استكمالاً لقضية الأغنية الشبابية وواقع حالها في الوطن العربي، التي كنا قد نشرنا في العدد الماضي الحلقة الأولى منها، ننشر هنا الحلقة الثانية والأخيرة التي نستعرض فيها واقع الأغنية الخليجية واتصالها بالجمهور، وتشابكها مع منظومة القيم الاجتماعية والثقافية..
فخلوّ ساحة الغناء الخليجي من ظاهرة مغنيات الاستعراض قد يكون مطمئناً، إلا أن ذلك لا ينفي وجود خللٍ لافت في واقع الأغنية الخليجية التي باتت مهدَّدة – ومهدِّدة – بمأزق اجتماعي ذي صلة وثيقة بالثقافة والموروث، وبموقع الفنّ من الصناعة الإعلامية الشائكة، وبجوهر الفنّ وأثره وتأثره بالواقع الإنساني في هذه المنطقة من العالم العربي.
الأغنية الخليجية: ثقافة المجتمع تفقد سيطرتها!!
حبيب محمود
عبدالله المغلوث
لا يمكن فصل الأغنية الخليجية عن الأغنية العربية على نحو عام، تبعاً لما تشترك فيه المجتمعات العربية من مشارب اجتماعية وثقافية متقاربة، إلى حدّ التشابه، على الرغم من وجود اختلافات واضحة بين منطقة وأخرى من البلاد العربية. وتبعاً، أيضاً، لتأثر الأغنية، في منطقة الخليج العربي، بالأغنية العربية منذ بواكير تطورها في الخمسينيات من القرن الماضي. وكون الأغنية الخليجية جزءاً من الأغنية العربية فإن من المنطقي، خاصة من الناحية الاجتماعية والفنية، أن تغلب ملامح الكل على الجزء، فتتأثر الأغنية الخليجية بما تأثرت به الأغنية العربية، وتؤثر في مجتمعها على نحو لا يختلف كثيراً عما أثرت به الأغاني العربية في محيطها العام.
المفهوم مشوشٌ أيضاً..!
وفيما يخص مفهوم الأغنية الشبابية، في منطقة الخليج العربي، فإنه كان ولا يزال مشوشاً على النحو الذي بلغ في الأغنية العربية أيضاً، إذ إنه لا يعكس معنى التجديد تحديداً في كل الأحوال، كما لا يعكس معنى أن يكون المغني شاباً، كما لا يعني أن الجمهور محصور في جيل الشباب، فربما اختلط كل ذلك أو تفرق في فهم فئة أو أخرى من أبناء الخليج..!
وبالنتيجة فإن فنّ عبدالله فضالة (الكويت) ومحمد زويّد ومحمد فارس وراشد الرفاعي (البحرين) وحارب حسن ومحمد سهيل (الإمارات)، وعيسى الأحسائي (السعودية) وغيرهم، لم يكن فناً محصوراً في كبار السن في الأربعينيات والخمسينيات. وحين تلاه فن طارق عبدالحكيم وعبدالله محمد وفوزي محسون (في السعودية) وعوض الدوخي وشادي الخليج (الكويت) وأحمد الجميري ومحمد حسن (البحرين) وجابر جاسم (الإمارات) في الستينيات والسبعينيات؛ باستخدام آلات موسيقية متعددة في توزيع الأغنية وابتكار الألحان، فإن المسألة لم تبدُ شبابية أو كهولية في جوهرها، بقدر ما عكست تطلّع الأغنية في منطقة الخليج إلى اللحاق بالأغنية العربية الناهضة والبارزة في مصر والشام.
أفرز الأمر فناً أرقى، في الكلمة واللحن والأداء، من أغاني العود و الطبلة الشعبية التي كانت رائجة قبل النفط. ولكن ذلك لم يحل دون استمرار الأغنية الشعبية، وإلى حد واضح حافظ عليها عدد من المطربين أمثال: محمد الجنوبي وحجاب عبدالله وبدر الغريب وسلامة العبدالله، وميحد حمد، ومزعل فرحان، وخالد عبدالرحمن.. على تفاوت واضح بين مجايلي الأغنية الشعبية..!
التطلّع الجديد قاده مطربون وملحّنون متّحدين بجمهور أسهمت الإذاعة والتلفزيون والمسارح في صناعته؛ ليتعاطى مع الأشكال الفنية المتعددة، من دون أن نتجاهل تأثير الفن الغنائي العربي في الجمهور، ناهيك عن تأثر الفنانين أنفسهم.
من الفلكلور
وإذا كان من الطبيعي أن تفرض ثقافة المجتمع وقانونه نفسيهما على الفن في أي مكان من العالم؛ فإن أولى مفردات الثقافة الاجتماعية، في هذا الصدد، هو الفلكلور الذي مثل – وما زال يمثل – عمقاً واضحاً في الأغنية الخليجية من ناحية الكلمة والإيقاع، وإلى حد كبير، من ناحية اللحن.
