لا يختلف الحديث عن الإذاعة السعودية في جوهره على الحديث على معظم إذاعات العالم: حنين إلى الماضي ونقد للحاضر. فالقضية في الدرجة الأولى قضية المكانة التي كان الراديو يحتلها في اهتمام المستمعين، وقد تراجعت خلال السنوات الأخيرة أمام تقدم التلفزيون والكمبيوتر. ولكن مكانة الراديو لم تتلاشَ تماماً أمام وسائل الإعلام الأحدث. لا بل إن هناك إذاعات كثيرة لا تزال تحتفظ بنسبة مُرْضية من المستمعين الراضين عنها. فأين موقع الإذاعة السعودية وبرامجها الثقافية من المستويات التي أدركتها سابقاً وتلك المطلوبة منها؟
في المقالات الثلاث الآتية عرض للمكانة التي احتلتها الإذاعة السعودية والإذاعات العربية عموماً، قبل عقود قليلة من الزمن، بقلم خالد ربيع السيد، وتشخيص لأسباب ما آلت إليه البرامج الثقافية في الإذاعة السعودية بقلم محمود تراوري، وأجوبة الأستاذ
إبراهيم بن أحمد الصقعوب، وكيل وزارة الثقافة والإعلام لشؤون الإذاعة، عن الأسئلة التي حملتها إليه القافلة في هذه القضية.
أنا والراديو وهواه .. ذكريات إذاعية
خالد ربيع السيد
لطالما كان الراديو وبرامجه المتنوعة الخلفية الوجدانية التي صاحبت مراحل حياتي المختلفة. في صباح تلك الأيام، باكراً، إبان سنوات الدراسة الأولى، كنت أستيقظ – أنا وإخوتي – على صوت الشيخ مصطفى إسماعيل أو الشيخ عبدالباسط عبد الصمد يتلوان القرآن. يشغِّل والدي الراديو على إذاعة صوت العرب، ويصادف دوماً الآيات الأخيرة من القراءة. لم أكن أعرف اسم المقرئ الذي أسمعه حينذاك، لكنني ألفت الصوت الذي يعني أن ساعة مغادرة الفراش قد حانت. أن تغادر الفراش الدافئ إلى الصقيع الذي يملأ أركان البيت تلك معاناة حقيقية. وعلى الرغم من ذلك كان صوت المقرئ وقراءته تشيع طمأنينة تهبط على أرجاء الغرف والدهليز الذي يفصل حجراتنا الثلاث عن حجرة والدينا. هكذا كان يعلن اليوم بدايته، بينما روح مدينة الطائف تغشاها البرودة، البرد الذي يحمل قدراً كبيراً من لذة البكور. برد يحاصرنا، أنا وأخوتي، ويجذبنا بقوى مغناطيسية خادرة تدعونا إلى عدم الانسحاب من تحت لحاف القطن الذي أشرفت أمي على تنجيده حتى خرج في تلك الصورة.
برامج من كل نوع منذ الصباح
يصادف أن يدير والدي مؤشر الراديو إلى إذاعة جدة، على برنامج «الأرض الطيبة» فتشدو أغنية البرنامج: أزرع وأقلع أرض بلادك بكرة تجني الخير لأولادك. ثم بالعودة إلى صوت العرب يأتي برنامج «حوار مع مستمع» بموسيقى افتتاحه المميزة، ثم برنامج «كلمتين وبس» لفؤاد المهندس. لم أكن أفهم عمَّ يتحدث فؤاد المهندس، لكن نبرة صوته وطريقته اللطيفة كانتا تجعلان حديثه ينساب داخلي، دون أن أشعر بأهمية الحديث. الآن بدأت أستعيد تلك الأهمية، وتفهمت أنه كان برنامجاً توعوياً يتناول السلوك وينادي بكف يد البيروقراطية في حوادث عديدة يقع فيها الموظفون المصريون الكادحون.
