حياتنا اليوم

ما بين الكتاب والتلفزيون والإنترنت…
الراديو لايزال من دون بديل

  • 57b-(corbis-42-16670267[1])
  • 59a-(radio1)
  • 59b-(corbis-SF21850)
  • 60a-(kennedynixon)
  • 60b-(magnum-NYC21945-israel)
  • 61-(1952-corbis-U1206313INP)
  • 62a-(315229009_5000d1917e_o[1])

بعيداً عن صخب الأحاديث حول آخر ما توصلت إليه تكنولوجيا الاتصالات، ورواج آخر مبتكراتها، لا يزال الراديو يبث، وما زال هناك من يستمع إليه، ويفضله على غيره من وسائل الاتصال والتثقيف والترفيه.
والواقع أن المسألة ليست مسألة تفضيل أو اختيار شخصي. إذ إن الراديو يمتلك من المقومات والمواصفات ما يؤهله حتى يومنا هذا، للقيام بدور تعجز وسائل الاتصال الأخرى عن القيام به. وهذا ما يحاول الدكتور فكتور سحّاب أن يسلط الضوء عليه من خلال قراءته للتحول الذي طرأ على الراديو، وعصره، معتمداً في ذلك على خبرة كسبها خلال عمله أكثر من ثلاثين سنة في إذاعة لبنان، وإليه يضيف الباحث المتخصص في وسائل الاتصال والملكية الفكرية جعفر حمزة قراءته لمكانة الراديو في وسائل الاتصال.
عصر الراديو…
ما انقضى وما لم ينقضِ منه
أداة الكتاب الكلمة المقروءة، ويدخل في بابها الصحف والمطبوعات، تقرؤها من دون أن ترى أو تسمع ما يحدِّثك عنه الكاتب. فإذا وصف لك، فالكتاب يترك لك متسعاً رحباً ليرسم خيالك أنت، الصورة التي تعبِّر عنها الكلمة المكتوبة. وكم من كاتب نبغ، لأنه تحكَّم باللغة والكلمة إلى درجة تطويعها في الرسم بالكلمات، فتحوّل كتابه أو روايته إلى صندوق فرجة يكاد أن يؤدي، على ورق أبكم، كل أنواع الصورة والشكل واللون والحركة، بل المشاعر والأحاسيس. وفي هذا النوع من الاتصال بين البشر، امتاز الكتاب في أن دور القارئ ومخيلته حيوي إيجابي. وإذا بدا القارئ في الكتاب مستلقياً وكأنه يتلقَّى وحسب، فإن ما لا نراه في القارئ هو حركة ناشطة في مخيلته، تعيد رسم الصور وخلط الألوان وتسيير الحركة، وكأنه مخرج سينمائي يضع من جديد على الشاشة ما كتبه الروائي.

في الإذاعة تتلقى الأذن كل ما يمكن أن يكون مكتوباً… ومعه الموسيقى والغناء. ولذا فمع الإذاعة، لا يزال المجال رحباً لتمريس المخيلة والحلم، لإعادة تكوين الشكل والحركة والمشهد. وفي هذا تحتل الإذاعة مكانة مرموقة، في تراتب وسائل الاتصال، من حيث صفة كونها بنَّاءة.

فإذا نُظر إلى مراتب الوسائل الثلاث: الكتاب والإذاعة والتلفزيون، فإن المتحمسين للكتاب والإذاعة يرون أن هاتين الوسيلتين تمتازان على التلفزيون في غير صعيد. ففي صعيد الترفيه، ثمة أسباب للاعتقاد أن الوسيلة التي تحرِّك الخيال، تكون أقدر على الترفيه العميق لا السطحي، لأن الخيال أوسع وأشد تنوعاً من الحقيقة.

ويظن هؤلاء أن الخيال، لما كان أجمل من الحقيقة، فإن قارئ الكتاب والمستمع إلى الإذاعة أقرب إلى السعادة في الإجمال، من مُشاهد التلفزة. وعلى الصعيد التربوي، ليس من شك عند هؤلاء، ما دام الكتاب والإذاعة يحفزان المخيلة أكثر، في أن تمريس المخيلة وتمرينها بالنصوص التي لا تكتمل فيها الصورة، أشد فائدة في بناء وظائف العقل البشري.

