الثقافة والأدب

توماس ترانسترومر

حياته تفتح عينيها في الظلمات

  • Tomas-Transtromer
  • -
  • -

الصورة فجر الكلام، هكذا كان يراها الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، وهكذا استشهد أدونيس بها في شعر توماس ترانسترومر الحائز، مؤخراً، جائزة نوبل للآداب. فبعد خمسين عاماً تؤول جائزة نوبل للآداب لأحد مواطنيها، ضاربة بكل التكهنات عرض الحائط. للشاعر أن يكتب عن الشاعر، لكن عندما يكون الشاعر مترجماً فإننا نفرد له مساحة للتحليق في سماء الشعر والترجمة .الشاعر والمترجم جهاد هديب يرى أن ترانسترومر لونان من ضوء يسيلان على ورقة مبتلة.

بدأ شعر ترانسترومر بالتدفق إلى الثقافة العربية من السويدية مباشرة من خلال ترجمة صدرت عام 2005م

لم يكن الشاعر السويدي توماس ترانسترومر الحائز نوبل للآداب لهذا العام غريباً عن الثقافة العربية تماماً، لقد كان الرجل على الأقل معروفاً بين النخبة عبر ترجمتين: من السويدية مباشرة بعنوان: الأعمال الشعرية من ترجمة حسن حمادي عن دار بدايات الدمشقية 2005م، مسبوقة بأخرى عن الإنجليزية، ربما لديوانه «ليلاً على سفر» من ترجمة ناصر كنانة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2003م. لكن هذا الانتشار قد اتسعت مساحته إلى حدٍّ كبير مع تنافسه القاسي مع الشاعر العربي أدونيس (علي أحمد سعيد) على جائزة نوبل لهذا العام، حتى كأنَّ الرجل – أي ترانسترومر – قد أخذ نهر شعريته يتدفق إلى الثقافة العربية لأول مرة عبر ترجمات لقصائده التي أعيد الكثير منها نقله إلى العربية وعبر ترجمات عنه فضلاً عما كتب حوله وحول شعره.

عبر هذه الترجمات الشعرية، يتلمس القارئ إن هذا الغنى الذي يتوافر عليه شعر ترانسترومر هو وليد معجمه المحدود من المفردات، مقروناً برؤية منفتحة على إعادة كتابة المادة التاريخية بوصفها حدثاً ودلالة، وكذلك على مفردات المشهد الطبيعي اليومي والعادي وقد أُعيد تأثيثها وفقاً لمنطق أسطوري، إذا جاز التوصيف، ينأى بالأسطوري عن وظيفته الدينية وجعله دنيوياً تماماً. وربما من هنا يتداخل الجمعي بالفردي في قصائده التي نادراً ما يستخدم فيها أنا «النحن» ليترك لأنا «الذات» أن تعيد صياغة الصورة والتكوين في المشهد الشعري، في سياق ما يمكن القول بأنه سياسة شعرية تجعل من الشعر بسيطاً وفي المتناول، ويمكن لقارئٍ فردٍ في عزلته أن يتقاطع في مخيلة القراءة مع الشخص السارد في القصيدة، فيصير الاثنان واحداً.

يتركز معجم ترانسترومر حول الضوء والظل ومابينهما من تدرجات لونية تفضي إلى ألوان أخرى هي إما مظلمة وإما مضيئة. أيضاً هناك الأشياء المتوافرة في البيئة والمحيط الإنسانيين بوصفهما كائنات حيّة وجامدة تتعين في القصيدة ضمن الحيِّز الخاص بها، من دون أنْ تخرج عن كونها إنسانية وفي متناول المخيلة على إعادة تشكيلها.
ومَنْ يلاحظ ذلك التوزيع البصري للقصيدة على بياض الصفحة يلمس أن للضوء صلة، الضوء لجهة أنه لون وفقاً للمعنى التشكيلي للكلمة، فترانسترومر يكاد لا يكتب قصائده بل يرسمها، يجعل قارئ شعره يتخيلها، كما لو أنَّ عين الناظر إلى اللوحة هي ذاتها مخيلة القراءة. وهنا ليست القصيدة صوراً متجاورة كما هي اللوحة التشكيلية، بل صور متتالية تتجاور في مخيلة القارئ. يبدأ الشاعر قصيدته بشطر أو اثنين متَّبعاً علامات الترقيم ثم يترك بياض النص فارغاً من أي كلمة، ليتابع بعذ ذلك بناء مشهد آخر، وهكذا حتى يقفل قصيدته، بحيث يبدو أنها «قفلَة» لما بدأ به القول الشعري لا القصيدة كلها، وما بين المشهد الأول والأخير من القصيدة ثمة مشاهد موازية ليست فائضة إنما تعمل على إبراز تلك العلاقة بين المشهدين، على نحو ما تفعل العناصر الأخرى في العمل التشكيلي التي تبرز من مركز اللوحة، إذ تصنع حوله تناغماً لونياً وتكويناً بصرياً يجعل إصبع الناظر إلى اللوحة يكتشف فوراً مركز اللوحة من فرط جاذبيته، وللدلالة على ذلك ليأخذ القارئ أي قصيدة من القصائد المترجمة هنا وليس بقصيدة نثر، بل أي قصيدة من الشعر الحرّ.
لا نزعة تأملية باستثناءات قليلة في شعر ترانسترومر، بل القصيدة كلها، مبنى ومعنى، هي تأمل في العالم وإعادة صياغة لتاريخه، ورغم بساطة القول الشعري لديه هنا إلا أن شعره ينطوي على التماعات شعرية أخَّاذة يشفّ عن غموض يقبل القسمة على التأويل:
« هذه اللحظةُ تضرِّج بالدم فيوضاً تخرج من الأبدية،
هذه اللحظة تنزف دماً في الخلود».
إنه، حقّاً، شعر يصيب المرء بالدوار ويجعله دائخاً لقليل من الوقت فيما يردد الكلمات ذاتها.

أضف تعليق

التعليقات