ما من شيء نلمسه أو نستهلكه إلا وقد مرَّ بها فحملته إلينا، من أحجار البيوت التي نقيم فيها، إلى الملابس التي تكسونا، وعندما نعتقد أننا بغنى عنها، كما هو الحال مثلاً عندما نشتري خبزنا اليومي من الفرن المجاور، يجب أن نتذكر أن هذا الخبز الذي كان قمحاً ثم طحيناً، ما كان ليصل إلينا لولاها.
إنها الشاحنة..
الشاحنة التي يعتاش منها ويعيش معها الملايين أينما كانوا في العالم.. كما أن العالم بأسره مدين بما هو عليه اليوم إلى الشاحنة التي تحتل مكاناً بارزاً في لائحة الاختراعات الأكثر تأثيراً على الحضارة والتطور، إلى جانب الأبجدية والكهرباء والكمبيوتر.. رغم أن الذين أوفوها حقها من التقدير لم يكونوا بتلك الكثرة.
رجب سعد السيد، وبمساهمة محدودة من فريق التحرير، يجول بنا في هذا الملف على طرقات العالم، مستطلعاً عالم الشاحنة اختراعاً وتطوراً، وثقافةً وخدمات.
في البدء كانت العضلات للتنقُّل والنقل. وانتظر الإنسان طويلاً ليغيِّر مصادر قدرته على الانتقال بذاته ومنقولاته، من عضلات جسمه المجرَّدة، إلى المحرِّك البخاري، الذي كانت له السيادة في القرن 19، حين أصبح تسخير البخار أكثر مكتسبات البشرية جسارةً. واستولت فكرة قوة البخار على خيال الفنانين والشعراء، وبدا المزاج العام للرأي السائد في ذلك الوقت، على نطاق الحضارة الغربية، متفائلاً بما سوف يحققه المحرِّك البخاري من آمـال.
حلم عمره آلاف السنين يتحقق
لقد أدرك الإنسان، منذ فجر التاريخ، أهمية النقل ووسائله، فكان سعيه الدائم والدائب إلى تطوير اختراعاته في هذا المجال، فعرف الصينيون عربة اليد كوسيلة نقل في القرن الأول ق.م.، وينسب اختراعها إلى رجل ذي شخصية شبه أسطورية، يدعى جوو يو. وقد تم العثور على أقدم وصف لطريقة بناء تلك (الشاحنات) البدائية في لوحة بالنقش البارز، وكانت صياغة الوصف مبهمة، حتى (لا يستفيد منها الأعداء)!.. لقد كانت عربة اليد الصينية من آليات الحرب المهمة التي أحاطها الصينيون بالتكتم الشديد، وكان بعض أنواعها يستخدم في نقل القوات والإمدادات، كما كانت تستخدم في إنشـاء الحواجز الدفاعية المتنقلة لصدِّ هجمات الخيَّالة. وكانت تجري على عجلات مختلفة الأشكال والأحجام. كما زوَّدها الصينيون بالأشرعة، وكانت سرعة عربات اليد ذات الشراع تقترب من 60 كم/ساعة!
الأساس: العجلة والطريق
ولقد كانت العجلة أحد الاختراعات العبقرية ذات التأثير الهائل على حياة الإنسان في كل العصور، فبها أصبحت عملية نقل البضائع أسهل وأسرع؛ وقد ترتب على ذلك خروج الإنسان من القرى الصغيرة -مراكز إنتاج الغذاء- إلى المدن، حيث استقر وقد اطمأن إلى أن احتياجاته من المواد الغذائية ستصله على (العجلات)، التي كانت من أهم عوامل تكوين المجتمعات المتحضرة. وظلت العجلة محل اهتمام الإنسان، يحرص على تطويرها وتحسين كفاءة أدائها، ليتحقق للمركبات التي تنقله وبضائعه من موقع إلى آخر عنصرا الأمان والسرعة. وبالرغم من ذلك، فإن الإطارات التي تنفخ بالهواء المضغوط لم تظهر إلاَّ في الأربعينيات من القرن التاسع عشر، لتستخدم مع العجلات الخشبية، ثم مع العجلات ذات الأسلاك في الدراجات، ثم مع عجلات السيارات المصبوبة من الحديد، وأخيراً، ظهرت عجلات سيارات مصنوعة من الصلب بطريقة الكبس، وتميزت بخفة الوزن وقوة التحمل.
وليس من اليسير تخيُّـل عجز غالبية البشر عن الحركة والتنقل قبل مجيء شبكات النقل الحديثة. فحتى أواخر القرن الثامن عشر، كان الناس في كل بقاع العالم يميلون إلى الاستقرار، وكانت الدائرة التي يقضي فيها الإنسان كل عمره غير قادر على أن يتعدى محيطها، لا يزيد قطرها -في المتوسط- على كيلومتر تعد على أصابع اليد الواحدة. وكانت الحياة في أوروبا شبه جامدة لعدم وجود وسائل نقل موثوق بها. فقد كان النقل البري معتمداً كلِّيـَّـةً على الحيوانات، ولم يكن متاحاً إلاَّ للميسورين الذين يملكون القوة المحرِّكة: الخيول. ومن جهة أخرى، بقيت الطرق مهملة منذ عصر الإمبراطورية الرومانية؛ وكان نقل البضائع يجري باستخدام سلال مربوطة بالحبال فوق ظهور الخيل، وكان ذلك يعني أن نقل كميات كبيرة من السلع (النقل التجاري) أمر باهظ التكلفة، بل شبه مستحيل.
وقبل العام 1860م، لم تكن الطرق تعرف غير النقل بالمركبات التي تجرها الجياد. وحتى بعد أن عرف الإنسان آلة الاحتراق الداخلي في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لم تختفِ الجيـادُ، وبقيت كوسيلة جـرٍّ اعتيادية، ومـرَّ على الحضارة البشرية زمن ليس بالقصير كانت تستخدمُ خلاله خليطـاً من وسائل النقل: مركبات الجياد، مركبات المحركات البخارية، محركات الاحتراق الداخلي، وغير ذلك. ويبدو أن نفراً ممن عاصروا ذلك الزمن لم يكونوا يأملون في تطور وسائل النقل، فها هو رئيس أحد البنوك الأمريكية يقف ضد تمويل مشروع لشركة فورد، في عام 1903م، ويتشكك في قيمة المركبات الآلية المستحدثة، فيقول: لقد وُجِدَ الحصانُ ليبقى، أمَّا السـيارات، فهـي مجرد بدعة !.