أما على الصعيد النفسي فإن الراديو أقدر على أن يقيم علاقة حميمة مع المستمع، لأن المرء إذا كان مستلقياً في آخر يومه، يستعد للنوم، فهو يطفئ النور، ويأخذ في الاستعداد للنوم باسترخاءة حميمة، فيشعل الراديو قرب سريره، ويستمع بل لعله يستمتع بما يختاره من برامج. ولا تستطيع أن تستلقي لمشاهدة التلفزيون على هذا النحو، لأنه يشترط استواء الرأس للمشاهدة، وتيقظ عدد من الحواس. أما إطفاء النور فإن التلفزيون يفسده عليك بومضات ضوئية غير منتظمة، تتراقص لتقطع انتظام هدوئك المستعد للنوم. وكثير من المدمنين على الراديو، هذا الإدمان الممتع، صاروا يتبعون شبه مراسم وطقوس للاحتفال بساعة النوم. وصار الراديو عندهم محوراً ومحركاً أساساً لمواعيد تخرج عن إطار لحظة الاستماع نفسها، لتصبح جزءاً من سياق يومهم ومراحل اليقظة والنوم والحركة والراحة والعمل والاسترخاء.

الصوت والصورة
كانت الإذاعة في عصرها الذهبي منتجاً أساساً للفن الراقي، في كثير من البلدان. وكانت أول إذاعة عربية حكومية قد نشأت في القاهرة في 31 أيار (مايو) 1934م فتولّت بث غناء عربي في أعلى مراتبه. وفي سنة 1938م، أنشأت حكومة الانتداب في لبنان وسورية إذاعة راديو أوريان التي صارت الإذاعة اللبنانية. وسرعان ما أنشأت سورية سنة 1942م إذاعتها الرسمية. وكان لهاتين الإذاعتين دور واضح وحاسم في إنتاج فن موسيقي رفيع.

أما في فلسطين فأنشأ الانتداب البريطاني إذاعة الشرق الأدنى سنة 1939م، ثم نشأت فكرة الاهتمام بتمدين موسيقى أرياف بلاد الشام، وهي مهمة انتقلت من فلسطين إلى لبنان، مع انتقال فريق الشرق الأدنى بعد النكبة إلى بيروت. وكان أبرز من تولَّى رعاية الموسيقيين اللبنانيين الشبَّان في المشروع هذا، حليم الرومي، الذي تسلَّم منصب رئيس المكتبة الموسيقية في إذاعة لبنان، وصبري الشريف الذي كان يشرف على الإنتاج الفني في إذاعة الشرق الأدنى.

اليوم ثمة أنصار للإذاعة يقولون إن التلفزيون خرَّب كل شيء، فحلَّت الصورة وجودتها، محل الصوت والاهتمام بجودته. ويقول هؤلاء إن معايير الفنون البصرية تعاظم دورها في الإنتاج التلفزيوني على حساب معايير الفنون السمعية في كثير من الأحيان.

أما أنصار التلفزيون فمنهم من يقول إن الرداءة في الموسيقى العربية سبقت ظهور التلفزيون وطغيانه على الإذاعة، فلا يصح أن نربط الأمرين سببياً بالضرورة. غير أن الشيء الذي لا جدال فيه، هو أن السبيكة السمعية التي كانت الإذاعات توفِّرها أنفس من السبيكة السمعية البصرية في تلفزيونات اليوم العربية، في المعدَّل.

