حياتنا اليوم

الإنسان في حضن التجربة

  • shutterstock_85872616
  • shutterstock_47207461

ما من شك في أن التجارب تصنعنا، بل إن الذات الإنسانية لا تعدو في مرحلة متأخرة من مراحلها أن تكون ركاماً من التجارب الإنسانية، السلبية والإيجابية، التي على قدر تفاوت نسبة السلبي إلى الإيجابي منها، وعلى قدر موقف الفرد منها، تتشكل شخصيته ومواقفه من الحياة والناس، على نحو مغاير للآخرين، وعلى قدر غلبة الإيجابي على السلبي أو السلبي على الإيجابي في شخصية الإنسان تتشكل توجهاته في الحياة: من يحب, ومن يكره, وماذا يحب, وماذا يكره, وما الذي بوسعه أن يفعله: تفاصيل كثيرة ذات علاقة بالخط البياني لنمو الإنسان وتشكله عبر تجاربه، يضع أيدينا عليها فريق القافلة في رحلة استكشافية عبر مراحل حياة الذات الإنسانية.

العلوم الإنسانية والطبيعية أسهمت في تحليل الذات الإنسانية واستكناه تجاربها وسلوكها ودوافعها
للمرحلة التجريبية في الزواج والعمل أثر لا يستهان به في مجالات الحياة كافة

تتبدل حياة الإنسان وتختلف ظروفه، ويبقى هو نفسه تلك الذات المستكشفة التي تندهش من نفسها بنفسها. لا يكتفي بتذوق تجاربه ومشاعره الطبيعية تجاه الأشياء، فيضفي عليها من انطباعاته وخياله، ما يكسب تجربته تكاملاً تستجيب له نفسه بالرضا والرغبة في الاستمرار، أو العكس. وتمتلئ نفس الإنسان بهجة عندما تأتي بداية تجاربه مرضية لأحاسيسه وخياله. لكن الإنسان قد يتخلى حيناً من الدهر عن التفكير العقلاني ويلقي حبل الأمور على غاربها، فتسرق التجارب وقته. نعم قد يدرك الكثير عن نفسه حينها، لكن بعد فقدان الكثير.
ولقد قدم لنا أكثر من علم إنساني وصفات لتجارب نافعة في حياتنا، بل إن العلوم الطبيعية نفسها أسهمت في تحليل الذات الإنسانية واستكناه تجاربها وسلوكها، فعلى سبيل المثال، هذا علم الكيمياء، يشرح لنا كيفية توافق الخاطبين، أيضاً علم الاقتصاد يسهم أحياناً في مساعدتنا على إقامة بعض الحسابات والتوازنات ذات الصلة بذواتنا وعلاقاتنا بالكون وبالآخرين. ولا يعني هذا أن بوسعنا أن نضبط كل شيء في حياتنا أو نخضعه للعلم، فأحياناً تتضارب مشاعرنا وأحلامنا إثر اصطدامها بما نحصل عليه فعلياً، فنفقد حاسة الصواب وتلتبس علينا الحقيقة والأوهام. ومهما كانت النتيجة مرة أو حلوة، فالنهاية هي عبارة عن تجربة تُضاف إلى كتاب حياتنا المليء بالتجارب.

القلب والعقل كفتا الميزان اللتان تدلان على نمط الشخصية، وبهما تتفاوت التجارب من شخص لآخر، بهما نصبر ونواجه، وبهما نتجاوز عتبة الرهبة من الوقوف عند التجربة الأولى، إذ مهما تكررت المواقف فلا يتكرر الصراع مع الذات في رحلة إثبات الوجود بالقوة نفسها. إن مقدار الوقت الذي تتطلبه كل تجربة حتى ننضج وتكتمل شخصيتنا هو ما يميزها عن بقية التجارب التي تليها. ولقد وضع علم النفس الاجتماعي قواعد لأنماط الشخصية المختلفة من حيث كيفية مواجهتها للعوائق وإنهاء كل الأمورالمتعلقة بالتجربة التي تعيشها والانتقال إلى التجربة التي تليها.