أسقط الزمن ظنون المتشككين، الذين لم يدركوا أن المركبة التي تسير آلياً على عجلات كانت أكثر من بدعة محكوم عليها بالزوال. فقد كانت حلماً دفعت الحاجة البشر إلى تحقيقه، فوُجِـدت السيارةُ – الآلة والأســطورة، التي تحولت إلى رمز من رموز المجتمع الحديث، تعزز إيقاعات الحياة فيه، وتفرض مجالاً فسيحاً من القواعد والممارسات والسلوكيات الفردية والجماعية الآخذة في الترسُّخِ، حتى وقتنا هذا. لقد أصبحت السيارة، في بضعة عقود، المحرِّك الأساس لاقتصاديات السوق، لأنها تشبع مجموعة من الحاجات والرغبات والمقتضيات والخيالات التي تجسِّدُ تطلعات الإنسان العصري، والتي يمكن تلخيصها في كلمات قليلة: تحقيق حرية حركته الشخصية، تحكمه في المحرِّك الآلي، إحلال القدرة الحصانية محل الحصان.
إن جولة بين محطات تاريخ النقل تملي عليك إحساساً بأن معظم الطاقة التي توافرت للبشر، على مر تاريخ حضارتهم، قد استهلك في نقل الأشياء من موقع إلى آخر، وكان النقل يتم -طيلة آلاف السنين- بسرعة منخفضة جداً، لم تزد على 2 – 3 ميل/ساعة. ولما دجَّن الإنسان الحصان واستخدمه للحمل والجر، لم تزد هذه السرعة زيادة محسوسة، فمع أن حصان السباق يمكنه أن يتجاوز سـرعة 40 ميلاً في الساعة، لفترات زمنية قصيرة جداً، إلاَّ أن حركته بطيئة وهو يجرُّ العربات المحملة بالناس ومنقولاتهم؛ وأسـرع هذه العربات -تلك التي رأيناها في قصة مدينتين ، وغيرها من روائع تشـارلز ديكنز- لم تكن تتجاوز سرعتها عشرة أميال بالساعة، على الطرق التي كانت موجودة قبل القرن التاسع عشر. وظل البشر لا يعرفون سرعة تتعدى ما بين الميل الواحد والعشرة أميال لكل ساعة. وفجأةً، حدث انقلابٌ في منتصف القرن العشرين، فتضاعفت سرعة النقل عشرات، بل مئات المرات.
الشاحنات الحديثة الأولى
كان هنري فورد هو من صنع أول سيارة في عام 1896م، وفي العام نفسه نجح في إلغاء قانون غريب، هو قانون الراية الحمراء ، الذي كان يفرض عقوبة على جميع أشكال الدفع الميكانيكي للحركة على الطرق!. ثم شهدت ثلاثينيات القرن العشرين تطوراً ملحوظاً في تصميم السيارات عموماً، ومن بينها الشاحنات. وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى، كانت الشاحنات تُـبْـنى على محورين، واستدعت ظروف الحرب زيادة حمولة الشاحنة الواحدة، اقتصاداً للوقت والوقود. ولكي يتوافر في الشاحنة حيِّـزٌ أكبر لهذه الزيادة في الحمولة، كان أمام مصانع الشاحنات ثلاثة خيارات: إضافة مزيد من المحاور إلى هيكل الشاحنة، أو إلحاق مقطورة بها، أو تمديد حيز الشحن بأجزاء إضافية متمفصلة مع جسم الشاحنة. واختارت المصانع الخيار الأول، وظهرت في العام 1930م شاحنات ذات محور إضافي خلفي، ثم شاحنات ذات محاور توجيه أمامية مزدوجة، مع محورين خلفيين.
ومن التطورات التي لحقت بشاحنات الثلاثينيات أيضاً، ظهور محركات الديزل التي نافست محركات البنزين في الناحية الاقتصادية، وإن كانت أقل سلاسة في التسيير. وشهدت السنوات القليلة الأخيرة من عقد الثلاثينيات أفول نجم شاحنات القوة البخارية، وانخفاض أسهم مركبات النقل التجارية التي تعمل بغير محركات الديزل. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أوقف معظم منتجي الشاحنات خطوط إنتاج المركبات التجارية غير العسكرية، وصاحب ذلك -بطبيعة الحال- توقف محاولات تطويرها، ودام ذلك الحال حتى العام 1945م.
الشاحنة تفرض نفسها
شهدت السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية اهتماماً واضحاً بالطرق السريعة في انجلتــــرا. وكـــــان ذلــــك لصالح الشاحنات وعلى حساب السكك الحديدية. إذ كان المطلوب -قبل ذلك- أن تفرغ قطارات البضائع حمولاتها ليعاد التحميل على شاحنات تصل بالبضائع إلى مخازن التجار أو مراكز التوزيع. وكان في ذلك مشقة وزيادة في القوى العاملة، ويترجم ذلك في زيادة في تكلفة النقل.. فلماذا لا تختصر العمليات، فتحمل الشاحنات المنتجات من المصانع إلى السوق، مباشــرةً؟. وقد تزامن هذا التساؤل مع تحسن في نوعية الطرق السريعة، كما أسلفنا، فزادت سرعة عمليات النقل، وترتب على ذلك تحسن في اقتصاديات شركات الشاحنات، والاقتصاد الإنجليزي على وجه العموم.
إذن، نجحت الشاحنة في أن تفرض وجودها على حياة الناس، وأصبح اسمها من مفردات الحياة اليومية، يتردد في وسائل الإعلام، وفي الأسواق، وفي لغة الأحاديث الاعتيادية للناس. لقد جاء اسمها في الإنجليزية truck من الكلمة اليونانية trochos ، ومعناها العجلة ، وتنوعت أسماؤها، جغرافياً، وحسب ثقل حمولتها، فيستخدم الأمريكيون أسماء فان ، و بيك أب ، و سوف لأنواع مختلفة من الشاحنات. وفي أستراليا يطلقون اسم سيارة خدمات على الشاحنات الصغيرة مفتوحة السطح، بينما يختص اسم truck بالشاحنات الثقيلة. وللشاحنة اسم إنجليزي آخر هو الـ لوري ، ويطلق على الشاحنات المتوسطة والثقيلة؛ ويشيع هذا الاسم بمنطوقه الإنجليزي في بعض اللهجات العامية العربية، وكان يستخدم قديماً للدلالة على مركبة تجرها الجياد، خفيفة الحمولة، كانت تستخدم بالمقام الأول لنقل المركبات الأخرى من وإلى ورش الصنع والصيانة والإصلاح؛ لذلك كان سطحها متسعاً، وكانت نسخة خشبية من الشاحنة الناقلة للسيارات المعروفة حالياً. وبمرور الزمن، وكما هو الحال في أمور كثيرة أخرى، ذهب الجسم وبقي الاسم ؛ فظلت كلمة لوري مستخدمة لتدل على شاحنة يسيرها محرك حديث.