وثمة سبب واضح. كانت الدول وحدها تقريباً، في البلاد العربية على الأقل، هي التي تنشئ الإذاعات. وكانت التكلفة زهيدة نسبياً بالمعدات والمرتبات والإنتاج، إذا قورنت بتكاليف المستوى نفسه من عناصر الصوت والصورة والحركة في التلفزيون، أضف إلى ذلك شبه الوباء، لدى كل من امتلك بعض مال وحوافز لينشئ محطة تلفزيونية. كل هذا دفع إلى الاستسهال دفعاً. كانت قلة الحيلة في الوسائل الإذاعية عنصر ضعف في المقارنة مع التلفزيون بالطبع، لكنها كانت أيضاً عنصر قوة في الوقت نفسه. إذ كان على العمل الإذاعي بوسائله المتاحة (الصوت وملحقاته من مؤثرات صوتية وإلقاء وما إليها) أن يتفوق في ابتكار أساليب الاتصال مع المستمع لنقل كل ما أمكن إليه، من أجل سد ثغرة هذا النقص في الوسائل المتاحة. فكيف يعبِّر لك في الراديو عن الألم أو الحزن أو المشاعر على اختلافها؟ لقد استمد الراديو قوته من سعيه في التعويض. فهل كانت قوة التلفزيون سبب ضعفه أيضاً؟ لقد سهَّل تنوع عناصر العرض التلفزيوني (الصوت والصورة والحركة واللون وكل ملحقاتها) مهمة العاملين وراء الشاشة الصغيرة، ولم يعد مطلوباً منهم أن يصفوا المشاعر ولا الحركة ولا الحوادث وكيف تحصل، ولا اللون.

في جانب كان ضيق الوسيلة حافزاً على التحسين والترقية وفي جانب آخر كانت سعة الوسيلة متسعاً رحباً للاستسهال. ومن ناحية ثانية، فتحت حاجة العمل التلفزيوني إلى كثير من المال الباب واسعاً ليدخل المال التجاري في الميدان. والمال التجاري لا يأبه للرسالة الثقافية أو الاجتماعية، مثلما تأبه الحكومات. ولذا لم يكن مفاجئاً أن تتقلص حصة الثقافة الجيدة في الفن التلفزيوني عموماً، على الأقل في المعدل العام.

من هم المستمعون والمشاهدون؟
قد يوحي الكلام على التنافس بين الإذاعة والتلفزيون، أن جمهورهما واحد. والحقيقة أن الجمهور واحد وليس واحداً. فثمة أوقات وأماكن تنفرد فيها هذه الوسيلة، ولا تستطيع الأخرى منافستها فيها. ففي السيارة الراديو هو الملك المتوَّج. وفي المقابل لم نعد اليوم نستطيع أن نتخيَّل شخصاً يستمع إلى وصف مباراة كرة قدم في الراديو لا التلفزيون. كان الكابتن محمد لطيف المصري، مؤسس فن إذاعة المباريات في الإذاعة، متعة حقيقية لمن تسنَّى له حظ الاستماع إليه والاستمتاع بثقافته الرياضية وخفة ظله. وقد انتقل كثير من أسلوب الكابتن لطيف بعد وفاته، إلى تلاميذه الذين يتولون اليوم وصف المباريات. لكن هؤلاء باتوا يعملون للتلفزة لا الإذاعة.

لكن هذا التلفزيون الذي يستبد بالمشاهد، لقوة أثر الصورة في الناس في كثير من الحالات، يقف عاجزاً عن المنافسة، حين يكون المستمعون كتَّاباً منصرفين إلى التأليف مثلاً أو موظفين في عملهم أو ربَّات بيوت، يطبخن أو يكوين الثياب مثلاً.

الدور السياسي
كان أشهر دور سياسي لعبه التلفزيون في بدايته، عندما أخذ يؤثر في حملات انتخابات الرئاسة الأمريكية، في سنة 1960م، حين خسر نائب الرئيس، وهو رتشارد نيكسون أمام الديمقراطي الشاب جون كينيدي. ففي المناظرة بين الرجلين، ظهر نيكسون بذقنه وكأنها لم تُحلق، فيما ظهر كينيدي بتلك الكتلة الشهيرة من الشعر على جبينه.

وفي هذه المرحلة، كان التلفزيون قد دخل لتوه الأوطان العربية. لكنه كان لا يزال باهظ الثمن قليل الانتشار. بينما كان ثمة اختراع آخر، ياباني اسمه الترانزستور ، يمتاز بميزتين: فهو يُحمل في كف اليد، وهو رخيص جداً. ويقال إن الحوافز السياسية القومية آنذاك كانت عاملاً أساساً لانتشاره، سعياً في سماع محطات بعينها.

