها الروح التي يمكن أن تشعر بها في مدينة مثل نابولي. رغم ثراء سوقها التقليدي الذي يعتبر من أهم الأسواق العتيقة الباقية على قيد الحياة في المدن العربية. ربما نجد في مدينة جدة بعض التحول الإيجابي، ولكنه تحول يفتقد الحياة. فقد تحولت جدة القديمة إلى ما يشبه المتحف، ولم يمتد سوقها ليبعث الحياة في المدينة التي هجرها أهلها.. بل إننا لا نشعر بجدة القديمة من الخارج. فهي محاطة بالمباني الخرسانية ووجودها حضرياً وبصرياً محكوم عليه بالسجن خلف تلك القلاع التي لن تعطيها فرصة للحياة في يوم.
أعتقد أن المدينة العربية تعاني أزمة حياة ربما يكون للمجتمع دور فيها. إذ يبدو أننا، كمجتمع، لا تمثل لنا المدينة الشيء الكثير. فنحن نعيش داخل عالمنا الخاص الذي لا نريد أن نتقاطع فيه مع أحد. لذلك يصعب أن نجد مدينة عربية مثل نابولي أو غيرها من المدن الإيطالية والأوروبية حيث أسرار المدينة ومبانيها تنثر على أرصفة الشوارع.. فمدننا التي أصبحت سوقاً كبيراً تظل مدن مباني وشوارع كما وصفها أمين إحدى المدن الكبرى في السعودية.
وأحد الأسئلة التي تُطرح دائماً حول الموضوع نفسه هو: لماذا هناك عدد كبير من الأسواق المغلقة في المدن العربية؟.. ونجد إجابة واحدة بسبب حرارة الجو ، وهي إجابة غير مقنعة أبداً. إن الطبيعة السلوكية للمجتمع لها دور كبير في هذا التوجه إلى الداخل, رغم ما نشاهده من تنافس حاد حول بناء المراكز التجارية إلا أننا لا نشعر بوجودها وبتأثيرها في المدينة ونسيجها الاجتماعي والثقافي, بل نرى أنها تزيد من برودة مشاعر المدينة التي نجدها في شوارعنا وطرقاتنا الخالية. فمدينة مثل مدينة الرياض يسكنها حوالي خمسة ملايين إنسان، لا نجد الإنسان إلا في المركبات التي تضج بها الطرقات.. وفي هذه الظاهرة أمر مثير للاستفهام, إنه يؤكد فكرة أن مدننا هي مبان وطرقات .
لقد حاولت أن أجد علاقة حضرية بين المراكز التجارية التي تكتظ بها مدينة الرياض، فلم أجد سوى الازدحام الشديد للطرقات المحيطة بتلك المراكز, ولم أجد الإنسان الذي يتنقل من مركز إلى آخر رغم قرب تلك المراكز بعضها من بعض.. ومن يعرف مدينة الرياض جيداً لن يستغرب أبداً، فمسألة التنقل مشياً من شارع إلى آخر هي مجازفة ومخاطرة.. كما أن لا دافع يشجع المرء على الانتقال من سوق إلى آخر, فكل الأسواق تتشابه, والمعروضات هي نفسها تقريباً, والمسألة تبقى في القرب والبعد والمساحة التي يمكن أن تجعل ساكن المدينة يفضل مكاناً على الآخر..