«البيت السعيد» كان برنامجاً في إذاعة جدة. هكذا كنا نقول «إذاعة جدة»، كان يدغدغ شغاف قلبي، صوت سلوى شاكر وطريقة حديثها المتقطعة، كنت وزملاء الدراسة نستمع إليه عندما نهرب من المدرسة ثم يأتي برنامج «همسة عتاب» بموسيقاه الرقيقة، وصوت الممثل الشهير الذي عرفت بعد سنوات أن اسمه رأفت فهيم، وهو يقول «فوت علينا بكره يا سيد». ثم يأتي برنامج أخبار خفيفة بموسيقاه المرحة وأخباره التي كانت فعلاً خفيفة، يليه برنامج «إلى ربات البيوت» بصوت صفية المهندس، يتدفَّق عذباً جاداً ويتخلل البرنامج اسكتشات اجتماعية سريعة متقنة، ثم برنامج «أبلة فضيلة» الذي أستمع إليه في يوم الجمعة بعد أن تكون إحدى شقيقاتي الكبريات قد نقلت الراديو إلى المطبخ، وصوت الأطفال يشدو في مرح وحماس:
يا ولاد ياولاد تعالوا تعالوا
علشان نسمع أبلة فضيلة
تغني لنا حكاية جميلة
وتسلينا وتهنينا
وتسمعنا كمان أسامينا
آاااابلة أبلة فضيلة
كنا نستمع أيضاً يوم الجمعة إلى برنامج «تحية وسلام» واتصال الطلاب المغتربين الذي كان يذاع قبل صلاة الجمعة، فيما أذهب مع والدي لملء أوعية الماء من البازان في نهاية حي الشهداء الشمالية.
تلك كانت أياماً رائعة، مليئة بالأمان، كانت الأذهان فيها صافية، والبال منصرف إلى التسلية واللعب وملاقاة أولاد الجيران، والتخطيط للعب بالدراجة في الشارع الخلفي. لم نكن نسمع رنين الهواتف المحمولة، ولا أصوات أجهزة الأتاري و«بلاي ستيشن».
برامج المساء والسهرة
في حصة المساء، كان هناك الثانية بعد الظهر برنامج للمذيع مطلق مخلد الذيابي «سلام الله يا أخي المسلم». وفي أحد أيام الأسبوع برنامج الحرس الوطني. ثمة أغنية قديمة غالباً ستسمعها إذا أدرت مؤشر الراديو على البرنامج العام في القاهرة. ثم عند العصر، يأتي برنامج «شمس الأصيل» وأتخيل أنه برنامج شعر. كنت أحب سماعه عندما يصحبني والدي مع أشقائي إلى الهدا أو الحوية حيث نلهو في «صخرة الحليقة». وأيضاً برنامج ما يطلبه المستمعون. وللغرابة كان نصف الفتيات اللواتي يهدين الأغاني اسمهن «نورة» والنصف الآخر «خيرية» و«فوزية» و«عابدية» و«فتو». لم يكن في ذلك الزمن أسماء مثل «لجين» أو «ريهام» أو «إيلاف». كان يذاع برنامج «بابا شارو» في صوت العرب، وبرنامج «حول الأسرة البيضاء» الذي تعرفت عليه عندما كبرت قليلاً. لكني عرفت برنامج «زيارة إلى مكتبة فلان» منذ سنوات الطفولة الأولى. ثم ليلاً كانت هناك برامج «لغتنا الجميلة» لفاروق شوشة، و«قال الفيلسوف»، و«ذكريات إذاعية» الذي سرقت عنوانه لهذه المداخلة، وهو برنامج رائع كان يعيد المستمع إلى أزمان جميلة عبر إذاعة مقاطع من برامج وإنتاج إذاعي قديم كالأغاني والأوبريتات واللقاءات النادرة وغيرها. وألطف ما فيه كان تلك الفقرة الخاصة بفرقة «ساعة لقلبك» التي كانت تضم نخبة من الكوميديين خفيفي الظل ذوي الأداء الجميل: الفتوّة والفشّار أبو لمعة والخواجة بيجو والفار والجزار وفؤاد المهندس، وغيرهم.