ولم يكن يونس البحري، سوى دليل آخر، في عصر الراديو، على ما يمكن لهذا الجهاز أن يفعله في السياسة. كان يونس البحري الصوت العربي في إذاعة ألمانيا النازية، الداعي إلى الاصطفاف ضد الحلفاء. وكان نداؤه الإذاعي حيَّ العرب شهيراً جداً. أما أشهر إذاعات الحلفاء الناطقة بالعربية، فكانت إذاعة الشرق الأدنى من يافا في فلسطين.

وثمة من يربط بين ظهور الإذاعة في عشرينيات القرن الماضي، وتأجج المشاعر القومية في ذلك العصر، وبلوغها حدود التعصّب المفرط في حالات، لأن الشعوب أخذت تستمع من إذاعة واحدة، إلى ثقافة واحدة بلغة واحدة، هما الثقافة واللغة القوميتان، وتستذوق سبيكة فنية متجانسة.

ولم يتسنَّ للتلفزيون أن يلعب طويلاً هذا الدور، إذ سرعان ما نشأت التلفزيونات العابرة للحدود القومية والثقافات والقارات، مع ظهور الأقنية الفضائية. وصار التلفزيون في نظر البعض عامل تفتيت اجتماعياً، لكثرة السبائك الإعلامية التي يتيحها تعدد المحطات، وعامل توحيد أفقياً بعيد المدى في نظر البعض الآخر، لأن العربي في كندا مثلاً، صار قادراً على مشاهدة معظم التلفزيونات العربية، بفضل صحن صغير ينصبه فوق سطح بيته.

أشهر برامج الراديو العربية
اتفقت كل محطات الإذاعة العربية على إذاعة برنامج فكرته واحدة، وكان يطلق عليه في كل المحطات اسم واحد: ما يطلبه المستمعون . ونادراً ما كانت برامج الإذاعات تتشابه بالاسم، إلا هذا. وكانت إذاعة لبنان تقدِّم كذلك برنامجاً أسبوعياً مساء يوم الأحد، اشتهر منذ خمسينيات القرن الماضي، اسمه سهرة مع الأنغام. وكان في كل مرة يستقبل فناناً من الكبار فيحاوره حواراً طويلاً.

أما إذاعة القاهرة فكانت لها برامج كثيرة اشتهرت أيضاً. وكانت حفلات أم كلثوم الشهرية، في أول خميس من كل شهر قد بدأت تذاع فيها منذ سنة 1937م. كذلك اشتهر برنامج، لعله أطول البرامج الإذاعية العربية عمراً، وهو برنامج ألحان زمان، الذي كان يعده المؤرخ الموسيقي المرحوم محمود كامل، ولا يزال يذاع إلى الآن. وكانت إذاعة القاهرة تزخر ببرامج تمثيلية، وهي تقدِّم الآن مسلسلات شهرية، وكان من أشهرها سمارة، الذي أبدعت في تمثيله الفنانة الراحلة تحية كاريوكا. كذلك أبدعت زوزو نبيل في برنامج: ألف ليلة وليلة. وكان من أبدع ما أنتجه فن الإذاعة العربي على الإطلاق.

وفي إذاعة دمشق اشتهرت في برامج تمثيلية شخصيتا أم كامل وأبو رشدي. وكانت أم كامل هي الفنان السوري المعروف أنور البابا. ويذكرها المستمعون بعبارتها الشهيرة: يوه يوه يوه، ولي على قامتي .

الراديو..
في سلَّة وسائل الاتصال
تدرَّج التفاعل البشري مع المحيط منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، في ثلاث موجات:
– 
الأولى: (نحو 3500 ق.م.) ظهور اللغة المكتوبة التي سمحت بالتدوين.
– 
الثانية: (منتصف القرن الخامس عشر الميلادي) اختراع يوهان غوتنبرغ الطباعة وانتقال المجتمع من الاتصال الشفوي وحده تقريباً إلى الاتصال المكتوب على نطاق واسع.
– 
الثالثة: اكتشاف الحاسوب في ستينيّات القرن الماضي، وانتقال المجتمع إلى مرحلة الاتصال المتفاعل.
ونضيف موجة رابعة هي موجة العالم المفترض (الافتراضي) في الإنترنت، إذ أصبحت للحواس بيئة تسمع وتبصر وتتكلم، وقد تلمس فيها، لتصبح المجتمعات البشرية – إذا استمر التضخم الافتراضي دون تقنين معقلن – كانتونات ملونة ترسم لنفسها حدوداً وهوية مختلفة، وعالماً مسوّراً، نتيجة لذلك التضخم الذي يلغي التفاعل البشري بصورته الطبيعية.

