حياتنا اليوم

بين الرقمنة والمراقبة

الحياة الشخصية في مهب رياح التكنولوجيا

بين ما ينشره كثيرون بملء إرادتهم من معلومات يُفترض أن تكون خاصة وشخصية، كما يحصل على وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، وما تجمعه وسائل المراقبة التقنية الأخرى من معلومات إضافية، يمكن القول إن تفاصيل حياتنا اليومية تتعرَّض إلى مزيد من الانكشاف بشكل متعاظم. خاصة وأن أدوات المراقبة لم تعد تقتصر على «الكاميرات» التقليدية التي تكتفي بالتصوير لدواعٍ أمنية، بل صارت تشمل برامج كمبيوتر خاصة لتُحلِّل وتتوقع أدق تصرفاتنا لغايات تسويقية وتجارية.
photomix1
أبناء الجيل الجديد محرومون من الخصوصية، حياتهم بجميع تفاصيلها منشورة على مواقع الفيسبوك وتويتر وغيرها، لكنهم لا يشتكون من ذلك، ويعدونه أمراً طبيعياً، بل هم من ينشر الصور والأحداث اليومية وأسماء الأصدقاء والميول المتعلقة بهم. كما اعتادوا على وجود كاميرات المراقبة في الأسواق التجارية، وفي المطارات وفي الميادين والشوارع، فلا يأبهون بذلك، ويتصرفون وكأن الأمر لا يعنيهم، فهل نعجب بعد ذلك من استهتارهم بنظرات الناس من حولهم؟ يبدو أن الأمر في حاجة إلى اتفاق جديد بين الأجيال، أو إلى معرض يتناول هذا الأمر، وهذا ما فعله «متحف الاتصالات» في برلين.

في مبنى أثري شرق العاصمة الألمانية، يوجد أقدم متحف للبريد في العالم، تأسس في عام 1872م، وبعد تطور وسائل الاتصال، أصبح اسمه متحف الاتصالات. وهو يقيم في بعض طوابقه الثلاثة معارض تتناول قضايا عصرية، ووقع الاختيار هذه المرة على قضية بعنوان «العيش تحت المراقبة الدائمة».

المراقبة التجارية بالكاميرا
بعد اجتياز الردهة الطويلة في مدخل المعرض، التي تحتوي على لوحات كثيرة، وصور توضيحية، ندخل قاعة المعرض، التي جرى تقسيمها طولياً، نصفها باللون الأبيض، والآخر بالأسود. بحيث يمكن للزائر أن يرى المعروضات التي لها علاقة بالجهة التي تقوم بالمراقبة، وفي القسم الآخر يرى المعروضات ذات العلاقة بالشخص الذي يتعرض للمراقبة.

فإذا وقف الزائر في جهة الشخص الخاضع للمراقبة، يجد مثلاً واجهة محل، ويرى وراء الزجاج تمثالاً خشبياً يرتدي الملابس المعروضة للبيع، ولكن إذا دقق الشخص النظر، وجد أن حدقة عين التمثال عبارة عن كاميرا مراقبة. وتطلب إلينا السيدة المسؤولة عن القسم الإعلامي الانتقال إلى الجانب الآخر، لنرى الأمر من جانب الجهة التي تراقب. فرأينا هناك شاشة كمبيوتر، تظهر عليها معلومات كثيرة، تتضمن عدد الأشخاص الواقفين أمام المحل، وعدد أفراد كل جنس من الرجال والنساء، وفترة بقاء كل واحد منهم، ومتوسط أعمارهم.

توضح المرشدة أن هذه المعلومات مهمة جداً لمدير المحل، لأنه يستطيع على ضوئها تحديد عدد البائعين اللازمين لخدمة هذا العدد من الأشخاص. ويظهر من الفترة الزمنية التي يقفها كل شخص مدى جديته في الشراء. وبالتالي، يعرف المدير أيضاً كم عدد الخزائن التي يجب أن تكون مفتوحة في هذا الوقت، وكل ذلك من خلال برامج تقوم بتحليل كل المعلومات المتوافرة.

