ديوان اليوم

العيون في الشعر العربي

  • Alqafeela_Painting Floating01

بين الأمس واليوم تأخذنا أستاذة الأدب العربي في جامعة الملك سعود بالرياض، الشاعرة د. مباركة بنت البراء، في جولة مع العيون في أبيات الشعراء. وتقدم قراءة شعرية ماتعة حولها من امرئ القيس الجاهلي حتى بدر شاكر السياب المعاصر. كما اخترنا للشاعرة في هذا الديوان قصيدة بعنوان: «من يوميات ابن زريق البغدادي».
على غير ميعاد- وأنا أقلِّب كنانيشي القديمة- عثرت على ورقة صفراء متآكلة رجعت بي إلى أيام الابتدائيّة، يوم كنت أتسلل بخوف وحذر إلى مكتبة أبي– رحمه الله- والتي خصَّص لها غرفة خاصّة في منزلنا القروي، وحرص كل الحرص على ألا يدخلها غيره، عندما يأتي من المدينة نهاية كل شهر.

وكان مفتاح الغرفة بحوزة أمي، تحرص على إخفائه في علبة حُليِّها، وهكذا كنت أتحيّن الفرص، وأنتهز زيارتها لجدتي في الطرف القصي من القرية، لأفتح الصندوق الحديدي المركون في المخزن، وأستخرج علبة الحُلي وآخذ المفتاح السحري على عَجَلة، وكُلّي ترقُّب وخوف، ثم أفتح المكتبة وكأني أدخل مغارة علي بابا، وأنظر بلهفة إلى الكتب المرصوصة بعناية فوق الأدراج الخشبيّة وهي ترقد مطمئنة، لا يكدر صفوها إلا العناكب المتجولة هنا وهناك، أخطف كتاباً، ثم أغلق الباب وأرجع المفتاح مكانه.

صادفت ذات يوم كتاباً عن العصور الأدبيّة لأحمد أمين، وأثناء القراءة، استوقفتني أبيات فكتبتها في دفتري الخاص الذي تعودت أن أدوِّن فيه بعض العبارات أو الأبيات التي أحس لها وقعاً في نفسي، وهذه الأبيات هي لغيلان ذي الرّمة:
لهــا بشـــرة مثــــل الحـريـــر ومنـــطق
رقيــــق الحـــواشـــي لا هـراء ولا نــزر
وعيــنــــان قـــــال الله كونـــا فكــــانتــــا
فعـــولان بالألبــاب ما تفـــعل الســحر
فيــــا حبـــها زدنــــي هوى كــــل ليلــــــة
ويـــا سلـــوة الأيـــام موعـدك الحـشـر

ما كنت أعي وقتها ما هي جمالية الصورة، ولا ما هو تأثير الإيقاع، وإنما راقتني الأبيات ودونتها بخط معوج، وحرصت على تدوينها ضمن مختاراتي الخاصة، ثم دار الزمن دورته لأعثر بعد عقود على الكراسة الصفراء، فأطالع فيها جزءاً من ذاتي طواه النسيان: خطي المبتدئ، دفتري الكابي اللون، طفولتي التي عبرت ذات يوم بين أحضان قرية ريفيّة وادعة.

لم يعد هناك ما يمكن استرجاعه عدا هذه الأبيات، قرأتها وأعدت القراءة، فوجدت أن هناك دواعي وجيهة تجعل الدارس والمتذوق للشعر يتوقف طويلاً عندها ويتملى هذه الصورة الفريدة، ويحاول تبينها. فلا تزال الأبيات تحتفظ بالوقع نفسه في نفسي، وتثير لديّ متعة فنية رائدة، تدعوني إلى استجلائها وأنا من تظن أنها أصبحت تمتلك أدوات تمكنها من فهم الشعر وتحليله، غير أني أحسست بعد تثبت أن في الأبيات ما يندّ عن التحليل، ويخرج على الآليات البلاغية المعهودة في شعرنا القديم من تشبيه واستعارة ومجاز. والشاعر لا شك في أنه استخدم بعض هذه الآليات في الأبيات حين تحدث عن البشرة الناعمة مشبهاً إياها بالحرير، وحين استعار رقة الحاشية لحديثها الأخَّاذ.