ويشهد المجتمع المعاصر حضارة الصورة التي طغت في التلفزيون والفيديو والإعلان والحياة العامة، ونجد ذلك في الأزياء والأثاث والتزويق والرسوم والمعارض. وقد أضعف هذا العامل في ذاته فضاء الثقافة وضيّق مساحة القيم المرتبطة بالرمزي أو المجرد في المجتمع.

كليلة ودمنة أم توم أند جيري؟
صارت الصورة التلفزيونية تثير مخاوف من سيطرتها على الكلمة المسموعة، وخصوصاً في ظل تغير طرأ في المجال السمعي، حين تداخل الإنترنت والأجهزة الحديثة مع مسار مثل أجهزة الآيبود.

إن وسيلة التلفزيون تُلغي التوقع والرمز والتأويل التي تكون مرتبطة بالوسيلة المكتوبة أو المسموعة، لينطلق الفرد على إثرها إلى ساحة التفكر والتأمل والتحليل والتركيب. فالوسائل البصرية المعاصرة تقدم المكافآت والإشباع حالاً، وبالتالي تفتقر إلى لذة من نوع آخر يبحث عنها الفرد، ألا وهي القدرة على التأمل والتفكيك والتركيب مرة أخرى.

لقد تحولت اللغة قسراً إلى قوالب لتصبح ذات مدلول واحد ومباشر دون عمق، كما حال اللغة العربية، فأصبحت اللغة أدوات للدلالة التقنية ولم تعد جزءاً من الثقافة كما يقول الدكتور عبد الرحمن عزي.

ومثل هذه الحال كمثل قصتي كليلة ودمنة وتوم أند جيري، فالأولى مخزون لفظي ودلالي، ومنطلق للتفكير والتأمل ينبثق من اللغة القصصية ، فيما نرى أن توم أند جيري صورة دون لفظ، وحركة دون تعقيب، ومباشرة دون رموز، ويكون هضمها بسيطاً مستساغاً، فلا حاجة إلى التفكير، لأن النتيجة جاهزة والتوقع ربما موجود سلفاً. وبعبارة أخرى توم أند جيري شطيرة همبرجر أو Fast Food الثقافة البصرية، أما الثقافة المكتوبة والمسموعة فغذاء تقليدي يحتاج إلى جلوس وتمتع بأكله.

وعلى الرغم من إدعائنا ضرورة مراجعة الذات في أصل مقدار التلقي من الصورة أو الكلمة خشية تصدّع فعل الاتصال أو إصابته بالصدأ، فإن غَلَبَة البصر وجورَهَ على الحواس الأخرى بات واقعاً، بل طبيعياً على نحو يستلزم قراءة من نوع آخر لفتح دائرة التأمل للحواس الأخرى، بالمضي قدماً في دورها المعرفي في حياة المجتمع البشري المعاصر.

وقد رسم الشعور بالسيطرة والتحكم، من خلال الحاكوم Remote Control ، ملامح جديدة للتفاعل مع الذات ومعرفة الآخر لدى الإنسان المعاصر، فقد أصبح تأطير الحقيقة أمراً مطلوباً ومرغوباً فيه، وبوسائل شتى، وقيل إن وسيلة التلفاز تقدِّم الحياة مشهداً مرئياً أو عرضاً (Spectacle)، وقد تحولت ميادين الحياة إلى شيء مرئي للاستهلاك الآني . فهذا لا يبعدنا عن أصل التحدي القائم في واقع الاتصال للحاسة الأخرى وهي السمع، وهي مجال حديثنا المقارن.