هذا ما نلحظه ـ مثلاً ـ في الموال وأغاني البحر الكويتية والبحرينية، كما نلحظه في أغاني البيئة البدوية في الأغاني السعودية. لقد داعبت رائحة البحر وجد البحريني والكويتي والقطري. وحرّك السامري طرب ابن الصحراء، بالقدر الذي نفذ أثر الإيقاع اليمني إلى مشاعر ابن تهامة أو عسير. ويُقاس ذلك على أبناء ساحل البحر الأحمر حين تعزف السمسمية لحنها الحزين. والخلاصة هي أن موروث البيئة، الفني والأدبي، انعكس على الأغنية في منطقة الخليج، فاجتذب إليه الجمهور الذي راحت تحفّظاته على الموسيقى والغناء تقلّ حدة بانتشار المذياع والتلفزيون.
الإذاعة.. صانعة الجمهور
حين جاءت الإذاعة إلى منطقة الخليج، في أربعينيات القرن الماضي، وجد المطربون طريقهم الفعلي الأول إلى جمهورهم. وقبل ذاك كان الطريق وعراً وشائكاً ومحكوماً بصرامة اجتماعية مُحرجة.
في هذه المرحلة تأسس الجمهور الحقيقي للأغنية في منطقة الخليج العربي. وراحت تفرض هذه الوسيلة السحرية خليطاً – أو مزيجاً – من الفنون الغنائية العربية الشرق أوسطية إذا جاز القول، وهذا المزيج كوّن، بدوره، خليطاً من الأذواق والتفضيلات. ومع بروز المواهب المحلية الناشئة إلى جانب المطربين المعروفين عربياً في ساعات البث الإذاعي؛ أخذت الأغنية الخليجية تتشكل، وتظهر أسماؤها.
وهنا يجب أن نلتفت إلى جدية وصول الفن الغنائي إلى الناس، وصولاً قابلاً للتفاعل بالثقافة الاجتماعية، فبعد أن كان الفنّ مرفوضاً بالعموم تقريباً، صار يتسلل إلى المجتمع شيئاً فشيئاً حتى صُنعت النجوم أمام الجماهير.
حالة منافسة
لعل في قطبية طلال المداح ومحمد عبده والمنافسة الواضحة بينهما أحد الأدلة على ما يمتلك المطربان من نجومية بين الناس. فقد انقسم الجمهور السعودي بين الرجلين سنواتٍ طويلة، إلى الحدّ الذي يمكن التقاطه في رأي مهم لفنان بحريني هو خالد الشيخ، وذلك حين وصف نفسه بأنه يسمع محمد عبده بعقله ، وطلال المداح بقلبه ..!
لم تنحصر المنافسة في من يسمع لهذا أو ذاك، أو يشتري ألبومه الجديد أو القديم من الجمهور، بل فيمن يكتب له ويلحّن أيضاً. إذ أغرى النشاط والتنافس على التفوق حتى كبار الشعراء والملحنين المعروفين في منطقة الخليج، ليكتبوا ويلحنوا للمطربَين اللذين كان أحدهما أستاذاً للآخر.
وهذا بدوره استتبع تنوعاً في لغة الأغنية، ليس في أغاني السعوديين فحسب بل في الأغنية الخليجية عموماً. فظهرت أسماء شعراء مهمّين في أغاني المطربين، ومنهم شخصيات بارزة، أمثال: الشيخ زايد آل نهيان، والأمير عبدالله الفيصل، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والأمير خالد الفيصل، والأمير بدر ابن عبدالمحسن، والأمير عبدالرحمن ابن مساعد، علاوة على شعراء مارسوا كتابة الأغاني مثل أحمد قنديل، وطاهر زمخشري، وأحمد العدواني وإبراهيم خفاجي وغنام الديكان وفائق عبدالجليل.
جديد يحترم القديم
حالة المنافسة، كما هو واضح، تشير إلى شعبية الأغنية، وبروزها ضمن الحالة الثقافية، وتشير أيضاً إلى تطور على المستوى الجمالي في كلمات الأغنية. فمثلما طرب الجمهور إلى النصوص الكلاسيكية في أغنية مثل دستور لمحمد عبده أو لا لا يالخيزرانة لطلال مداح؛ فإنه فوجئ أيضاً بالتعابير الجديدة في أغنية لا تردين الرسايل لعبده و زمان الصمت لمداح، بل واستثارته أبعتذر لعبده نفسه وهي من الأغاني الطويلة، إلى جانب أغانٍ شعبية أداها المطربان.