المدينة العربية التي تتحول إلى سوق كبير يوماً بعد يوم تدفع سكانها إلى الداخل بدلاً من أن تدفعهم إلى بعث الحياة في المدينة. في مدينة الشارقة كان هناك السوق المركزي الذي صمم في بداية السبعينيات, رمزاً بصرياً مفتوحاً على الخارج كمحاولة لبعث الحياة في مدينة تتسارع نحو الحداثة. على أن ذلك السوق لم يصمد طويلاً أمام متغيرات الحياة الرغدة فتحول إلى مكان مغلق يعيش على التكييف. الأمر الغريب كذلك هو أن أحد الأسواق التقليدية الذي رمم مؤخراً في الشارقة (سوق العرصة) لم يصمد بدوره طويلاً، بل تحول إلى سوق مغلق مكيف . ويبدو أن المدينة الخليجية على وجه الخصوص تحولت إلى مدينة ميكانيكية, لا تقبل الحياة الطبيعية. والمبرر الوحيد الذي يراه الناس هنا لهذه الظاهرة هو حرارة الجو . إننا لا ننكر دور الطقس وتأثيرة السلوكي الواضح, ولكن هناك أسباباً أخرى تجعل مسألة البحث عن الحلول السهلة أسلوب حياة . حتى في مدينة مسقط الرائعة بدأت تظهر الأسواق المغلقة لتبعد السكان عن سوق مطرح التقليدي وهو أمر سيكون له تبعاته الكبيرة على المدينة في السنوات المقبلة.. والحقيقة أن هذا المشهد يتكرر في كل عاصمة خليجية, ففي المنامة هناك تحوّل لمركز المدينة جهة منطقة السيف ومراكزها التجارية التي تسحب السكان إلى الداخل الميكانيكي وتفرغ وسط المدينة من محتواه التاريخي – الاجتماعي، فلم يعد باب البحرين وأسواق المنامة والمحرق تغري أحداً.. وربما تكون مدينة الكويت من أوائل المدن الخليجية التي خسرت روحها التقليدية عندما أزيلت المدينة القديمة بكاملها. ومع أن شارع السالمية كان من أشهر الشوارع التي كانت تعج بالحياة في منطقة الخليج في فترة الستينيات من القرن الماضي.. إلا أنه فقد كثيراً من وهجه. ويذكرنا شارع السالمية بما حدث لشارع الملك خالد في مدينة الخبر (شرق السعودية)، فقد سلبته المراكز التجارية الحديثة تلك الإثارة التي كان يتمتع بها وحولته إلى مجرد شارع وسط مدينة مزدحمة بالمركبات.
ولو حاولنا أن نجري مقارنة أخرى بين ما حدث في المدينة العربية والمدينة الغربية سوف نجد أن المدينة الغربية لم تفقد حيوية وسطها التاريخي حتى بعد ما حاول الساسة بناء مدن جديدة. فمنطقة الدفاع في باريس لم تنجح في سحب سكان المدينة من باريس القديمة.. فالحي اللاتيني (سان ميشيل) ما زال يعج بالحركة، والشانزلزيه ما زال المكان المفضل للساسة ورجال الفن والفكر. أما المدينة العربية التي كان يغلب عليها في يوم من الأيام الحفيز ، وهو الدكان الصغير، فقد تطورت بالإيقاع الفردي نفسه غير المخطط له وتحول الحفيز إلى مراكز تجارية متناثرة في المدينة من دون دراسة أو فهم لتأثير هذه المراكز على مجتمع المدينة وحياتها.
ثقافة المراكز التجارية
ربما تكون الظاهرة الأهم هي نمو الأسواق أو تحول المدينة إلى سوق كبير من دون مبرر اقتصادي واضح. ويؤكد هذا التحول الظاهرة الاستهلاكية للمدينة، وهي هوية جديدة تقوم عليها المدينة العربية المعاصرة. وهذه الظاهرة التي تتفاقم لا تجد حلاً لها؛ لأن المستثمر لا يقبل المغامرة بل يعمل في الآمن والمضمون.
عندما نسأل أنفسنا كيف تحولت المدينة العربية إلى ما أصبحت عليه، يقودنا السؤال إلى بدايات التحول الذي عاشته تلك المدينة منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر تقريباً، عندما خطط الفرنسيون (عمدة باريس، هوسمان على وجه الخصوص) حي الإسماعيلية الذي تحول في وقتنا الحاضر إلى سوق كبير يعج بالناس في وسط القاهرة. فذلك التحول أوجد منذ البداية فكرة المخازن الكبيرة (عمر أفندي وغيره) ومنذ تلك اللحظة تشكلت فكرة الأسواق الحديثة.