غير أنه حين وصل إلى العينين خرج عن المألوف في الصورة فنسبهما إلى إبداع الخالق «عينان قال الله كونا فكانتا» تجلَّت قدرة الله في هاتين العينين، انطلق فعل الكينونة «كونا» بأمر علوي غير مردود لتتجسدا كوناً خارقاً ساحراً مربكاً وكذلك هو بديع صنع الله: }إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون{، أمر من الله مُعْجِز تتلوه استجابة وتجسّد لما أراد، فعل خارق خارج عن مألوف البشر، تجلّى لقدرة قادر، هكذا تشكّلت عيناها، لم يشبههما بعيون المها، ولم يصف حورهما ولا اتساعهما، ولم يلح على نفاذهما كالسهام، وإنما بنى الصورة بشكل مغاير وخارق لأفق التلقي، ليفتح أمامنا عوالم الصورة المطلقة في أبهى تجلياتها، وما لا يحد من الجمال ومن التأثير، ثم أعقب بقوله: «فعولان بالألباب ما تفعل السحر»، فقرب الصورة في الشطر الثاني للبيت ليصف تأثيرهما، ولكنه زاد في بناء الصورة وبذخها لتظل هذه العيون خارج نطاق المألوف، وعصية على عالم المنطق والعقل، فمفعولهما مفعول السحر، ذلك الشيء الغريب المخيف المتستر وراء الأحجبة، والمتوسل بالطلاسم والطقوس الغريبة، عالم غيبي غرائبي تبنيه الصورة في هذا البيت الفريد عن وصف العيون.

وعديدة هي القصائد التي وصف فيها غيلان ذو الرّمة العيون، ومن قبله صور شعراء الغزل المرأة قواماً وقدّاً ومبسماً وحديثاً وكتبوا في ذلك الكثير، إلا أن سطوة العيون بالذات وكما يتهيأ لي ولدت صوراً وإبداعات فريدة في تراثنا العربي، واتخذت الصورة فيها مرجعيات مختلفة.

لقد توقف الشعراء الجاهليون في وصفهم المرأة عند العيون وتواتر تشبيههم عيون المرأة بعيون الغزالة المفزعة، أو المطفلة: فامرؤ القيس في وصفه فاطمة يشبه عينيها بعيني الرئم المطفل، أي التي لها ولد صغير، فلذلك ستكون عيناها مستنفرتين متسعتين، خيفة أن يسطو عليه وحش أو صيّاد:
تـصــد وتبـــدي عــن أسيـــــل وتـتـقــي
بــنــــاظرة مــن وحـش وجـرة مطفـــل
بل إنه تعدى الوصف الخارجي لعيونها إلى تأثيرها العميق عليه:
ومــا ذرفــــت عينـــاك إلا لتـضــربــــي
بســهميــــك في أعشــــار قلــب مقتــــل
وهي صورة تتكرر في العديد من القصائد وقد أوفاها جرير وصفاً حين جعل العيون الحوراء أداة قتل فتّاكة رغم ضعفها:
إن العيـــون التـــي في طـرفــهــا حــــور
قتـلـــنـنـــا ثــم لـــم يحـــيــــين قتـــــلانا
يصرعن ذا اللب حتــى لا حراك بــه
وهــــــن أضعف خــلــق الله إنســــانــــا
جرير
إن جريراً يقدّم صورة بديعة وهو يصف العيون تصرع الإنسان العاقل رغم ضعف إنسانها، فكيف بهذا الكائن الضعيف يصرع الإنسان القوي العاقل؟
ويبدع الشريف الرضي في الحديث عن العيون وتأثيرها العابر للقارات، وسجلاتها المليئة بالقتلى
يــا ظبـــية البــان ترعــــى في خمائــله
ليـــهنــك اليـــــوم أن الـقـلـب مـرعـاك
المـــاء عنــــدك مبـــــذول لشــــاربــــــــه
ولـيــــس يـرويـــك إلا مدمعـي الـباكـي
ســــهم أصــاب، وراميـــه بـذي سلــــم
مـن بالعــراق، لـقـد أبعـدت مـرماك!
وعـد لعينيـك عـنــدي ما وفـيـــت بــــه
يــا قــرب ما كذَّبــت عـيـني عـينـــاك!
حكت لحاظك ما في الريم من ملـــح
يــــوم اللـقـاء، فكـان الفضـل للحـاكي
كـــأن طرفـــك يــوم الجــزع يخـبـــرنا
بمـا طــوى عـنك مــن أسماء قـتـلاك
أنــت النعـيــــم لـقـلــبـي والعـذاب لــــه
فـمــــا أمــرّك في قـلــــبـــي وأحــــلاك!