هنا يمكن أن يقول الزبون إن هذه المعلومات أسهمت في تحقيق الرفاهية بالنسبة له، لأنه لن يضطر للوقوف طويلاً، حتى يجد من يخدمه من البائعين أو من يتسلَّم منه ثمن البضاعة. ولكنّ هناك زبوناً آخر قد يرفض ذلك تماماً. لأن التصوير تم دون علمه، كما أنه لا يعرف من سيشاهد هذه الصور، وهل يقتصر ذلك على العاملين في المتجر، أم تنتقل بعد ذلك للشرطة، ثم ما هي مدة الاحتفاظ بها؟

المراقبة الأمنية
تبث قنوات التلفزيون في موسم الحج صوراً من غرفة المراقبة في الكعبة المشرفة، ويتضح أن الكاميرات لا تترك أي زاوية في هذه المساحة الهائلة، وأن بإمكان المسوؤلين عن المراقبة أن يتابعوا الشخص طوال الوقت، مهما تغيَّر مكانه. وهو أمر قد يستغربه البعض، حين يتخيل أنه مراقب طوال الوقت. لكن لو تفكر هذا الشخص، بأن هذه الكاميرات تضمن له معدلات أمان عالية، وبالتالي تتيح له التركيز في عبادته، لأن أي لص أو شخص شرير، سيفكر طويلاً قبل أن يدخل الكعبة، لإدراكه أنه سيقع في يد السلطات الأمنية لا محالة.

DSC02964في معرض برلين هناك تذكير بالمراقبة الأمنية وبالأوضاع قبل نشر المصابيح في الميادين والشوارع، وكيف كانت معدلات الأمان منخفضة. فكان الأطفال والنساء ممنوعون من مغادرة المنزل، وكانت بوابات المدن تغلق، ولا يسمح للغريب بالتواجد في شوارع المدينة. ومع وضع أول مصباح كهربائي في ميدان بوتسدام في برلين عام 1884م، تغيَّرت سلوكيات السكان لأن الضوء أتاح مزيداً من الرقابة الأمنية، وبالتالي تراجعت الأعمال الإجرامية.

وفي حين كان الألمان يخرجون في المظاهرات حتى عام 1983م اعتراضاً على عمليات تعداد السكان، ويعدونها تدخلاً سافراً في خصوصياتهم، أصبح اليوم بديهياً أن يضع كل شخص بصمته على بطاقته الشخصية، وأن تتوزع معلومات كل شخص على كل دول الاتحاد الأوروبي، وأن تحصل عليها السلطات الأمريكية من السلطات الأوروبية، إذا فكر الشخص في السفر إلى هناك. علاوة على إضعاف مبدأ سرية المعاملات البنكية، وغيرها كثير.

وتنبهنا مرافقتنا في جولتنا إلى أن القضية لم تعد تقتصر على مراقبة السلطات للمواطنين. بل أدى انتشار الهاتف الذكي إلى قيام الأشخاص بتصوير كل تحركات الشرطة. فإذا قام شرطي باعتداء على مواطن، مهما كان السبب، فإن هذا التوثيق للفعل، مع الرقم الذي يحمله الشرطي على ملابسه، يجعل الوصول إليه، ومحاسبته أمراً مؤكداً. لذلك فإن المراقبة لم تعد تسير في اتجاه واحد.

وإذا كانت السلطات في الماضي تواجه صعوبات في التجسس على الاتصالات الهاتفية، أو متابعة علاقات الشخص بآخرين، فإن التقنيات الحديثة جعلت هذا الأمر بسيطاً للغاية. فبدلاً من وضع توصيلة على كل خط هاتفي، أصبح من الممكن تسجيل كل الاتصالات لملايين الأشخاص دفعة واحدة، وتحليل المضمون، والتوصل إلى نتائج متكاملة.

المراقبة التجارية على الإنترنت
يمثِّل هذا النوع من المراقبة المرحلة الأكثر تطوراً في عالم المراقبة والأكثر إثارة للجدل. فهو سيمكِّن شركة «أمازون» مثلاً من أن تُرسل طلبات العملاء قبل أن يطلبوها.

photomix2فالشركة حصلت بالفعل على براءة اختراع تحت رقم US008615473، لفكرة تعتمد على توقع الشركة للطلبية المستقبلية من العميل، من خلال سلوكه الاستهلاكي. وإرسال طرد بهذه المحتويات إلى نقطة التوزيع الأقرب إلى مقر العميل. بحيث تكون الفترة الفاصلة بين الطلبية الفعلية، وبين تسلمها محدودة للغاية.