ربما يكون مفهوم السوق أو المركز التجاري بشكله الحديث أتى من الغرب، ولم يكن هذا ضرورياً على أية حال في المدينة العربية التقليدية. لكن الوضع تغير عندما اصطدمت تلك المدينة بالحداثة، فقد كانت الصدمة الرأسمالية شديدة وأفقدت المدينة العربية توازنها.
ربما تعود هذه الظاهرة كذلك إلى تعقد المدينة وتشعب وظائفها فلم تعد المدن توفر لسكانها فرصة الاستمتاع بالحركة. فكل ما فيها يدعو إلى البحث عن سبل أسهل للحياة، ووجود فضاءات تجارية تجمع كل ما يحتاجه الناس تحت سقف واحد يمثل حلاً رأسمالياً/اجتماعياً. ومع ذلك فإن المراكز التجارية لم تتحول إلى ظاهرة في المدينة العربية إلا في العقدين الأخيرين، كجزء من الظاهرة العالمية التي دفعت بثقافة الاستهلاك إلى حدودها القصوى، حتى أنه لم يعد هناك خصوصية للسوق نفسه، فكل البضائع متشابهة. وأصبح التنوع في شكل السوق وليس في محتواه، على أن ما يهمنا هو تأثير هذه المراكز في المدينة العربية من الناحية الثقافية والعمرانية.
بين ثقافة الأسرة وثقافة المدينة:
أفكار لتصميم المراكز التجارية
لم تعد خرائطنا الذهنية التي تشكلت في عقولنا عن المدينة بسيطة كما كانت عند آبائنا. لا بد لهذا التغيير الذهني الذي طرأ على رؤيتنا للمدينة من تأثير في أسلوبنا في الحياة.. فما الذي بدلته فينا الأسواق أو المراكز التجارية المعاصرة؟ وما الذي أحدثته من تغيير في علاقتنا بالمدينة وبعلاقة بعضنا ببعض؟
عند دراستنا للمراكز التجارية في مدينة الرياض، على سبيل المثال، أكد لنا جميع المطورين لتلك المراكز أن احترام ثقافة الأسرة السعودية هو الخطوة الأولى لضمان نجاح المركز. وكان سؤالنا هو: ما المقصود بثقافة الأسرة السعودية؟ فتعددت الإجابات عن هذا السؤال. فكل واحد ينظر إلى الأسرة من زاوية مختلفة، على أن الكل أجمع على أن الأسرة السعودية تفضل الأسواق التجارية الواضحة حيث لا ممرات بعيدة عن الساحات العامة داخل المركز. وهذه قضية أمنية مرتبطة بدور المرأة في المجتمع، فهي لا تفضل أن تكون بمفردها داخل المركز التجاري. والمؤكد أن مصممي المراكز التجارية في السعودية صاروا يعون جيداً هذا الدور وهذه الرغبة. فمن دونها سوف تكون تصاميمهم فاشلة. والحقيقة أنني كنت أقصد من هذا المثال أن المراكز التجارية ظاهرة ثقافية داخل المدينة تؤثر وتتأثر بمجتمع المدينة، وما هو مفضل في الرياض قد لا يكون كذلك في عُمان أو دبي أو بغداد.