الموسيقى التصويرية لدورة الحياة
وهناك أيضاً برنامج «على الناصية» الذي ما زال يذاع حتى الآن، وهو يعد من علامات الإذاعة. أما في رمضان، فالإذاعة تغدو شيئاً ممتعاً بحق، وأبرز ما فيها صوت الشيخ محمد رفعت قبل الإفطار وهو يقرأ على مسامعنا آيات من القرآن الكريم، وقد انهمكت ربات البيوت في إعداد الإفطار لأسرهن، وامتلأت الشوارع بالأطفال اللاهين في انتظار أن يضرب المدفع. بينما تجد الباعة وقد تراصوا على الجانبين يبيعون سلعاً تباع عادة في الوقت الضائع كالطرشي، والجرجير والفجل والليمون، وكنت أرى الناس يهرولون قبل الإفطار بلحظات لشراء تلك السلع وقد غلبت العجلة والعصبية على تصرفهم خشية أن يدهمهم الإفطار وهم ما زالوا في الطريق. بينما كان يحلو لبعض أصحاب المحال والمقاهي أن يرشوا المياه أمام حوانيتهم في ذلك الوقت بالذات، كل هذا وصوت الشيخ محمد رفعت ينبعث في الخلفية بآيات من سورة الرحمن، ليقيم خلفية روحية رائعة. ثم تأتي ابتهالات الشيخ سيد النقشبندي -يرحمه الله- أثناء الإفطار، ثم فزورة آمال فهمي.
كان الراديو للأجيال، يشبه الموسيقى التصويرية التي تصاحب أحداث الأعمال الدرامية. بل إن الناس صاروا يؤرخون للأحداث من خلاله، فتجد السيدات يثرثرن سوياً قائلات: «أنا ولدت فلان ابني وعبد الحليم بيقول: على قد الشوق». ناهيك باجتماع القاصي والداني حول الراديو في الخميس الأول من كل شهر لسماع أم كلثوم، وعلى علمي فإن هذا لم يكن في مصر وحدها، بل كان صوت أم كلثوم يذاع في معظم الوطن العربي حينئذ، حتى أن أصدقاء سوريين أخبروني أن الطقوس نفسها كانت تنتشر في بيوتهم قديماً حين يأتي الخميس الأول من كل شهر.
ميزة الإذاعة على التلفزيون
وتمتاز الإذاعة على التلفزيون بميزة رائعة لا يقدرها إلا أصحاب الخيال الخصب من أبناء جيل الإذاعة، وهي أن الإذاعة تطلق العنان للخيال ولا تحدّه، وتفتح الباب أمام المستمع ليرسم في خاطره ما يشاء من صور لما يسمع. فأشخاص المسلسلات مثلاً، يرسمهم كل مستمع في خياله بصورة تختلف قليلاً أو كثيراً عن غيره من المستمعين. وكذلك الأماكن التي تدور فيها الأحداث، والأغاني… أما في التلفزيون فقد رسمت الشخصية وانتهى الأمر، وأصبح علينا أن نتبع ما نراه من دون تدخل ولا تفاعل، وكثيراً ما تكون الشخصيات في التلفزيون، ولا سيما التاريخية، مصورة على نحو مضحك نتيجة نقص الحرفية لدى منفذي الماكياج أو مصممي الملابس، وكذا الحال عن أماكن التصوير وغير ذلك، فتكون المحصلة النهائية غير مقنعة للمشاهد.
أما في الأغاني فإن أسوأ ما ظهر في عالم التلفزيون -في نظري- هو الفيديو كليب، نعم الفيديو كليب، وأنا أراه العكازين اللذين تسير عليهما الأغاني العرجاء، أو قل الكسيحة التي نسمعها اليوم، ولولا الفيديو كليب، لجلس معظم من يغنون في بيوتهم، ولأجبروا على البحث عن مصدر آخر للرزق.