وإذا تأمل الإنسان هذه الفكرة وجدها منطقية. فالعميل كثيراً ما يفتح الموقع، ويتفرج على سلعة، ثم يضعها في سلة المشتريات، ثم يتراجع عن ذلك. ولكن الشركة تستطيع أن تعرف الفترة الزمنية التي أخذ العميل يراقب فيها هذه السلعة، ويقرأ تفاصيلها، وهو الأمر الذي يُعد مؤشراً على حجم اهتمامه بها. وهناك قائمة الأمنيات، التي يضع فيها العميل ما يفكر في شرائه في فترة لاحقة، أو ما يمكن أن يقوم أصدقاؤه بشرائه له كهدية، بدلاً من شراء شيء لا يرغب فيه. فلماذا لا تستفيد الشركة من هذه المعلومات؟

وإذا رأى كثيرون في ذلك مزيداً من الرفاهية، بعد أن تحقق حلم امتلاك الجنِّي الذي يقول لك «شبيك لبيك، عبدك بين يديك»، حتى أنك لم تعد في حاجة لتنطق برغبتك، لأنه يقرأ ما يدور في ذهنك ببساطة، بفضل الرقمنة التي جعلت كل شيء موثقاً، وقابلاً للتحليل، ولكنها في الوقت نفسه تستخلص المعلومات التي ترغب في إخفائها عن كل من حولك، وتعتقد أنها سرية أو خاصة جداً. في حين أنها أصبحت مسجلة في مئات الملفات حول العالم كله.

الأخ الأكبر يراقبك
أكثر الجمل سذاجة وانتشاراً، هي عبارة «ليس عندي ما أخفيه»، والتي يقولها كل من تحذره من عواقب التساهل في التعامل مع المعلومات الخاصة به.

فلو كانت المعلومات التي ندلي بها ببساطة في الإنترنت لا تهم أحداً، فلماذا إذاً تجد الشركات من يشتريها بملايين الدولارات؟ ولماذا هذا التعاون الوثيق بين أجهزة الاستخبارات العملاقة وبين مواقع الشبكات الاجتماعية، وشركات البريد الإلكتروني؟ لماذا مارست الولايات المتحدة ضغوطاً هائلة على الاتحاد الأوروبي للحصول على بيانات المسافرين إليها، مثل رقم بطاقة الائتمان؟

إن الأمر أخطر بكثير مما يعتقد البعض، فمن يتقدم للوظيفة، لابد أن يكون على يقين من أن قسم شؤون العاملين، سوف يفتش عنه في الإنترنت، فإذا وجد أي تعليق يتناقض مع ميول جهة العمل، فسوف يُرفض طلبه دون إبداء الأسباب، بل إن هناك جهات تقوم بإنهاء عقود موظفين لديها منذ سنوات طويلة، لأنها وجدت على صفحاتهم في الفيسبوك ما لا يروق لها.

قبل أكثر من نصف قرن كتب جورج أوريل روايته الشهيرة «1984»، التي توقَّع فيها أن يكون هناك دوماً من يراقبك، وأن «الأخ الأكبر» على اطلاع بكل ما تقوم به. فإذا بالواقع اليوم يفوق ذلك بكثير. فإذا تأخرت مرة عن دفع فاتورة في موعدها، فإن هذه المعلومة ستصل إلى جهة ما، ولا تستغرب عندئذ أن تجد المصرف يرفض إعطاءك قرضاً، أو أن تجد شركة الاتصالات تشترط الدفع المقدم، وصاحب البيت يرفض أن تسكن لديه، لأنه يخشى ألا تدفع الإيجار في الموعد. وكل ذلك بفضل الرقمنة، كل المعلومات مخزنة رقمياً، وكلها قابلة للتداول بين الجهات المختلفة.

DSC03010وحينما تتسبب المعلومات المتوافرة عنك في حصولك على إعلانات منتقاة تبعاً للهوية الرقمية، أو القرين الرقمي، الصادر لك، فتحصل على رسائل في بريدك الإلكتروني تتضمن عروضاً من شركات أدوية، لأنك بحثت قبل ذلك في جوجل عن هذه الأدوية، أو عروضاً سياحية لقضاء عطلة في إيطاليا، أو غير ذلك، مما لا تستطيع تغييره، لا يمكنك أن تشرح للجهة التي تصنع لك هويتك الرقمية، أن صديقاً لك استخدم جهازك، أو أنك تكتب مقالاً عن أدوية الشيخوخة، أو أن والدك طلب منك البحث عن رحلة له في الصيف.