الشاحنة والطريق
اثنان لا ينفصلان
منذ أن تخرج الشاحنة من مصنعها، تصبح جزءاً لصيقاً من الطريق حتى آخر يوم من عمرها. والتصاق الشاحنة بالطريق ليس مجرد تحصيل حاصل بفعل مواصفاتها التي تستلزم بقاءها وسيرها على الطريق المؤهل وحده لاستقبالها ومشاركتها في أداء مهمتها. فتاريخ الشاحنة ارتبط بتاريخ الطريق، وأسهم تطور كل منهما في تطور الآخر.
لقد كان الرومان هم أول من اهتم بإنشاء الطرق على نطاق واسع، لتسهيل تحركات فيالقهم العسكرية. ولما انهارت الإمبراطورية الرومانية، واستقل نبلاء العصور الوسطى بحكوماتهم الصغيرة (الدول/المدن)، أهملوا الطرق التي كانت تربط بين هذه المدن، كإجراء وقائي ضد احتمالات الغزو وأطماع المدن المجاورة. وفي القرن الرابع عشر، ضعفت سلطة النبلاء، وعادت الممالك الكبيرة إلى الظهور. واقتضت ممارسة السلطة من الملوك أن يداوموا الترحال عبر ممالكهم، تعزيزاً للسلطة، فعاد الاهتمام بالطرق الرئيسة. وكانت الملكة إليزابيث الأولى أول من أنشـأ هيئة حكومية لصيانة الطرق وتحصيل الرسوم المفروضة على المسافرين. وفي العام 1716م، اضطلع ملك فرنسا بنفسه بمسؤولية المحافظة على الطرق في مملكته؛ كما شجع نابليون بونابرت عمليات إنشاء الطرق في فرنسا وأوروبا، ليضمن توافر محاور مباشرة جيدة، تتحرك عليها جيوشه، ولأجل هذا الهدف الاستراتيجي، أنشأ عدداً من الطرق تخترق جبال الألب.
بلا حدود للسرعة
حققت هذه الاهتمامات الواضحة بالطرق حركة كبيرة لعمليات النقل بالعربات التي تجرها الجياد، بلغت أوجها في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، حين ظهرت السكك الحديدية، وبدأت العربات ذت الجياد تفقد أهميتها، فتراجع الاهتمام بإنشاء الطرق، وتحول إلى مد خطوط السكك الحديدية. وفي مستهل القرن العشرين، عاد الاهتمام بالطرق بعد التطورات الكبيرة التي دخلت إلى عالم النقل بالسيارات ذات المحرك، وسعى مهندسو الطرق إلى تحسين حالة سطح الطريق، وعرفوا استخدام الحصباء المخلوطة بالقطران. ثم نشبت الحرب العالمية الأولى، فتوقف الاهتمام بتطوير الطرق، إلى أن جاءت الفترة بين الحربين فشهدت نهضة واضحة في إنشاء الطرق الكبيرة، وكان ذلك -بالدرجة الأولى- استجابة للنمو الهائل في صناعة السيارات الأمريكية، وفي الوقت نفسه، ظهرت الطرق الألمانية العريضة، التي كانت توصف بالطرق التي (تنطلق عبرها السيارات بلا حدود للسرعة)!.
منذ ذلك الوقت، أصبحت المعايير التي يتأسس عليها التصميم الهندسي للطرق تتحدَّد على أساس العلاقة التفاعلية التي ستنشـأ بين الطريق والمركبة الثقيلة التي ستجري عليه، وأهمها المركبات التجارية الثقيلة، أو الشاحنات، بتصميماتها المتعددة، فهي المركبات الأثقل والأكثر تردداً على سطح الطريق. إن هذه المركبات، على سبيل المثال، تمثل أكثر من ثلث حركة المرور على الطرق التي تربط بين الولايات الأمريكية. وتتعدد أنواع الشاحنات، فمنها الشاحنة المفردة، والشاحنة المركَّبـة من أكثر من وحدة (قد يصل عدد الوحدات المقطورة إلى ثلاث وحدات)؛ ولكل نوع خصائصه التي يجب أن تكون واضحة أمام القائمين على إدارة وتشغيل الطرق السريعة، لتتكون لديهم صورة واضحة عن تأثير الشاحنات على حالة الطريق، بهدف تحقيق عنصر الأمان للحركة على هذه الطرق.
عصر المعايير للطرق والشاحنات
وبالإضافة إلى وزن الشاحنة وحمولتها الذي يرخي بظله على تصميم أساسات الطرق، ونعومة أو خشونة سطحها الأسفلتي لما له من تأثير على قدرة الشاحنة على الفرملة، هناك معايير عديدة يصعب حصرها، بعضها تم وضعه لإنشاء الطرق بعد أخذ الشاحنة بعين الاعتبار، وبعضه الآخر وضع للشاحنات لتتكيف مع معطيات الطرق. فثمة معيار على سبيل المثال يحدد ارتفاع مستوى الرؤية لكل من سائق سيارة الركوب العادية وقائد الشاحنة، ويبلغ الارتفاع للأول متراً واحداً وثمانية سنتيمترات، وللثاني مترين وأربعة سنتيمترات؛ وذلك يتيح لقائد الشاحنة أن يرى أبعد من مدى رؤية سائق السيارة العادية عند اجتياز طرق منحدرة. ويترتب على ذلك أن الأول قد يبادر بالاستجابة لمشكلة مرورية يراها هو قبل أن يلحظها الثاني. وقد تأتي الاستجابة في صورة توقف اضطراري، تفادياً للاصصدام مثلاً. وهذه ميزة نسبية لصالح الشاحنة. وفي كل الأحوال، فعلى من يسير خلف شاحنة في مثل هذه الظروف أن يحتفظ بكامل يقظته، توخياً للسلامة.