ولعل أهم التجارب الإنسانية التي يمر بها كل فرد من المنظور البشري هما تجربتا الارتباط العاطفي، والمرحلة التجريبية لتسلم العمل. تكمن أهمية هاتين التجربتين في الجوانب الشرعية والتربوية المتعلقة بهما، وما يتبعهما من جوانب اجتماعية، مالية وقانونية. ولذلك شرعت العادات والأعراف الاجتماعية فترة زمنية تختلف تسميتها من مجتمع لآخر، ولكنها تتطابق في أهدافها. وهي اختبار توافق الذات مع الآخر، سواء في اختيار شريك العمر أو شريك المال والعمل. وللمرحلة التجريبية في الزواج، المتمثلة في فترة الخطوبة، والعمل أثر لا يستهان به في مجالات الحياة كافة، العملية والعاطفية، إذ تختزن نتائج هذه التجربة، الإيجابية أو السلبية، في العقل الباطن، وعلى الفرد التعامل معها بنضج ووعي مهما كانت درجة فشلها.

عاطفة تحت التجربة
شعور الرهبة هو أول ردود الفعل البشرية في أثناء الفترة التجريبية في سنوات الزواج الأولى، وفي معظم الأوقات تلتبس مشاعر الخوف والريبة بمشاعر الدهشة والإعجاب. ويشعر المتزوجون بنشوة غريبة حول أمور بسيطة جداً وروتينية لا يتجاوزونها ظناً منهم أنها الحب. وعندما يبدأ الإدراك باستقبال الحقائق تبدأ مرحلة التقييم الحقيقية التي غالباً ما تتزامن مع قدوم الأبناء أو بعدهم. وعلى قدر ما تتفاوت نتائج التقييم الحقيقية عن الفترة التجريبية الأولى تتباين الدروس الحياتية بين الإيجابية والسلبية. أما بالنسبة لأداة هذا التقييم فهي الحواس التي تمتلك القدرة على تجريد موضوعاتها وتكوين الانطباعات العقلية الحقيقية، فضلاً عن ذلك فهي تكشف للإنسان عن الآخر أكثر مما تكشفه آراء الآخرين ووجهات نظرهم، إلا أن الحواس غير كافية لأخذ القرار بالانفصال إذا كانت نتيجة التقييم سلبية.

هنا يجدر التنويه بحكمة الخالق سبحانه و تعالى بأن شرع الطلاق التجريبي «الرجعي»، وهو بوصفه مهلة شرعية يحمل في طياته قمة الحكمة في قوانين نص عليها القرآن لتلبي جميع الحاجات الفقهية. ففي الطلاق التجريبي تتهيأ للزوجين الظروف المثالية لتقييم التجربة الإجمالية للزواج قبل حصول الطلاق الشرعي وما يتبعه من عواقب تزيد من الأمور تعقيداً ويمنع صاحبه من التفكير الإيجابي السليم في محاولة للإصلاح وتحاشي أبغض الحلال. وهذا التواصل بين الزوجين اللذين وقعت بينهما جسور التواصل لن يتواصلا إلا إذا تهيأت الظروف لهما لمرحلة تجريبية أخرى، وهذه الظروف هي استعداد كل زوج وقابليته لتحسس إيجابيات الآخر وإدراك معالم العلاقة التي ربطت بينهما.

المرحلة التجريبية في العمل
من المرحلة التجريبية في الحب ننتقل إلى المرحلة التجريبية في العمل، التي على عكس المتوقع، تستنزف طاقة معنوية هائلة تتخطى الطاقة المطلوبة في الزواج وأكثر. إلا أن مدى التفاني والإخلاص والعمل يختلف من شخص لآخر.

وبهذا نجد بعضنا يكد ويعمل ولكنه في الحقيقة بعيد عن المتوقع منه، نتيجة لإدراكه المتقوقع. وهناك، أيضاً، من يقضي هذه الفترة فقط لكونها إجراء طبيعياً، وفي هذه الحالة لا يتوقف صاحب التجربة ليتأمل ما يدور من حوله، وهو بذلك يحرم نفسه والآخرين من فرصة الحصول على التجربة الحقيقية. وقد ينظر بعضهم إلى الفترة التجريبية بوصفها واجباً لا بد من الانتهاء منه من دون تركيز أو تأمل، فيما ترى آخرين يعيشون تحت الضغط ولا يتوقفون عن التأمل وتحصيل الدروس. وآخرون نراهم يعيشون في الوسط يستمتعون بحياتهم يومياً بعد الانهماك في العمل. كل ذلك لا يُعد كفاية للحصول على النتيجة المرجوة من المرحلة التجريبية. وهنا مجدداً يبرز دور علم نفس العمل وعلم النفس الاجتماعي في تحديد أنماط الشخصية وفقاً تفاعلها مع مهام العمل المختلفة وتعاملها مع زملاء العمل ومرؤوسيها.