نعتقد أن المصمم يستطيع أن يحقق ما تحتاجه الأسرة العربية في المراكز التجارية بوضوح إذا وعى أهمية دور المرأة في تحديد الصورة النهائية للمركز. ومع ذلك فنحن لا نعتقد أن تحقيق التوافق بين المجتمع وحركة السوق مسألة هينة. إذ إن للجدوى الاقتصادية دوراً مؤثراً في القرارات التصميمية المرتبطة بالمراكز التجارية. فعلى سبيل المثال، يقول مسؤول في إحدى شركات التطوير العقاري في الرياض إن الشركة فكرت في مراكز تجارية بسيطة ذات مسارين بينهما محلات في الوسط وعلى الأطراف، بحيث يرى المستخدم في رحلة الذهاب محلات تختلف عن تلك التي في الإياب. على أن هذا جوبه بمشكلة تقليل الوضوح داخل المراكز. وقامت الشركة بعدد من الدراسات أكدت جميعها أن المراكز التي طورت بمسارين مفتوحين على فناء داخلي مغلق تصيب الإنسان بالملل؛ لأنه سيرى كل شيء دفعة واحدة . ورغم أن في هذا الرأي بعض الصحة خصوصاً إذا ما عرفنا أن الغموض والتعقيد حاجتان يطلبهما الإنسان في بيئته العمرانية، إلا أن التعقيد والتناقض يمكن أن يحققهما المصمم في المركز التجاري حتى لو لم يكن ذا مسارين مفتوحين على فناء مغلق، فـ السيتي سنتر ومركز حمر عين في دبي و الفيصلية و المملكة في الرياض كلها مراكز تجارية من هذا النوع، الذي هو عبارة عن ساحة طولية واسعة (لايمكن أن نسميها ممراً) تشكل مسارين للحركة لا يوجد بينها فواصل، مما يجعل المستخدم يتنقل من مسار لآخر من دون أن يشعر بالملل. فالإيقاع بين المغلق والمفتوح وتأثير الحجم والشكل له تأثير كبير في تحقيق متعة التسوق.
ويمكننا أن نضيف في هذا السياق عنصراً آخر هو واجهات المحلات التجارية وأسلوب العرض الذي يختلط فيه الفن البصري مع الفن التسويقي.
وهناك العديد من الفنون والأساليب التي بدأت توظف لإضفاء المتعة على المراكز التجارية من الداخل، حتى أن المراكز الكبرى صارت تستخدم الأفنية الوسطية لتقديم العروض المسرحية والغنائية والدعائية لجذب أكبر قدر ممكن من الزوار. كما يحتوي العديد من المراكز على قاعات للعرض السينمائي وصالات للملاهي. فقد أوجدت المراكز التجارية ثقافة جديدة في المدينة هي الترفيه المنغلق على الداخل، وأصبح كل مركز هو عالم بحد ذاته، ولم يعد هناك من داعٍ بالنسبة إلى ساكن المدينة كي يتعرف على كل أجزاء المدينة فلديه ما يكفيه في المكان الذي يعيش فيه.
بين التخطيط والرسملة
يجب أن نفكر في المركز التجاري من الخارج وكيف يمكن أن يكون متواصلاً مع المدينة وسكانها. فإذا كان وجود مواقف سيارات فوق سطح الأرض أحد المحددات التي يمكن التفكير فيها فليس بالإمكان تحقيق هذا العنصر في كل الأحوال. ففي المترو سنتر وهو أحد المراكز التجارية الكبرى (في مدينة نيوكاسل أبون تاين في إنجلترا) يتنافس الزوار على المواقف المكشوفة الواقعة على أطراف المركز، بينما المواقف المتعددة الطوابق غير مرغوبة من المستخدمين رغم أنها محمية من المطر وموصلة بالسوق من خلال المصاعد والسلالم الكهربائية. وأسباب ذلك قد تكون كثيرة، ولكن المشكلة هي في إمكانية توافر المواقف المكشوفة.