رئيس البرلمان الأوروبي مارتين شولتس يطرح سؤالاً عن رأينا في أن يصبح كل واحد منا عبارة عن مجموعة معلومات، عندما تنظر شركات الشبكات الاجتماعية، لأعضائها باعتبارهم سلعة تحقق من ورائها المكاسب، حتى ولو تضمنت هذه المعلومات خصوصيات دقيقة عن الشخص، ويحذر من أن الإنسان في طريقه ليصبح مجرد بند في فاتورة، أبعد ما تكون عن مراعاة البعد الإنساني.

ويحذِّر شولتس من الاعتقاد الساذج بأن الشركات العملاقة وأجهزة المخابرات، ستتوقف عن مثل هذه الممارسات، والالتزام بأخلاقيات معينة. إن ذلك لن يحدث في الثورة الرقمية، إلا من خلال الكفاح من أجل الحفاظ على هويتنا الإنسانية، التي لا يجوز أن تؤدي الرقمنة إلى النيل منها.

القضية في رأي السياسي الألماني تمثل ضربة في مقتل للحريات، وتهديداً بانعدام خصوصياتنا، وهي حقوق أساسية لا بد من الدفاع عنها، قبل أن يتحوَّل القرن الحادي والعشرين، إلى عصر تحوُّل الإنسان إلى شيء.

الرسوم؟.. معلومات
في معرض «العيش تحت المراقبة» التقينا مسؤول العلاقات العامة فيه، الدكتور أوليفر جوتسه، الذي قال إنه ليست هناك دراسات علمية دقيقة توضح تأثير هذه المراقبة الدائمة على سلوكيات الأطفال والشباب. وذلك لأن هذه الظاهرة لم تبلغ هذه الدرجة من الهيمنة إلا في السنوات القليلة الماضية.

DSC02974وأوضح أن الوالدين لا يستطيعان في غالبية الأحيان تقديم النصيحة لأطفالهم، لأنهما لا يملكان التجارب في هذا المجال، ولذلك فإن المتحف يرى أن إقامة مثل هذا المعرض يسد ثغرة مهمة، لأنه يتيح للشباب التحدث مع علماء الاتصالات وتربويين متخصصين في التعامل مع هذه الظواهر الحديثة، ولذلك قرر المعرض أن يكون دخول التلاميذ والطلاب مجانياً.

وأضاف: إن أي إنسان يمتلك قدراً ضئيلاً من الاطلاع، يدرك منذ البداية أن كل الخدمات التي لا تطلب رسوم اشتراك مثل الفيسبوك، تحصل على الأموال من خلال بيع المعلومات. سواءً أكان المشتري من الحكومات أو المؤسسات التجارية. ولم يعد سراً أن المعلومات أصبحت وسيلة دفع مقبولة، والدليل على ذلك أن هناك كثيراً من التخفيضات لمن يستخدم بطاقات عضوية معينة، تجمع معلومات عن السلوك الاستهلاكي.

ورداً على سؤال عمَّا إذا كان المعرض قد استعان بأجهزة الاستخبارات وغيرها من الأجهزة الأمنية وشركات جمع المعلومات حتى يكون المعرض قريباً من الحقيقة، قال إن هناك تعاوناً مع عديد من الأجهزة في هذا المجال.

ولكننا لما سألنا ما إذا كان التعاون يعني أن هذه الأجهزة، ستستخدم المعرض أيضاً في جمع معلومات عن الزوار، وميولهم واهتماماتهم، ضحك وقال إن هذا ليس هو الهدف من المعرض.

لكن ألم يقل لتوِّه إن أي شيء يكون دون رسوم، يقتضي أن يحصل على تكاليفه من بيع المعلومات؟ عموماً من السذاجة أن يعتقد شخص اسمه أسامة، وأصله عربي، ويزور معرضاً عن المراقبة في عاصمة غربية، أنه ليس موضع اهتمام، وليس بعيداً أن تقرأ السلطات هذا التقرير، من بريده الإلكتروني قبل أن تقرأه أسرة التحرير في المجلة.

أضف تعليق

التعليقات