أما في الراديو، فليست هناك قيود على خيال المستمع الذي كان يستمع مثلاً إلى أغنية «مداح القمر» من عبدالحليم حافظ، أو «يا جارة الوادي» أو «النيل نجاشي» لمحمد عبدالوهاب، ويسبح في عالم من صنعه وحده، دون فتيات عرايا يرقصن، أو أشباه رجال يرتدين ملابس أحالتهم إلى ما يشبه المسوخ المشوهة، وقد جلسوا على دراجة نارية، يؤدون حركات ويقومون بأفعال لا علاقة لها من قريب ولا بعيد بالأغنية. وتكتشف في النهاية أن هؤلاء الراقصين ومعهم المخرج لا يختلفون في قليل أو كثير عن ذلك الذي يضربك بكتفه في الأتوبيس أو يدوس على قدمك ليلهيك عن النشل، الذي يُحيلك على الاستدانة دون أن تدري، فيجلس المشاهد أمام التلفزيون كالأبله فاغراً فاه ليتفرج على سيارة مكشوفة باهظة الثمن تقل عدداً ضخماً من الفتيات غير المحترمات – وقد أصبحن سلعة وفيرة – بينما تتوالى المشاهد أمامه بسرعة تصيب الإنسان الطبيعي بالغثيان، وطبيعي والحال كذلك، أن ينصرف المرء تماماً عما يسمع، فلا يمعن النظر في لحن ولا كلمات ولا صوت، ليصبح أي شاب في مقتبل العمر أفضل مطرب عربي!!
لم يعد أحد يسمع الإذاعة إلا قليلاً، ولم يعد أحد يعرف من الأجيال الجديدة ماذا تعني حين تقول مازحاً «يا ترى انت فين يا مرزوق»، أو حين تغني «دوق الدندرمة» أو يعرف شيئاً عن «الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة» أو يعرف أوبريت «السوق» أو «عوف الأصيل» أو «قطر الندى»، وغير ذلك من روائع الأعمال التي عمل فيها موهوبون حقاً.
رحم الله أيام الإذاعة.
الإذاعة.. بوابات وظيفة
محمود تراوري
مثَّلت الإذاعة مع انطلاقتها السعودية عام 1949م، نافذة وحيدة للمجتمع يطل منها على ذاته وعلى الحياة كلها. ذكر لي أحد مؤسسي الإذاعة والتلفزيون، وهو عباس فائق غزاوي (1932 – 2005م) وكان لقبه بابا عباس، يرحمه الله، في لقاء شخصي «أن الإذاعة كونت جواً أسرياً، وجسدت التصاق الأسر بعضها بالبعض، وأحدثت بينهم تبادلاً للمعلومات والتثقّف إلى جانب التسلية والترفيه».
يومئذ، وكان هذا تقريباً قبل وفاة غزاوي بعام، كنت أقتعد كرسياً أمام مكتبه في مركز الأعمال بطريق المدينة في جدة. كان عائداً للتو من غربة السفارة بعدما عمل طويلاً سفيراً للسعودية في عدة دول، كانت ألمانيا آخرها، وأنا كنت أسترسل أسئلة وإصغاء ومشاغبة لأحد مكتشفي مطرب السعودية الأول طلال مداح، وهو يغوص بحنين رائب، في تاريخ ظل شفاهياً إلى عهد قريب، عدا اجتهاد تدوين فردي هنا وهناك حاول أن يوثق ذاكرة نشأة الإذاعة والإعلام في السعودية.
دور الأدباء في نهضة الإذاعة
قال غزاوي لافتاً إلى نقطة جوهرية تمنح الإذاعات عمقاً وقيمة وألقاً: :كان يشارك معنا نخبة من الأدباء ومنهم طاهر زمخشري وعزيز ضياء، كنا نقوم بكل الأدوار. فكنا نؤلف ونمثل أدواراً مختلفة. فمثلاً عزيز ضياء ألف عدداً من أغنيات الأطفال، وجاء بأولاده ومنهم ضياء عزيز ضياء الذي غنى أغنيته الشهيرة «أنا بدي أصير طيار»، المقتبس لحنها من أغنية «أنا قلبي إليك ميال» لحن محمد الموجي، لفايزة أحمد. وجاء بابنته دلال وهي لم تتعد السابعة، وهي اليوم مديرة البرنامج الثاني بإذاعة جدة».