كما أن ارتفاع الشاحنة يمكن أن يحجب علامات الطريق عن السيارات الصغيرة التي تسير مجاورة لها، وقد يتسبب ذلك في مشكلات، وربما حوادث خطرة لهذه السيارات وركابها. وينجح بعض إدارات المرور في التغلب على هذه المشكلة باستخدام علامات علوية بعرض الطريق، وبتوفير إشارات للتنبيه على كل من جانبي الطريق. وحرصاً منها على تحسين حركة المرور، وتوخياً للسلامة على الطرق السريعة، تخصص بعض إدارات المرور (حارات) أو مسارات محددة للشاحنات الثقيلة، غالباً ما تكون على الجهة اليمنى من الطريق. وعندما تكون الطرقات السريعة تفتقر إلى عدد المسارب الملائم لكثافة السير عليها، تلجأ بعض الأنظمة إلى ضبط سير الشاحنات في أوقات محددة، وأحياناً ضمن قوافل تواكبها سيارات الشرطة منعاً للمخالفات.
توأم السيارة الذي لايشبهها في شيء
الشاحنات ثلاثة أنواع، حسب الحجم أو الوزن:
1 – الشاحنة الخفيفة: لا يتعدى وزنها في الولايات المتحدة الأمريكية 6300 كجم، وفي إنجلترا 3500 كجم؛ ولها حجم عربة الركوب العادية، تقريباً، ويستخدمها الأفراد وشركات النقل، على حد سواء.
2 – الشاحنة المتوسطة: ويحدد الأمريكيون وزنها ما بين 6300 و 15 ألف كجم، أما أقصى حد لوزنها في إنجلترا فهو 7500 كجم، وتستخدم في نشاطات النقل الداخلي، كما أنها تعد لتقوم ببعض الخدمات المحلية (شاحنات خزانات الصرف، شاحنات نقل مياه الشرب، شاحنات نقل المخلفات.. الخ).
3 – الشاحنة الثقيلة: هي أضخم شاحنات يسمح لها بالعمل على الطرق السريعة، وأغلب خدمتها في الرحلات الطويلة، و يصل أقصى وزن لها إلى 50 طناً.
بعض أوجه اختلافها عن السيارة
ولا ينبغي لنا أن نفكر في الشاحنة على أنها مجرد سيارة كبيرة. فالمؤكد أنها أكثر من ذلك، إذ ثمة اختلافات جوهرية معقدة، لا مجال للخوض بها الآن. وإذا اكتفينا بالفوارق البسيطة، فنجد أن سائق الشاحنة يحتاج إلى رخصة خاصة لقيادتها، نظراً للاختلافات الكبيرة بين قيادة سيارة صغيرة وشاحنة. فالسيارة الصغيرة، على سبيل المثال، تحتاج إلى 133 قدماً لإبطاء السرعة والتوقف إذا كانت تسير بسرعة 55 ميلاً في الساعة. أما شاحنة تجر مقطورة محملة وتسير بالسرعة نفسها فتحتاج إلى 196 قدماً للتوقف. ناهيك عن المهارات الخاصة المطلوبة في سائق الشاحنة على صعيد تجاوز السيارات، والانعطاف خاصة في الطرق الضيقة نسبياً.
إلى ذلك، تختلف الشاحنة عن السيارة في تفاصيل بنيتها المختلفة تماماً عن بنية السيارة. فالهيكل وهو الإطار الأساس للشاحنة، يتركب من حزمتين رئيستين على شكل حرف (U)، وعدة عوارض وماسكات، ويصنع من الصلب، وفي بعض أنواع الشاحنات من سبائك الألومنيوم، جزئيا أو كلياً؛ وهو المكون الرئيس للشاحنة، وتُثَـبَّـتُ عليه كل أجزائها. ومقصورة السائق هي مكان مقفل يخصص للسائق، يجلس فيه أثناء قيادته للشاحنة، ويلحق به (مخدع) صغير، يستريح فيه السائق في فترات توقف الشاحنة.
وقد تبنى المقصورة فوق محرك الشاحنة التي تسمى في هذه الحالة (مسطَّحة الأنف)، وهي شائعة جداً في أوروبا، لأنها تختصر طول الشاحنة، وهو عنصر تراعيه قوانين ولوائح النقل والمرور الأوروبية على نحو خاص. وبالطبع، فإن مقصورة الشاحنة من النوع مسطح الأنف هي من الصنف القـلاَّب، أي يتحرك إلى الأمام ليكشف المحرك في حالات الصيانة وعند الإصلاح. والأكثر شيوعاً في أمريكا الشمالية هي الشاحنات التقليدية ذات المقصورات التي تتقدمها المحركات، وتسمى (طويلة الأنف)؛ ومن شأن هذا التصميم توليد مقاومة كبيرة للريح، ويترجم ذلك إلى استهلاك أكبر للوقود. كما أن الشاحنة طويلة الأنف تحد من قدرة السائق على الرؤية، على العكس من مسطحة الأنف.
وتسير الشاحنات بأنواع متعددة من المحركات، فالغالب الأعم من الشاحنات الأمريكية الصغيرة والمتوسطة يعمل بمحركات البنزين، أما الأثقل وزناً فيناسبها محركات الديزل التوربينية ذات السرعات الأربع.
إطاراتها.. قضية بحد ذاتها
ولعجــــــلات الشـــــــاحنــات مواصفات خاصة، تختلف باختلاف نوع الشاحنة وما تقوم به من مهام، وهي تحتاج إلى رعاية خاصة. فغالبية الذين يقودون السيارات العادية لا يلتفتون إلى أحوال الإطارات في سياراتهم إلا عندما يفاجأون بأن أحدها قد أُفرغ من الهواء. أما سائقو الشاحنات العاملة في صناعة التعدين، وهي شاحنات عملاقة يصل قطر عجلاتها إلى 12 قدماً، ووزنها 7500 رطل، فإنهم يولون عظيم اهتمامهم بهذه العجلات وإطاراتها، ويعلمون جيداً أن هذا المطاط الذي يلتف على محيط كل عجلة يساوي وزنه ذهباً. إن تغيير إطارات شاحنة واحدة من شاحنات نقل الخامات التعدينية الثقيلة التي يصل طولها إلى أربعين قدماً، يكلف نحو عشرين ألف دولار، وذلك يتم بصفة دورية، كل سنة. كما أن عملية تغيير الإطارات ليست بالسهلة. فأنت يمكنك تغيير إطارات سيارتك الخاصة بنفسك، على الطريق، وخلال ربع ساعة، بينما تغيير إطارات شاحنة عملاقة لا يقدر عليه غير فريق من العمال، ويستغرق حوالي نصف يوم.