وعند الحديث عن الإذاعة فإن الخيال يكون الرهان في احتفاظ الإذاعة بهيبتها وتفردها، فضلاً عن توسعها وسهولة انتشارها كالهواء، لتشمل دائرتها المتعلم والأمي، الفقير والغني على السواء، وتتميز دائرة التأثير الإذاعي بأنه أكثر حرية في الحركة من التلفاز، فجمهور الإذاعة يتمتع بإمكان الحركة، والعمل في أشياء متعددة أثناء متابعة الأخبار أو برامجهم المفضلة، بالإضافة إلى قدرتهم الدائمة على الاستماع إلى الإذاعة وهم يتحركون في سياراتهم، وهذه ميزة.

وعند التطرق إلى سر الإذاعة لا بد من معرفة جاذبية الأذن. فالتلفزيون عندما يخاطب العين بالصورة الملونة المتحركة، عن أي حدث إخباري أو ثقافي أو ترفيهي، لا يترك للمشاهد مساحة ولو ضيقة، لتسريح خياله ومشاعره الخاصة، ولكنه يكشف له عن كل شيء، بلا أي حرص على خيال المشاهد الخاص وذوقه وثقافته وأحاسيسه ومشاعره.

وتتميز الإذاعة بفردها لمساحة من التأمل وتواضعها في شغل اهتمام حاسة واحدة، لتبقى الحواس الأخرى تتفاعل مع المحيط، ويبقى السؤال عن مناهج الاتصال الحديثة وتزاحمها الصُوَرِي للظفر بأوسع الاهتمام عند الإنسان، ولا أدل على ذلك من تقليص حجم التلفزيون ليكون أبعد من مجرد جهاز يحتل مساحة معينة، إذ أصبح جزءاً من جسمك (الهاتف المزوَّد بتقنية الجيل الثالث 3G) وهو الجهاز الذي يتعامل مع الأذن.

وما زال الراديو صامداً، ربما!
طرحت الوتيرة المتسارعة في الابتكار والتطور في مجال الاتصال، الكثير من المشكلات الثقافية والفكرية والإنسانية في طبيعة العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، مع تصاعد محموم لوسائل الاتصال الحديثة، فما هي حال الوسائل التقليدية في الاتصال، ومنها الراديو؟

في الخمسينيَّات من القرن الماضي، وعند انتشار التلفزيون، ساور بعض العاملين في مجال البث الإذاعي القلق من مصير الراديو بصفته أداة اتصال جماهيري. ومع تولّد وسائل جديدة منها الآيبود (iPod)، والإم بي3 (MP3)، فإن لهذا القلق صدىً الآن، وقد تناوله المؤتمر الدولي للبث الإذاعي الذي عُقد في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وشارك فيه ممثلو مؤسسات وشركات إذاعة من مختلف أنحاء العالم.

وفي تعقيب على محور المؤتمر، يقول حسن معوض، المدير العام لإذاعتي إم بي سي – إف إم وبانوراما إف إم: كيف يمكن للإذاعة أن تبقى على قيد الحياة؟ هذا هو السؤال المطروح في ضوء أدوات الترفيه والإعلام والإخبار الأخرى من تلفزيون وإنترنت وآيبود وما إليها . ويستطرد بأن الإذاعة يمكن أن تستفيد من التطور التكنولوجي ليُكتَب لها البقاء . ويوضح قائلاً: الآن بالإذاعة الفضائية التي تعمل من خلال الأقمار الصناعية، يمكنك أن تُوصل إرسالك إلى بلدان أخرى، حيث يمكن أن يُسمع بنقاوة جيدة .

ويبدو أن الانتظار والتقييد الزمني دفعا بالإنسان إلى اقتناء ما يريد سماعه من الإذاعة ليعيد الاستماع في أي وقت وهو يتحكم بما يسمع، ويسمى هذا Pod Casting وهو بث إذاعي مسجل سلفاً يمكن الحصول عليه بالاشتراك مع مؤسسة للخدمات وتنزيلها على الإنترنت.