كانت الإذاعة تنهض في أدائها على أكتاف الأدباء الذين أنشأوا وعياً في تلك الحقبة. ومن أهم ما يلاحَظ في هذا السياق أن الأدباء وبعض العاملين في الإذاعة استعانوا بذويهم من نساء لمشاركتهم العمل. فقد قدَّم الغزاوي زوجته نجدية الحجيلان فكانت أول صوت نسائي يظهر في الإذاعة. وقدَّم حمزة شحاتة ابنته شيرين، والعواد قدَّم ابنته نجاة، وعزيز ضياء قدَّم زوجته أسماء المزروع (ماما أسماء) وابنته دلال، وقدَّم الإذاعي بكر يونس بناته الثلاث دنيا وفاطمة وسناء.
ولعل في هذه الخطوة دلالات وإشارات جمة، تؤكد نزوع هؤلاء الأدباء إلى تقديم النموذج في بيئة محافظة يتّسم فيها سريان الوعي ببطء، لأن التاريخ حركة اتصال، شيء يموت ببطء وشيء يحيا على أنقاض ما مات ببطء أيضا!
النضج البطيء
هنا يمكننا القبض على بطء نضج إنتاج البرامج الثقافية في الإذاعة، وأظنني أعزو هذا البطء إلى فقدان تلك الرؤية التي كانت تعمل بها الإذاعة إبان نشأتها، حين كان المثقفون متعلقين بها إلى حد الارتباط الوظيفي، وهو ما تفتقده الإذاعة اليوم كثيراً، بعدما تحوّل الأداء الإذاعي من مهنة إبداعية إلى مجرد وظيفة، ورقم في ديوان الخدمة المدنية، ورقم بمثابة بوابة مفتوحة، بلا معايير ولا مواصفات نوعية، يلج من خلالها كثير من الموظفين، الذين ينجحون في قتل الإبداع الإعلامي كل يوم، وفي تحويله عمداً إلى أداء وظيفي لا يحفل إلى حد بعيد بالجودة ولا بالاقتراب أو الهاجس بالاقتراب من تخوم الإبداع.
وهذا أمر يصرف المتلقي كلياً – فيما أحسب – عن المادة التي تتوسل أن تكون ثقافية. والمخزي/المضحك في آن، أن القائمين على المادة إعداداً وتقديماً قد لا يدركون أن قالبهم التقليدي، ولغتهم النمطية ورؤاهم القديمة هي المسؤول الأول الذي يدفع بالمتلقي إلى تغيير الموجة.
التوقف عند الموجة رهن بما هو صادم ومثير وشائق، ومخاطب للعقل والروح والمخيلة في توقيت واحد. ويا لها من معادلة لا يقدر على الاقتراب منها إلا من أوتي نصيباً من الإبداع.
الصقعوب: المشكلات عديدة ومتداخلة
أكد وكيل وزارة الثقافة والإعلام لشؤون الإذاعة، الأستاذ إبراهيم بن أحمد الصقعوب، أن مشكلة البرامج الثقافية في الإذاعة
لا تنحصر في نوعها ولا في مضمونها، بل إن هناك مشكلات عديدة ومتداخلة وبعضها يرتبط بمزاج المتلقي.
وفي معرض الإجابة عن أسئلة وجهتها إليه القافلة، أشار الصقعوب إلى الجهود العديدة التي تبذلها الوزارة لرفع مستوى الإذاعة عموماً وبرامجها الثقافية خصوصاً.
• ما مشكلة البرامج الثقافية في الإذاعة من وجهة نظركم، أنتم المسؤولون عنها؟
•
في تصوري أن للمشكلة أكثر من جانب. فهي لا تنحصر في نوع البرامج ولا في مضمونها. إنها مشكلة مزاج متقلِّب لدى المستمع إلى هذه البرامج. إذ يصعب فهم مزاجه لمعرفة ما يريد. ويبدو لي أن علاقة المتلقي بالبرامج الثقافية ضعيفة. وهذا أضعف موقف معديها والمدافعين عنها في الإذاعات عموماً، إلى جانب غياب المعد القادر على توظيف المادة الثقافية في قالب جذَّاب ومتنوع، يجتذب المستمع إليها، لعدم وجود حوافز تناسب ما تتطلبه هذه البرامج من جهد كبير في إعدادها. هذه مشكلات متداخلة نسعى في حلها من طريق تشجيع المتخصصين لينضموا إلينا في هذا المجال، من أجل إعطاء برامجنا الثقافية وهجاً يشد إليها المتلقي. إنني أستغرب حينما يختفي برنامج ثقافي ولا نجد من يسأل عنه، وكأنه مقطوع من شجرة، لا بواكي عليه. بينما نجد المهتمين بالأدب الشعبي يحاسبون الإذاعة على أي نقص يصيب برامجهم. ومع ذلك فلم تغفل الإذاعه البرامج الثقافية وأفردت لها مساحة معقولة، من وجهة نظري، نحاول فيها أن نختصر المسافه بين الواقع والطموح.