الجدير بالذكر، أن ما تنتجه المصانع من هذه الإطارات العملاقة لا يكفي احتياجات السوق. ونتيجة لهذا النقص، تلجأ شركات التعدين مالكة الشاحنات إلى التقليل من تأثير العوامل المهلكة للإطارات، وذلك بتنعيم أسطح الطرق، وتخفيف الحمولة قدر الإمكان، وخفض السرعة.
وقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في زمن الحرب العالمية الثانية نقصاً شديداً في إنتاج المطاط، وبات نصف عدد الشاحنات التي تعمل في الطرق السريعة، وكان يقترب من خمسة ملايين شاحنة، مهدداً بالتوقف في عام 1944م لعدم توافر الإطارات. وقد هزَّت هذه الأزمة الاقتصاد الأمريكي بشدة، حيث كان هناك 50 ألف موقع إنتاج يعتمد اعتماداً كلياً على الشاحنات. وكلها مواقع بعيدة جداً عن مسارات السكك الحديدية. فأصبحت الشاحنات الأمريكية تعمل وفق سياسة عامة تستهدف تشغيلها في المهام الأساسية فقط، مع الحرص على إطاراتها وصيانتها والتعامل معها بوصفها مخزوناً استراتيجياً فائق الأهمية.
أمريكا والشاحنة
أيهما يصنع الآخر؟
تبلغ مساحة الولايات المتحدة الأمريكية 9,628,382 كيلومتراً مربعاً، ويبلغ إجمالي طول الطرقات فيها حوالي 6,291,200 كيلومتر.. وإذا أضفنا إلى ذلك أن هذه الدولة العملاقة هي الدولة الصناعية الأولى في العالم والمورد الأكبر والمستورد الأكبر، وأن شعبها يعتبر من أكثر شعوب الأرض استهلاكاً للسلع على اختلاف أنواعها، يصبح بإمكاننا أن نتصور المكانة التي تحتلها الشاحنة فيها.
فمع انتهاء الحرب الباردة والانتعاش الاقتصادي الذي عرفته الولايات المتحدة خلال العقد الماضي، تضاعف عدد الشاحنات فيها من 459000 إلى 820000 شاحنة. أما عمليات النقل التي أنجزها هذا العدد من الشاحنات فقد تزايد بمعدلات أكبر، لأن الزيادة لم تكن في عدد الآليات فقط، بل أيضاً في أحجامها وحمولتها. فقفز حجم النقل من 51 بليون طن / ميلي إلى 115 بليوناً. وقد نتج عن هذا التفاعل الحيوي بين شبكات الطرق السريعة والشاحنات الضخمة الحديثة سوق للخدمات اللوجستية تقدر قيمتها بنحو 104 مليارات دولار. وثمة شركة واحدة من شركات الدعم اللوجستي في أمريكا تتحكـــم في شــــبكة للطرق السريعة، وتضم نحو 5300 شركة فرعية للنقل البري بالشاحنات، ونحو 20,000 شاحنة ومقطورة…
في بلاد كهذه، لا بد من أن تصبح الشاحنة جزءاً من الحياة اليومية لمئات الآلاف والملايين، وأن تحدد أنماط عيش الملايين ممن يعتاشون منها مباشرة أو بشكل غير مباشر. ولذا، ليس غريباً أن نرى كل هذا الكم من الشاحنات في الأعمال الأدبية والسينمائية الأمريكية، حتى ولو لم تكن الشاحنة أو قائدها الموضوع الرئيس لهذا العمل أو ذاك.
مطاعم خاصة بسائقي الشاحنات في الصحاري والسهول الشاسعة، ومحطات وقود أيضاً، استراحات وفنادق، وحتى إذاعات خاصة بهم وبشؤونهم وشجونهم تبث ليلاً لمواكبتهم على الطرقات… حكايات عن مغامراتهم وحوادثهم، وحتى سباقات خاصة بالشاحنات.. بعبارة أخرى، لقد نقلت الشاحنات، مع ما نقلته، الحياة إلى أماكن كانت خالية من الحياة، وهي في حركتها الدائمة تربط أطراف البلاد ببعضها، فتلبي احتياجات الجميع، وتتولد عنها احتياجات أخرى تشكل تلبيتها مجال عمل ومورد رزق للآلاف.
فأمريكا المصنِّع الأول للشاحنات، تدين بما هي عليه اليوم من تقدم ورخاء للشاحنات نفســــها.. الشاحنات التي عادت بدورها لتعيـــــد صناعة أمريكا.
وجهها المكدِّر
للشاحنة وجه مكدِّر واحد، لا يراه إلا في حالات معينة بعض العابرين بجوارها على الطرق السريعة. فبالرغم من مردوداتها الإيجابية اقتصادياً واجتماعياً، فإن ارتباط الشاحنات الضخمة بالطرق السريعة الحديثة بات يحسب له حسابه الخاص من قبل سائقي السيارات الذين يجاورونها، نظراً لبشاعة الصورة المرسومة في أذهان الجميع عن الاصطدام بشاحنة. والإحصاءات تؤكد أن لهذه الصورة ما يبررها. ففي دراسة أجريت على حوادث الطرق السريعة بأسـتراليا، في الفترة الممتدة من 1992 إلى 1997م، أوضحت النتائج أن 60% من الحوادث كانت شاحنة أو أكثر طرفاً فيها. وفي 54% حدث التصادم بين أكثر من سيارة وشاحنة. وأن الأسباب الأكثر شيوعاً لهذه الحوادث كان الإجهاد وتناول الكحول. كذلك، ثبت أن قلة نوم سائقي الشاحنات الأمريكية تتسبب في مقتل 5600 مواطن أمريكي كل عام في حوادث تصادم شاحناتهم بمركبات أخرى على الطرق السريعة. وجاء ذلك في دراسة أجراها باحثون بمدرسة الطب في جامعة بنسيلفانيا، أثبتوا فيها أن سائق الشاحنة الذي يحصل على أقل من 5 ساعات من النوم في الليلة الواحدة يفقد كامل أهليته لقيادة الشاحنة، ويكون حاله أقرب إلى حال الإنسان المخمور.