وتأثيـر العين في المشاهد يأخذ مظاهر متعددة، ففي حال كانت النظرة متجاوبة يكون الأثر سحرياً:
أومــأت لــي عينـــاك فاختــلج العطر
وطـــــاف الـنــــدى وصـــب الرحــــيـــق
أما حين تعرض هذه العيون فيحدث العكس تماماً:
وجفتني عيــــنـــاك فـــاختنق اللـحـــن
ومـــــات الصــــدى وغــــاب البـــريــــق

وكثيراً ما تحدث العين بسحرها في النفس مفعولاً يربك الشاعر فتتزاحم عليه الأفكار والمسافات، وكما يقول علي بن الجهم:
عيـــــون المهـا بين الرصافـة والجسـر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

وينتقل الشاعر بالعين من كونها سهاماً نافذة وقاتلة إلى جعلها دنيا قائمة بذاتها يدخل الشاعر من خلالها إلى عوالم شاعريّة جميلة، يقول غازي القصيبي:
مــلء روحـــي هـذا الصفـاء العميــــق
يــــا عيــــونـــاً من ســـحرها لا أفيــــــق
يــــــا بحــاراً أهيـــــم وحـــــدي فيـــــــها
ودليــــلي في الأفق نــــجـــــم ســـحيــــق
أدعـــــــي أنــــنــــــي نــظــــر ت فــنـــــادا
نـــي إلى موكــــب الظــلال الطـــريـــق
أدعــــي أن في عــيــــــونــــك دنــــــيـــــــــا
لـــــي وحـــدي فيـــــها الربيــــع الوريـق
المشع التاريخ المجيد للأندلس فتتداعى حضارة مجيدة وعهد حميد يأسى عليه الشاعر:
عيـــــنـــان ســــوداوان في جـــحريهــما
تـــتــــوالــــد الأبــــــعــــاد مـــــن أبــــعـــاد
ويستشرف السياب من خلال العيون وطنه العراق حاضراً ومستقبلاً، تأخذ العيون أشكالاً موحية للطبيعة من حوله في صورة تمتد وتتكثف في النص:
عيناك غابتــا نـخيل سـاعة السـحــر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر….
وتمتد الصورة وتتداعى إلى الذهن آلام العراق وآمال بنيه والهَمّ الذي يؤرِّق الشاعر.
أما سعيد عقل فيصور كيف تقوم العيون بنشر الضوء، وكيف يصيب الليل خدر من مسَّها:
ألعــــيـنـــيـــــــــك تــــــــــــأنٍّ وخــــــطــــــــر
يــفــــرش الضـــوء علـــى التــل، القمر
ضـــاحكـــاً للغـصـــن، مـــرتــاحــاً إلى
ضــــفــــة النــــهر، رفيـــقــــاً بــالحـجر
عـــــــل عـــــيــنــيـــــــك إذا آنســـــــــتـــــــا
أثـــــراً منـــــــــه عـــــــرى الليــــل خــــدر
مــــــــن تــــرى أنــــت إذا بحـــــت بمـــــا
خبـــــــأت عيــنــــــاك مــن ســــر القدر
نســـــج أجفـــــانك من خيـــط السهى
كــــــل جفـــــن ظـــــل دهــــراً ينتـــــــظر

وبالرغم من غنى الصورة عن العيون في شعرنا العربي فإني ما زلت أتساءل كيف تسنى لغيلان ذي الرّمة، ذلك الشاعر البدوي القح، الذي لم تغره أسباب المدنية والتحضر، ومن ظل وفيّاً لعالم البدو، يعتنق الناقة، ويلاحق المها في صحراء الجزيرة، ويتغنى بحبيبته مي، أن يأتي بهذه الصورة، وكيف تجسدت لغةً وإيقاعاً فريداً في أبياته هذه، لا شك في أن قرينه كان ليلتها حاضراً، ولا شك في أنهما كانا في غاية الانسجام والتجلِّي، فانبثقت هذه الصورة المحمَّلة بكل أبعاد المجهول والخارق والمؤثر، ولم يتسن لأي شاعر أن يأتي بصورة مماثلة.

أضف تعليق

التعليقات