• أين نجد الثقافه في برامجكم؟
•
حينما أستعرض قائمة البرامج في الإذاعة، أجد أننا نحمل الثقافة إلى المستمع عبر أكثر من قناة. فالأغنية بكل أشكالها عمل أدبي، وضع لبناته شاعر كتب الكلمات فبنى عليها الملحن العمل الغنائي. علماً بأن معظم الإذاعات لا تذكر اسم الشاعر وتكتفي باسم المغني أو المغنية، وفي هذا هضم لحقه الأدبي، وهذه المشكلة مرشحة للتصاعد مع تسارع إيقاع العمل الإذاعي الذي تغيَّر مع متغيرات الحياة.
والدراما الإذاعية عمل إبداعي أدبي حظ الكاتب فيه أفضل، إذ يشار إليه في بداية كل عمل، وتنقل فكرته إلى المستمع. وعلى الرغم من أهمية هذا العمل، إلا أنني غير متيقن من تطابق الأفكار في شكلها الذي يكتبه الأديب مع شكلها الذي يعده كاتب السيناريو للإذاعة. وربما شعر بعض الكتاب أن ما يريدون إبلاغه للمتلقي قد وصل ولكن على نحو مختلف عن الفكرة التي في أذهانهم.
إن هذين الشكلين جزء من هيكل البرامج اليومية في معظم الإذاعات على الرغم من أنهما لا يستوعبان إلا جزءاً يسيراً من الإنتاج الأدبي، لكن مروره عبر هاتين القناتين يوسع دائرة انتشاره.
إلى جانب هذا، لدينا كثير من البرامج الثقافية. فمنذ سنوات، والإذاعة تستضيف كل أسبوع شاعراً يقدِّم مختارات من شعره. وقد تجاوز الذين شاركوا بهذا البرنامج أربعمئة شاعر، والبرنامج ما زال مستمراً ومفتوحاً للجميع، وهذه دعوة لمن يريد الاشتراك معنا.
بعد ضم الثقافة إلى الإعلام في وزارة واحدة، بدأنا تجربة جديدة لفتت الانتباه إلى برامجنا الثقافية، إذ نقدِّم في كل أسبوع المنتدى الثقافي بالتعاون مع وكالة الوزارة للشؤون الثقافية، ويبث هذا البرنامج على الهواء مباشرة من الأندية الأدبية في مدن المملكة، ويطرح الهم الثقافي ويتابع المنتج الثقافي المحلي بكل أشكاله. وقد مرت عبر بوابة هذا البرنامج وجوه ثقافية متعددة من المدن كافة.
وهناك برامج أخرى قد يطول الحديث عنها تتعلَّق بمتابعة إصدار الكتب الحديثة وتسليط الضوء على الإنتاج الثقافي السعودي.
• كيف تقيِّمون تجاوب المستمع مع هذه البرامج؟
•
إن حضور الإذاعة الثقافي جيد. فقد وضعنا في برنامجنا العام مساحة معقولة للتواصل مع المجتمع الثقافي، لكننا ندرك أننا في زمن الفضاء المفتوح والخيارات المتعددة وضغوط الحياة اليومية وواقع الأمة الموشح بالأسى، كل هذه العوامل تشتت ذهن المتلقي. وعلينا ألا نبالغ في طموحنا لكسب المستمع كل الوقت، وإنما نركِّز على كسبه بعض الوقت. وإن حدث لنا ذلك، نكون قد خطونا خطوة جيدة علينا أن نحافظ عليها.