وأثبتت دراسة أمريكية أخرى أن سائقي الشاحنات وغيرها من المركبات الآلية يتسببون في حوادث الطرق أكثر بمقدار عشر مرات من عوامل أخرى، مثل أحوال الجو والطريق والمركبة. وقد لوحظ أن عدداً من حوادث التصادم يرجع إلى أن سائق السيارة العادية يدخل في نطاق منطقة يسميها الأمريكيون (no–zone)، أي المنطقة التي يجب ألا تتواجد فيها سيارات أخرى إلى اليسار وإلى اليمين وإلى الخلف من الشاحنة الكبيرة، لأن سائق الشاحنة لا يستطيع تبين وجود سيارات صغيرة تسير إلى جانبه في هذه النطاقات. إن وزن شاحنة كبيرة من ذوات الـ 18 عجلة قد يتعدى 80 ألف رطل، بينما لا يزيد متوسط وزن سيارة الركوب العادية على 3 آلاف رطل، وبحسب قوانين الفيزياء، فإن أي تصادم بين هذين الجسمين يؤدي حتماً لعواقب وخيمة. أما في جنوب إفريقيا، فقد تبين أن عدداً كبيراً من السائقين العاملين على الطرق السريعة يغلبهم النعاس وهم خلف عجلة القيادة، وأن ذلك يتسبب في ربع عدد حوادث التصادم التي تكون الشاحنة طرفاً بها. وجاء ذلك في دراسة أجراها فريق من علماء مختبر النوم في جامعة ويتـس، حيث تبين أن ثلاثة أرباع سائقي الشاحنات الذين يقومون برحلات طويلة ينامون وهم يقودون شاحناتهم الضخمة. وقد تقصت الدراسة أسباب هذه الظاهرة، فتبين أن متوسط عدد ساعات العمل لسائق الشاحنة هو 93 ساعة، بزيادة 30% عن الحد الأقصى الذي تحدده لوائح العمل الخاصة بهذه المهنة. ويقول السائقون إنهم مضطرون لتحمل ضغط ساعات العمل استجابةً لطلبات السوق والمستهلكين، التي ترغم إدارات شركات الشاحنات على تمديد نوبات العمل للسائقين، الذين يهمهم -بالوقت ذاته- تحصيل دخل أعلى يواجهون به متطلبات العيش. وبالإضافة إلى هذه الضغوط، يفتقد سائقو الشاحنات في جنوب إفريقيا مرافق الطرق التي يمكن اللجوء إليها طلباً للراحة، كما أنهم لا يجرؤون على التزام جانب الطريق والتوقف ليحصلوا على دقائق آمنة من النوم، خوفاً من عصابات قطاع الطرق!.
الشاحنة وفن الرسم
من باكستان إلى هاييتي
في أحد الأفلام الوثائقية التي بثتها واحدة من القنوات الفضائية قبل مدة حول التجارة البرية ما بين باكستان والصين، توقف المستطلع أمام شاحنة لنقل البضائع بدت كحديقة ألوان مثقلة بالمجوهرات. وبالاقتراب من الشاحنة تبين أن صاحبها زينها (عند رسام محترف لهذا الفن) بمجموعة هائلة من الرسوم التي تمثِّل حدائق وشخصيات من تاريخ الأدب وموضوعات مستوحاة من حكايات شعبية، ناهيك عن أبيات الشعر والحِكَم والأمثال. وأكثر من ذلك، فقد تدلت من فوق إطاراتها حبال من حبيبات الزجاج لتغطي الإطارات بما يشبه الستائر الملونة وفق أشكال تجريدية رائعة.
يقول صاحب هذه الشاحنة إن عملية تزيينها كلفته نحو 700 دولار أمريكي علماً بأنه اشترى الشاحنة بعشرة آلاف. ولما سأله المستطلع عن السبب الذي دفعه إلى ذلك، أجاب: لأن أصحاب البضائع قد لا يقبلون بشاحنتي لنقلها إذا لم تكن جميلة!
والواقع أن سائقي الشاحنات في معظم دول العالم يسعون إلى تزيين شاحناتهم ببعض الرسوم أو الملصقات. غير أن هذا الفن يبلغ ذروته في الهند وباكستان وباقي الدول المجاورة لهما. ومن هذه الدول الآسيوية وصل هذا الفن جزئياً إلى بلادنا. وإن بقي في معظم الأحيان مقتصراً على مساحات محدودة من هيكلها الخارجي. فترى في معظم الأحيان لوحة خطية مثل راجعة بإذن الله ، أو صورة زهرة هنا، أو أخرى هناك. ولعل الغالب في اللوحات الخطية بعد الأدعية بالسلامة، كلمات الحب المستوحاة من عناوين أغنيات أم كلثوم، مثل أنساك ده كلام أو أغداً ألقاك ..
والواقع أن كون الشاحنة كبيرة الحجم وتنتقل بصاحبها لوقت طويل بعيداً عن بيته، تشجعه على أن يحمل معه، أو يحملها، شيئاً من شخصيته وثقافته. وهذا ما يفسِّر شيوع فن زخرفة الشاحنات بالطرق نفسها تقريباً في أماكن متباعدة من العالم. ففي كولومبيا هناك شاحنات الشيفا التي تنقل الفلاحين إلى أسواق المدن القريبة ليبيعوا منتجاتهم. والشــيفا عبارة عن شاحنة من إنتاج فورد أو جنرال موتورز، تخضع لتعديلات محلية لتستحق اسم (الشيفا)؛ وتبدأ التعديلات بإزالة المسطح الخلفي ليحل محله تركيبة خاصة نصف مغلقة، تصف بها مقاعد قابلة للنقل؛ وعندما تكون الحمولة ثقيلة (بقرتان أو أكياسُ بُـنٍّ كثيرة، مثلاً)، ترفع كل المقاعد أو جزء منها، لإخلاء المكان للحمولة. ثم تزخرف الشاحنة حسب أعراف مرعية، بخطوط ودوائر ومثلثات، ويركز المصـوِّرُ كل طاقته الإبداعية على الباب الخلفي للشاحنة.