وفي مركز الشعلة في مدينة الخبر (قبل أن يحترق ويزال) كانت مواقف السيارات فوق المبنى، وكان هذا لا يشجع الزوار على استخدام سطح المبنى كمواقف لسياراتهم لصعوبة العودة إلى السطح بعد التسوق محملين بمشترياتهم. وقد شاهدت الظاهرة نفسها في مركز (وايتليز) في لندن، حيث تقع بعض المواقف على مستوى الطابق الثالث ولا يستخدمها كثير من الناس. ويمكن رؤية مثال آخر لحلول مواقف السيارات في مركز الشرق الأوسط بمدينة جدة، حيث يوجد في المركز مواقف للسيارات تحت المبنى ولم تستخدمه الأسرة السعودية، لذلك قرر أصحابه استخدام المواقف فوق أرض قبالة المركز، ولكن بات على الأسرة عبور شارع فلسطين، فتم بناء جسر عبور مغطى ومكيف يربط المواقف مع المركز بسلالم ومصاعد كهربائية. إذن القضية تتجاوز مسألة توافر مواقف للسيارات إلى التفكير في نوعية المواقف ومدى ملاءمتها لثقافة المستخدم.
ويبقى السؤال: لماذا نعتقد أن تصميم المراكز التجارية يجب أن يحظى باهتمام خاص في المدينة العربية المعاصرة؟
نحن مثلاً بحاجة إلى حل مشكلة الوسط التاريخي للمدينة العربية وإعادة إحيائه بما يحفظ للمدينة شخصيتها التاريخية، وقد يجعلنا هذا نفكر في مساهمة المراكز التجارية في إعادة إحياء الوسط التاريخي. ففي أغلب المدن الأوروبية نجد أن المراكز التجارية استخدمت لإعادة توصيل المدينة المفتتة. من الأمثلة الجديرة بالذكر السنترال أركيد في وسط مدينة نيوكاسل الإنجليزية، وهو مركز تجاري صغير مفتوح بشكل كامل على أحد شوارع المشاة في المدينة وهذا السوق يذكرنا بالقيصريات في المدن العربية. فرغم أنها أسواق مغلقة إلا أنها مرتبطة بالخارج بشكل كبير، حتى أن الطرقات والسكك المحيطة بالقيصرية غالباً ما تكون متصلة بشبكة ممرات موجودة داخل القيصرية نفسها، فتكون بذلك جزءاً من النسيج العمراني (سوق الحميدية بدمشق والسوق القديم في حلب، والقيصرية بمدينة الهفوف). ونستطيع أن نرى ذلك في العديد من الأسواق المعاصرة ففي (الكويينز أركيد) في مدينة كاردف (عاصمة ويلز) نجد المركز التجاري مفتوحاً على ساحة متصلة بطريق مشاه، فيربطها بأجزاء أخرى في وسط المدينة.
ولتبيان الإمكانات الكبيرة التي يمكن أن تقدمها الدراسات المتأنية للمراكز التجارية، نستطيع أن نقارن بين تجربتين حضريتين حدثتا في مدينة الرياض خلال الأعوام القليلة الماضية. التجربة الأولى هي شارع المتنبي (حي الملز) الذي تحول إلى شارع للمشاة، أما التجربة الثانية فهي منطقة قصر الحكم.
في التجربة الأولى يخيل لنا أنه كان هناك عدم تصور لسلوك المستخدمين لشارع المتنبي، مما أدى إلى فقدان الشارع لقيمته التجارية التي كان يحظى بها سابقاً. فمستخدمو الشارع، كانوا يأتون بصحبة عائلاتهم، فتنزل المرأة إلى المحل المطلوب ثم تعود إلى السيارة مباشرة، أي أن قرب السيارة من المحل كان عاملاً مؤثراً في زيادة الإقبال على التسوق، خصوصاً في الأجواء الحارة. كما أن مرور السيارات باستمرار في الشارع كان حافزاً دعائياً للمحلات الموجودة فيه. ويؤكد بعض أصحاب المحلات أنهم كانوا يعرفون زبائنهم من سياراتهم ويحددون السعر حسب ذلك. ومع التغيرات التي حدثت فقدوا هذه الميزة. وعلى سبيل المثال أيضاً، عندما حاولت بلدية الخبر إغلاق شارع السويكت في الخبر لم تنجح في ذلك فأعادته إلى حالته الأولى. ولحسن الحظ لم يكن هناك منشآت مما أعطى البلدية مرونة كافية في التراجع عن القرار عندما ثبت عدم جدواه. كما أن شارع المتنبي واجهته مشكلة أخرى عند تطوره إلى طريق مشاة إذ كانت هناك مجمعات تجارية عملاقة قد بدأت بالظهور في أطراف الرياض (مشروعات العقارية في العليا بالرياض بدأ التفكير فيها منذ عام 1977م). تلك المجمعات مغلقة ومكيفة توفر الراحة والأمان للمستخدم بعيداً عن حرارة الجو. كان من الأجدى أن يطور شارع المتنبي بحيث يجمع القدرة على أن يكون سوقاً مغلقاً ومفتوحاً في الوقت نفسه وأن يكون حلقة وصل بين أجزاء المنطقة التي يقع فيها.
