بقيت الثقافة العربية، والأدب العربي، وكل ما له علاقة بالتواصل الثقافي في معاناة أزلية مع إشكالات كبرى كانت تصل أحيانا حد القطيعة، وعدم التواصل الذي من شأنه التعريف بأدب وأدباء المناطق العربية.. فالكاتب والكِتاب في المشرق لا يُعرف عنهما شيءٌ في المغرب، والعكس وبالعكس. وكان من المؤسف أن تجد أديباً مهماً لا يُعرف إلا بمحض الصدفة خارج منطقته.
لذلك فإن من أهم الإيجابيات التي حملها التواصل الكوني الجديد ـ بشقيه الفضائي (التلفزيوني) و(النتّي) ـ المساهمة في تسهيل التواصل، وتوسيع رقعته بأسرع مما كانت تتيحه وسائل التواصل التقليدية. بل، وهذه إيجابية لا تقل عن سابقتها، ألغت قنوات التواصل الجديدة الحواجز التي كانت معيقة لحرية تداول الثقافة، كمشكلات النشر الداخلي و المطبوعات الخارجية.
إن جيلاً جديداً قد وجد طريقه عبر ما يُعرف اليوم بـ “المنتديات”، التي أظهرت مواهب أدبية واعدة كثيرة، ولعل ما يؤكد هذه البشارة ما لمسه المتابع للملتقى الشعري العربي الأخير المنعقد في صنعاء منتصف إبريل الماضي (ملتقى صنعاء الأول للشعراء الشباب العرب) الذي كان خاصاً بشعراء التسعينيات العرب. فقد وجد معظم المشاركين أنهم يعرفون بعضهم بعضاً عن طريق مواقع ومنتديات الإنترنت قبل أن يلتقوا وجوهاً لوجوه في فعاليات الملتقى، بل إن اللجنة المنظمة للمؤتمر صرحت بأنها اعتمدت بشكل كبير في اختيار أسماء الشعراء على منتديات ومواقع الشبكة.
لكن الأسئلة المهمة عقب تلك الإيجابيات تتمثل فيما يلي: هل ما تطرحه منتديات الإنترنت يتسم بالصبغة الأدبية ذات الخصائص الفنية المشروطة في المستوى الأدنى لما يستحق أن يُطلق عليه نص أدبي؟
السؤال الآخر: ما مدى الفصل بين الكتابات الجادة، وبين الخواطر العابرة غير المتكئة على تجربة ثقافية؟ وما مستوى المصارحة لدى القائمين على تلك المنتديات وممارسي النقد فيها عند تعاملهم مع تلك النصوص؟
ما يُؤسَف له، في واقع المنتديات، هو هشاشة الطرح الغالبة وندرة الجودة والتنافس الكمي الذي يسجله الزوار والمتصفحون. فمن الأبجديات التي كانت معروفة قبل (أدب المنتديات) عدم حديث الكاتب عن نصوصه؛ لأن النص ما لم يقدم نفسه بنفسه فلن يكشف صاحبه بواطن الاشتغالات الفنية فيه، إذ يبقى حديث صاحبه ثرثرة مهما كانت المسوغات.
في المنتديات تصطدم بأرتال من صفحات الردود والتعليقات حول المشاركة الواحدة، تجد الكاتب يكتب أضعاف أضعاف عدد كلمات نصه تحت إغراء كلمات المجاملة (الردود). يستمر المنوال، كاتب يحابي آخر، ليرد له الدين في مشاركة لاحقة. والأدهى من ذلك أن الشخص قد يحرك منتدى بأسره من خلال عشرات الأسماء المستعارة غير الحقيقية، بزعم أنها أسماء جديدة. فيضع مشاركته باسمه الحقيقي، ويحلق عالياً بالمشاركة في ردٍ باسم آخر، ويطالب (نفسه) باسم ثالث بالمزيد المزيد من هذه الروعة..!
لا أحد يمكنه الوقوف ضد تجربة المنتديات الأدبية كفعل ثقافي، ولكن محترمي الإبداع لا يمكنهم قبول إساءة استخدامها بما يخلط الجاد بالمفتعل، والحقيقي بالزائف..!
ولكم كان جميلاً لو استُغل فضاء المنتديات لممارسة وتوظيف تلك المساحات على نحو أكثر فاعلية وحراكاً، فترى المثقفين يخوضون في فعل ثقافي مشترك، يشترك فيه الخبير المجرب مع الواعد، والمهاجر مع المقيم، يشترك الجميع فيما يشبه المنتدى (المقهى الثقافي الكبير) الذي يستوعب الخطابات المهمّشة كافة، والأجناس الكتابية، والإبداعيـة، من دون حجر لشكل، أو انحياز لجنس ضد آخر..!