وللمرحلة التجريبية قبل التثبيت في العمل شقان رئيسان: أحدهما قبل التثبيت وهو ما ينكب عليه علم نفس العمل التنظيمي، من أجل تعريف قدرات الفرد في مكان العمل وتقييمه، ومن ثمَّ تحديد مهامه والأهداف المطلوب منه تحقيقها، إضافة إلى تأثير بيئة العمل فيه وكيفية تفاعله مع أساليب الإدارة، ومدى تأثير العوامل الخارجية في نسبة إنتاجه.
الشق الثاني يتعلق بمرحلة ما بعد التثبيت، أي بعد أن يتعدى أداء الفرد الحد الأدنى للقبول، وتكمن أهمية هذه المرحلة في تحديد موقع الفرد بالنسبة لهيكلية العمل وفي السلم الوظيفي، كما تساعد في تحديد نوع الحوافز التي يستجيب لها أكثر، والدعم الذي يحتاج إليه، إضافة الى أولوياته الشخصية وتأثيرها في تحقيق أهداف الشركة، وكذلك نوع المشاكل الصحية والنفسية التي قد تصيبه نتيجة ضغط العمل المزمن المرتبط بمتطلبات العمل. كما يفسر هذا الشق إفادات الترقية وتحديد الموظفين الذين يحتاجون إلى مزيد من التدريب أو التوجيه ومن يمتلكون الكفاءات المناسبة لملء الوظائف العليا.

وتضع المرحلة التجريبية للعمل الموظف الجديد تحت إشراف الهيئة الإدارية، فيما تتم مراقبة سلوكه الفردي والعملي تحت إشراف مديره المباشر، الذي بدوره يراقب أداء الموظف ويثبت مدى صلاحيته للقيام بمهام الوظيفة المكلف بها، وما إذا كان جديراً بالاستمرار فيها. فبعد هذه المرحلة التجريبية يتم إنهاء خدمات الموظف أو نقله إلى وظيفة أخرى تلائم قدراته الملحوظة. وفي هذه المرحلة تحديداً يُطابَق أداء الموظف مع شروط المؤسسة التي تُشكل مرحلة تصفية ثانية بعد تقديم السيرة الذاتية. أما بالنسبة للموظف نفسه فهو في أثناء هذه التجربة يستشف من صفاته الشخصية ما يساعده على التعامل مع الآخرين وتخطي المشاكل والخلافات، سواء الناتجة من طبيعة العمل، أو لعلة إدارية ما. كما أن لهذه المرحلة جانباً تطويرياً يساعد الموظف على تطوير قدراته ومهاراته حتى تمكنه من تحمل المسؤولية والإبداع وتطوير الذات، والتأكد من قدرته على تحمل أعباء الوظيفة العامة وما تتضمنه من حاجة إلى معرفة أصولها، وشروطها وأحكامها، وليعرف حقوقه وواجباته الوظيفية، وكذلك ليتسنى له فهم أهداف المؤسسة التي يعمل بها ليسهل عليه تنفيذها.

وللفترة التجريبية قبل التثبيت في العمل أسس موضوعية تُعد الأعدل في إعطاء الموظف حقه على أساس العدالة الاجتماعية والمدنية، بعيداً عن نظام الوساطة والمحسوبية البالي. كما أن الترقية الوظيفية في هذا النظام تخضع لتقييم الأداء السنوي وليس للتزلف الاجتماعي وغيره من المعايير غير السوية.

ولهذا العدل في طرق اختيار الموظف الذي تتم ترقيته وفق شروط الكفاءة وحسن السيرة والسلوك، الأثر الكبير في قيام الموظف بأداء واجباته بأمانة، وعلى قدر عال من المسؤولية والامتناع عن استغلال الوظيفة لتحقيق المصالح الشخصية.

أضف تعليق

التعليقات