أما منطقة قصر الحكم بالرياض، فقادرة على أن تكون أحد الأمثلة الرائدة للتطور الحضري لوسط المدينة العربية. فالتنوع الوظيفي الحاصل فيها يعد من أهم عناصر النجاح لهذا المشروع، إذ إن الفراغات المفتوحة ذات خلفية تاريخية تقود المستخدم إلى الأسواق المغلقة أو المغطاة (المعيقلية) أو (مركز التعمير الذي صممه كل من راسم بدران وعبدالحليم إبراهيم) بشكل أقل، كما أنها تقوده إلى الجامع الكبير ومبنى الإمارة والأمانة. ونعتقد بأن المنطقة تقدم الفرصة لكل المنطقة القديمة للتطور والبقاء على قيد الحياة.
مدينة بلا أسواق.. أسواق بلا مدينة
من الواضح أن استخدام المراكز التجارية كرابط لوسط المدينة يساعد على اكتشاف المدينة عن طريق المشي الذي شجع كثيراً من المسؤولين عن إدارة المدن على تطوير وسط المدينة للمشاة. في مدينة نيويورك، على سبيل المثال، هناك الجادة الخامسة كأحد الشوارع الرئيسة التي يستخدمها المشاة وتربط عدداً من الأبنية والمراكز التجارية المشهورة. حركة المشاة في هذا الشارع تضيف إلى مدينة نيويورك حيوية كبيرة، ويجد فيها المشاة فرصة كبيرة لاكتشاف (منهاتن). ويتكرر المشهد في أغلب المدن الأمريكية. على أن حركة المشاة وارتباطها بالمراكز التجارية لم تتطور في وسط المدن العربية والخليجية، إلا إذا استثنينا مدينة دبي التي استثمرت مهرجانها للتسوق لتفعيل حركة المشاة وربط عدد من المراكز التجارية بعضها ببعض.
أعتقد أن التفكير في تصميم المراكز التجارية لابد أن يكون من ضمن التفكير في المدينة ككل. ولا بد أن تكون الحلول مرتبطة بالحلول الحضرية والتخطيطية للمدينة. وربما نحتاج أن نفكر كذلك في قضية أخرى ألا وهي ظهور المراكز ذات الوجهة الواحدة. فأغلب المراكز التجارية في الآونة الأخيرة تطور كي تكون ذات وجهة واحدة مطلة على الشارع الرئيس وبها مداخل رئيسة، بينما الوجهات الأخرى من دون أهمية تذكر. ومثل هذا التوجه لن يطور عمارة متميزة، وسوف تكون المراكز التجارية رديئة من الناحية المعمارية. لعل الوضوح الذي تحدثنا عنه هو ما جعل المصممين يركزون على تصميم مراكز ذات وجهة واحدة مفتوحة على مواقف السيارات السطحية إرضاءً للزبون، فنحن قد نكون مقبلين على أسواق من دون أن تكون هناك مدن. ولعل بعض المدن الخليجية تتجه إلى هذه الظاهرة الرأسمالية العنيفة، حيث تصبح المدينة كلها سوقاً، ويبحث الناس فيها عن مدن صغيرة بعيدة من دون أسواق.