ونظير لشاحنة الشيفا في (هايتي) هي شاحنة (تاب – تاب)؛ وهي في الأصل، كما هو الحال في الشيفا، شاحنات فورد أو شيفروليه، وبها مكان مخصص للحمولة، ويسمح لها بالعمل داخل المدن وخارجها، سواء كانت تحمل أو لا تحمل أثقالاً كبيرة؛ وتملأ النقوش كل الأجزاء الظاهرة من الـ (تاب – تاب)، فتجد على الدرَّاءة (الواقية من الريح)، والسقف، والمصدات، وأيضاً على (الرفارف) نقوشاً أثرية وشعارات ورموزاً، وأسماء لأقارب وأصدقاء السائق أو المالك، ولبعض المشاهير، مثل لاعب الكرة مارادونا!.
الشاحنة على شاشة السينما
وسيلة نقل، أداة انتقام
وقوة ميتافيزيقية جبارة…
إبراهيم العريس
حين سُئل السينمائي الأمريكي ستانلي كوبريك عن المشهد الذي أثاره أكثر من أي مشهد آخر في تاريخ الفن السابع قال من دون تردد إنه المشهد الأخير في فِلم مبارزة لزميله ومواطنه ستيفن سبيلبرغ. وأوضح كوبريك أنه لم يرَ في حياته ما هو أكثر إثارة ومدعاة للراحة بعد توتر يطاول المشاهد طوال الفِلم أكثر من منظر الشاحنة العملاقة وهي تتجاوز الطريق في هجومها الساحق على السيارة الصغيرة، لتقع من أعلى المرتفع في ذلك السقوط الذي بدا في تلك اللحظة أسطورياً.
كثر يمكنهم أن يوافقوا كوبريك على هذا الرأي.. ذلك أن المشهد في حد ذاته، من ناحية تصويره الفني أتى رائعاً.. لكنه في الوقت نفسه أتى ممتعاً من ناحية المضمون. وبكل بساطة لأنه رمز إلى هزيمة القوي والمفتري، أمام عناد الإنسان.. أو عناد السائق الضعيف الذي يجد نفسه عرضة للأذى والخطر من دون أن يفهم سبباً لهذا، فلا يجد أمامه إلا أن يقاوم.
هي المعركة الأبدية بين القوة والضعف. لكنها أيضاً، وفي الوقت نفسه، المعركة بين الجسد والعقل. بين الخير والشر، بين الحق والقوة. وفي ذلك الفِلم الذي كان أول فِلم لسبيلبرغ يعرض على الشاشة الكبيرة، مع أنه كان مصنوعاً أصلاً للشاشة الصغيرة.. استخدم المخرج -وكاتب السيناريو ريتشارد ماتيسون- معه، الشاحنة رمزاً للقوة والطغيان وبالتالي… الشر. يومها احتجت نقابات سائقي وأصحاب الشاحنات في الولايات المتحدة على هذا الاستخدام الذي رأته مسيئاً إلى سمعة مهنة بأسرها. ورداً على ذلك الاحتجاج لم يفت سبيلبرغ أن يقول إن المسألة رمزية، وإن ما يعنيه ليس أن كل الشاحنات مفترية، بل تلك الشاحنة بالذات، بل أشار أيضاً -في معرض تخفيفه من حدة الأمور- إلى أن جزءاً من الصراع قد يتحمل سائق السيارة الصغيرة تبعته.
نعرف اليوم أن حكاية مبارزة تتحدث عن مواطن عادي ينطلق صباحاً على متن سيارته الخاصة ليقطع المسافة بين مدينتين. لكنه خلال الطريق الخالية الخاوية، يلاحظ شاحنة عملاقة تبدأ بمطاردته و اللعب معه في تصعيد يزداد خطراً. يحاول تفاديها، لكنها تصر على مطاردته، حتى لحظة النهاية حين ينتصر عليها بالحيلة لا بالقوة. ويلفت في هذا الفِلم المرعب، والذي يدق جرس الإنذار، أننا، نحن المتفرجين، لا نرى السائق أبداً. يبدو بالأحرى غير موجود إلى درجة أن الشاحنة تبدو وكأنها تقود نفسها بنفسها، ما أضفى على الموضوع كله بعداً ميتافيزيقياً، خاصة أن سبيلبرغ اختار اسم إنسان لسائق السيارة الصغيرة.
شاحنة للعدالة
كل هذا، يجعل، إذاً، من شاحنة مبارزة ، رمزاً لكل القوى المادية أو المعنوية، التي يجد الإنسان نفسه مضطراً لمجابهتها. سواء أكان الخطأ خطأه أم لا.. والحقيقة أن تلك لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تستخدم فيها السينما الشاحنة لترميز من هذا النوع. فالشاحنة تحضر في أفلام كثيرة، وهي غالباً ما تعتبر كناية عن القوة والشر أيضاً، حيث يمثل الانتصار عليها، في معظم الأحيان، انتصاراً للإنسان وللحق. فمثلاً تصل حكاية تيلما ولويز إلى ذروتها في فِلم ردلي سكوت الشهير والذي يحمل اسم بطلتيه، حين تتمكن المرأتان الهاربتان من الانتصار على شاحنة عملاقة كان سائقها قد ضايقهما طوال طريق هربهما. وليس نموذج هذا الفِلم سوى تأكيد لمنطق فِلم مبارزة .
ولكن في المقابل، قد يكون لافتاً في فِلم فرنسي عنوانه التهديد وكان من آخر الأفلام التي مثلها إيف مونتان قبل رحيله أن تكون الشاحنات وسيلة لفرض العدالة. إذ هنا لدينا رجل ارتكب جريمة ألصقها بصاحبته في فرنسا، ثم هرب إلى كويبك في كندا حيث عاش متخفياً في مأمن من عدالة عجزت عن الوصول إليه. لكن الشاحنات، وبشكل غامض، محملة بأكوام من جذوع الأشجار المقطوعة تحيط بسيارته من كل جانب فيما يشبه رقصة باليه عنيفة لتوصله إلى التهلكة وكأنها آلت على نفسها أن تعاقبه على فعلته التي لم يعاقبه عليها القانون. في هذا الفِلم انعكس الدور، ما يوضح أن السينما، لم تعتبر الشاحنة فاعل شر ذاتي القرار والتحرّك، بل أداة للعدالة، كما كانت في مبارزة أداة للظلم.