• ماهي الهموم التي أخذت الإذاعة على عاتقها التعبير عنها؟
•
إن معدي برامج الإذاعة ومقدميها من أبناء هذا المجتمع، وهم يمثلون شرائحه المختلفة. وبالتالي، فإن طرحهم هو صورة لتطلع أبناء هذا المجتمع وهمومهم، أو هكذا يفترض. وأعتقد أن برامج الإذاعة بوضعها الحاضر انتقلت إلى ملامسة هموم المواطن واهتمامه بواقعية، وصار بإمكانها أن تتعمق في الطرح المسؤول الذي لا يبحث عن الإثارة الإعلامية، ولكنه يساعد المواطن وينقل همه وتطلعه إلى صاحب القرار. وبالتالي، أصبحت معظم برامج الإذاعة قريبة من المواطن. وهناك تواصل بينها وبين المستمعين، وهذا دورها الطبيعي الذي يجب أن تقوم به وأن تحافظ عليه، حتى تحفظ موقعها في المجتمع. وهي بهذا العمل لا تتفضل على مستمعيها وإنما تؤدي دورها الطبيعي.
• هل ترى للثقافة موقعاً مميزاً على خارطة البرامج الإذاعية؟
•
أتمنى لو كانت الإجابة عن هذا السؤال إيجابية. إن الاهتمام بموقع الثقافة لا يختلف عن واقعها في حياة المستمعين الذين انشغلوا بأشياء كثيرة وانفتح عليهم الفضاء بسيل خيارات متعددة. وبالتالي، لم يعد النتاج الثقافي كل همهم، ويصعب أن تضع الإذاعة البرامج الثقافية في وقت ذروة الاستماع، ولكننا نبحث لها عن مكان مناسب على خارطة برامجنا الإذاعية.
• تحدثت عن المعدِّين وعن الحاجه إلى المبدعين منهم، ما هي قنوات التواصل المتاحة مع الإذاعة؟ هل لديكم حوافز لاستقطابهم؟
•
قنوات التواصل مفتوحة مع الجميع. الدورات الإذاعية تتجدَّد أو نحاول تجديدها، وفي كل ستة أشهر ينضم إلينا معدون جدد. ونوجه الدعوة عادة من خلال الأندية الأدبية والجامعات والمؤسسات الثقافية، وندعو الجميع إلى تقديم أفكارهم ومقترحاتهم، ونجد تجاوباً طيباً. ولعل المتابع لبرامجنا يلحظ التجديد المستمر في أسماء المعدِّين والبرامج مع كل دورة إذاعية. فالتجديد لم يعد أمراً ثانوياً في العمل الإعلامي، بل أصبح أمراً ملحاً حتى تحافظ أي وسيلة إعلامية على موقعها في منظومة الإعلام المتسارعة الإيقاع. أما عن الحوافز، فهناك دراسة لزيادة مكافآت البرامج. وهي تحظى باهتمام معالي وزير الثقافة والإعلام مثلما حظيت سابقاً باهتمام أصحاب المعالي، الذين تولوا وزارة الإعلام، وأرجو أن ترى النور قريباً. لأن المنافسة الشديدة بين محطات الإذاعة والتلفزيون تفرض الإسراع في زيادة التعرفة حتى تتحول إلى عامل جذب لاستقطاب العناصر المتميزة.
• كيف ترى موقع الإذاعة اليوم مع تعدد الخيارات؟
•
على الرغم من أن الإذاعة سبقت كثيراً من الوسائل الإعلامية الأخرى، إلا أن العمر لا يشفع لها. فمحتوى كل وسيلة إعلامية هو الذي يحدِّد موقعها. فقد ارتفع مستوى وعي المستمع وأصبح يفرز المحتوى ويقرأ ما خلف الكلمات. عندما نخطِّط لبرامجنا ندرك أن منافسة شديدة تحيط بنا. ولذلك نعين الهدف ونسعى في الوصول إليه. لدينا فريق عمل متحمس، وفي تصوّري أن الذي يشعر بعدم قدرته على المنافسة يصبح عبئاً على الجهاز الذي يعمل فيه. فالعمل الإعلامي تجديد دائم لا يعرف التوقف.