ويتبين أن الخوف من التسجيل حقيقي وقوي، إلا أن لطارق مامي، مدير إذاعة فرنسا- المغرب في باريس ورئيس الجمعية الفرنسية للإذاعات الرقمية رأيا آخر، إذ يقول: نخاف اليوم أن يمشي كل الناس على الآيبود والإم بي 3 . ويوضح سمتين أساسيتين تمتاز بهما الإذاعة على الأجهزة الجديدة، فيقول: الإذاعة تعطيك الخبر عندما يقع أي شيء، الآيبود لا يعطيك الخبر؛ الإذاعة تأتيك بالمفاجأة عندما تستمع إلى الأغاني، الآيبود لا يعطيك المفاجأة، فأنت سجلت ما في الآيبود وتعرف ما ستسمع .

الإذاعة وحرية المستمع
ويميز الإذاعة دون غيرها من وسائل الاتصال، أنها وسيلة الاتصال الوحيدة التي يمكنك استعمالها أينما كنت، بكل ما للكلمة من معنى، لتخاطب مستمعا أينما كان، إذ تكون دائرة الحاسة الخاصة بها أوسع بكثير من دائرة البصر، وبذا يكون مجال الحركة معها ممكناً، فيما تكون الوسائل الأخرى (التلفزة والإنترنت والصحف والكتب) محدودة ضمن مكان التلقي. لقد أصبحت للإذاعات موجات أخرى للبث، فقد وظفت موجاتها لتكون بمثابة موجات الرادار الحربية تارة، وموجات لخطاب مُثير عند البعض ومؤيّد عند البعض الآخر تارة أخرى.

اختراع الراديو استخدم بتوسع بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1920 م. ولقد أصبح الراديو بوجهيه التقليدي (الموجات AM, FM, ,MW,SW) والحديث (Pod Casting, Satellite radio) متمكناً أكثر من السابق على الرغم من وجود أدوات اتصال أخرى تستأثر باهتمام الحواس لدى الإنسان المعاصر، وذلك نتيجة فِطريّة الاتصال عبر الأذن، إذ ما زال الراديو متفاعلاً مع المستمع باستخدام طرق بصرية أخرى كالإنترنت، ورسائل النص الهاتفي SMS.

وللراديو تاريخ
• 1895: تمكن الإيطالي النابغة غولييلمو ماركوني، وهو في الواحدة والعشرين من العمر، من بث أول إرسال لاسلكي، مسافة كيلومترين ونصف كيلومتر، في مدينة بولونيا الإيطالية.

• 1896: عرض ماركوني اختراعه على البريد الإنجليزي وحصل على براءة اختراعه.

• 1897: أنشأ ماركوني أول شركة لاسلكية، وسماها سنة 1900 على اسمه ماركوني.

• 1897: صنع أستاذ الهندسة الكهربائية في جامعة أركنساس الأميركية وليام غلادسون، آلة بث لاسلكي تجريبية.

• 1899: أنشأ ماركوني أول اتصال لاسلكي بين البر الأوروبي في فرنسا وإنجلترا عبر بحر المانش. وسافر إلى أميركا.

• 1901: أثبت ماركوني أن البث اللاسلكي لا يتأثر باستدارة الأرض، إذ بث من كورنوول في إنجلترا، إلى كندا، من على مسافة 3380 كيلومترا، عبر الأطلسي.

• 24 ديسمبر 1906: نظَّم ريجنالد فسندن أول إذاعة لجمهور، لمناسبة عيد الميلاد، وتلقى فيه أول إعلان مدفوع يُذاع.

• 1907: افتتح ماركوني أول اتصال لاسلكي تجاري بين القارتين الأمريكية والأوروبية (إيرلندا).

• 16 ديسمبر 1907: أول غناء يبث باللاسلكي، غنته يوجينا فرار، في وداع بحارة أميركيين ذاهبين لمحاربة الإسبان.

• 31 يناير 1909: أول رسالة لاسلكية من سفينة غارقة.

• 12 و13 يناير 1910: درفوريه ينظِّم أول بث إذاعي لحفلة أوبرا من مسرح متروبوليتان في نيويورك، كان فيها مؤلفات غنائية لبوتشيني وليونكافالو، وغنى المغني الشهير إنريكو كاروزو.

• 7 نوفمبر 1916: إذاعة دوفوريه التجريبية تذيع نتائج أول انتخابات رئاسية أمريكية تبث بالراديو: فوز تشارلز هيوز على وودرو ولسون.

أضف تعليق

التعليقات