غير أن السينما، بين شخصيتي الشاحنة هاتين، لم يفتها أن تستخدمها مرات كثيرة ضمن إطار مهمتهما الأصلية: عربة للنقل والتحميل. وبهذه الشاكلة حضرت الشاحنة في آلاف الأفلام، غير أن حضورها لم يكن دائماً بالبراءة التي يمكن تصوّرها، ناهيك بأن هذا الحضور نبع في معظم الأحيان من السحر الذي تمارسه هواتها على شاشة تبدو، على رغم عرضها، عاجزة عن استيعاب كل جسدها. ونلاحظ دائماً كيف أن الكاميرا تبدي أقصى درجات التفنن في تصويرها للشاحنة ومن كل زواياها، مع تفضيل خاص، من أجل جرعة إثارة زائدة، للقطات بكاميرا منخفضة تستعرض الشاحنة من جزئها الأسفل.
جاذبيتها لن تزول
في مجال الدلالة، ولأننا لا نجد هنا مساحة تكفي للحديث عن كل الشاحنات في كل الأفلام، لطالما أننا أشرنا إلى حضور الشاحنة الطاغي في مئات إن لم يكن في آلاف الأفلام، قد يكون ملائماً أن نذكر هنا الشاحنة الأشهر في تاريخ السينما العربية: إنها شاحنة فِلم المخدوعون للمصري توفيق صالح، وهو فِلم مأخوذ عن قصة الكاتب الراحل غسان كنفاني رجال في الشمس . هنا، في هذا الفِلم الذي يرمز إلى القضية الفلسطينية وأهلها، تقوم الشاحنة-الصهريج، بدور البطولة . فهي أداة النقل التي يتولَّى سائقها تهريب رجال فلسطينيين إلى بلدان خليجية ليعثروا على عمل وحياة كريمه لهم. السائق يضع المهربين داخل الصهريج ويعبر بهم الحدود في ممارسه كانت تبدو عاديه في ذلك الحين. ولكن في القصة -وفي الفِلم بالتالي- إذ تستغرق الإجراءات الجمركيه وقتاً أكثر من اللازم بسبب الثرثره، يقع الرجال الموجودون داخل الصهريج فريسة الحرارة والاختناق ويموتون من دون أن ينتبه السائق إلى ما حدث لهم. هنا صارت الشاحنه قبراً متنقلاً، ما أعطاها دلالة رمزية إضافية وبالتالي بعداً سياسياً قابلاً للنقاش.
والنقاش كان، على أية حال، جزءاً أساساً من العلاقه بين السينما والشاحنة، خصوصاً أن ولادة هاتين الأداتين تزامنت لتجعل منهما معاً، من نتاجات القرن العشرين. وهنا إذا كانت السينما قد حلت محل الحكاية والملحمة، فإن الشاحنة بدورها قد حلت محل السفينة والجمل والقافلة. وهذا بدوره أضفى جاذبية خاصة على شخصية سائق الشاحنة نفسها، في كل مكان وزمان.. إذ نجد هنا هذه الشخصية وقد أسبغت السينما عليها دائماً ملامح شديدة الخصوصية تتراوح بين العنف والبطش من ناحية، وبين التجوال والبحث الدائم عن المجهول من ناحية أخرى.
ومن جديد لا بد من الإشارة إلى أن سائقي الشاحنات تمردوا طويلاً على هذه الصور وأبدوا احتجاجاتهم الهادئة مرات والعنيفة مرات أخرى. ولكن من دون جدوى. فالسينما لم تقبل أبداً بأن تخسر عنصر إثارة، في الشكل والمضمون تمثله الشاحنة من حيث قوتها وشكلها وقدرتها على الحركة الاندفاعية وسط الدروب؛ وعنصر تنويع يمثله استخدام الشاحنة كوسيلة للنقل وبيت متنقّل، بل أحياناً كمكتب مراقبة للمهربين (كما في فِلم التهريب لستيفن سودربرغ مثلاً)، أو حتى كمنطلق لبعد عاطفي درامي (كما في الفِلم السوري الشهير سائق الشاحنة ) أو مكان لقاء لشخصيات، يُصنَعُ الحدث الدرامي من لقائها هذا (كما في مشوار عمر للمصري محمد خان) أو كمجرد وسيلة نقل -وتواصل ذي دلالة على أية حال- (كما في الفِلم المغربي عابر سبيل لمحمد عبدالرحمن التازي، أو الفِلم المصري ثلاثة على الطريق لمحمد كامل القليوبي).
مهما يكن، وسواء، أكانت الشاحنة ودورها في الفِلم، هذا أو ذاك، فإنها تمارس دائماً على المتفرجين جاذبية وإثارة لا يشيران أبداً بأن دورها على الشاشة قد ينتهي عما قريب. بل ستبقى جزءاً من فتنة الصورة، وعمق الفن. ما بقيت السينما مهما كانت شكوى السائقين واحتجاجاتهم.
اقرأ للشاحنة
ملوك الطريق:
المجلة المصورة عن تاريخ الشاحنات
يستعرض المؤلف روب وانجر في هذا الكتاب تاريخ الشاحنات منذ القدم وحتى عصرنا الحالي. فيتناول جميع أنواع الشاحنات أشكالها, مميزاتها, واستخداماتها. ويتسم هذا العمل بطابع موسوعي شامل، ويتوجه إلى كل من يريد التعرف على الشاحنات.
كتاب الشاحنات المصور
يقع هذا الكتاب, للمؤلف بيتر ج. دافيز, في 264 صفحة. بداية يعرِّفنا الكاتب على تاريخ الشاحنات مع تغطية شاملة لجذورها, مخترعيها وروادها. ثم ينتقل إلى مراحل تطورها من ناحية الشكل, التصميم, والهندسة بشكل تفصيلي. وكل هذا مصحوب بصور تعريفية عن كل شاحنة.
وللصغار أيضاً: يوجد الكثير من الكتب عن الشاحنات للصغار منها:
لم أكن أعلم أن الشاحنة قد تكون بحجم المنزل، وحقائق أخرى مذهلة عن الشاحنات
يقع هذا الكتاب في 32 صفحة وهو من تأليف ويليم بيتي وتمت ترجمته إلى العربية..يجمع هذا الكتاب الكثير من الحقائق المدهشة عن الشاحنات بشتى أنواعها، من الشاحنات البخارية الأولى إلى الطراز العالي التقنية الحديث. كما يحتوي على بعض التجارب المسلية والأسئلة الممتعة التي تحفِّز الصغار على قراءة الكتاب لجمع أكبر معلومات ممكنة عن الشاحنة.