هذه مجرد أمثلة على حالة التنوّع التي تميزت بها الأغنية السعودية، حتى على مستوى المطرب الواحد. وفي دول الخليج الأخرى يمكننا ملاحظة التنوع ذاته. ولعلّ خالد الشيخ أكثر المطربين والملحنين جمعاً للتراث والحداثة في أعماله الفنية، إلى حدّ المفارقة الحادة، فقد وظف نصوصاً غنائية من الفلكلور الشعبي إلى جانب نصوص كتب بعضها أدونيس..! ولم يكتفِ الشيخ بما أفرزته بيئته البحرينية، بل طال اهتمامه الفلكلور اليمني في نصوصه الغنائية. ويمكن الجزم بأن عقد الثمانينيات كان مرحلة مفصلية في انفتاح الغناء الخليجي على غيره من الفنون العربية، أكثر مما كان عليه في العقد الذي سبقه. ففي الثمانينيات برزت أسماء جديدة وتطوّرت أسماء كانت موجودة تطوراً لافتاً، أمثال: عبادي الجوهر وعبدالمجيد عبدالله ومحمد عمر وعلي عبدالكريم في السعودية، وعبدالله الرويشد ونبيل شعيل في الكويت، وعلي عبدالستار في قطر.. وهذا على سبيل المثال ليس أكثر..!
إلى الأغنية المصورة
من الواضح، في هذا العرض، أن للجمهور الخليجي موقعاً وموقفاً من الفن، ويجدر التثبت من أن الجمهور كان يسمع الأغاني ويتفاعل معها على أنها كلمة ولحن وأداء، وفي هذا المثلث الفني تباينت المستويات، تبعاً لتعدد وتفاوت المدارس في الفن نفسه.
وبطبيعة فن الغناء، ليس هناك أغنية تُرى أو تشاهد. ولكن حين وصلت الأغنية إلى مرحلة المشاهدة، في التلفزيون تحديداً، فإن ذلك كان شكلاً منسوخاً عن الشكل المسرحي، ومضافاً على الشكل الإذاعي. فصار بإمكان الناس أن يشاهدوا المغني في التلفزيون بدلاً من أن يذهبوا إلى المسرح، أو ينتظروا حتى يقيم أحد الأثرياء حفلاً غنائياً في عرسه..!
المطربون الكويتيون سبقوا مطربي الخليج الآخرين إلى الظهور التلفزيوني، وإلى تقديم الأغنية المصوّرة أيضاً. وبالتالي صنعوا مفهوماً جديداً للأغنية نقلاً عما وصلت إليه الأغنية العربية في مصر وسوريا ولبنان. وأسهم التقنيون القادمون من هذه البلاد للعمل في الكويت في الصناعة التلفزيونية الرسمية، من برامج وأعمال درامية وأغان. إلا أن البداية، في الأغنية المصورة، كانت على شكل مقبول اجتماعياً؛ إذ ظهر المطربون من داخل الاستوديوهات بعد تدخل مصممي الديكور. ثم ظهرت أغانٍ بمرافقة كورال من الرجال، ثم ما لبث التسجيل أن أضاف بعض النساء إلى الكورال، ليمهد لدور أكثر جرأة في مرحلة تالية بظهور النساء الراقصات..!
ومن المهم الالتفات إلى التحفظ الشديد الذي ظهرت فيه الراقصات في الأغاني الكويتية التلفزيونية الأولى. فبعضها كان ساذجاً حدّ الطرافة، كتلك التي غنى فيها عبدالكريم عبدالقادر إحدى أغنياته وظهرت فيها امرأة ترتدي فستان زفاف كاملاً، في حين لا تشير كلمات الأغنية إلى ما يمت للزفاف بصلة..!
ومن جهة أخرى؛ كانت الملابس الكلاسيكية الخليجية النفانيف تراعي العرف الاجتماعي إلى حدّ كبير، كما أن أسلوب الرقص اتسم بكثير من الحشمة قياساً بما نشاهده اليوم في أغاني الفضائيات..!
الأغاني المصوّرة، بالأسود والأبيض في الستينيات وأوائل السبعينيات؛ وعلى ما فيها وعليها من تحفظات اجتماعية وثقت جزءاً عريضاً من الذاكرة الخليجية، وجداناً وفلكلوراً ولغة، علاوة على اتصالها بتطورات الواقع والتغيرات المختلفة، وتحلّيها بقدر كبير من احترام مفردات البيئة المتوارثة في أخلاقيات المجتمع الخليجي المحافظ. وحين دخلت الألوان إلى الشاشة الخليجية، في السبعينيات، حافظت الأغنية على المسافة التي تفصلها عن المجتمع، لتُسهم الأغنية المصوّرة في انتشار الأغنية وصناعة صلة أكثر وضوحاً بين المغني والمستمع، من خلال التلفزيون..!
منحى تجاري..!
ولم يكد عقد الثمانينيات يودّع عامه الأخير، حتى أخذ مصطلح فيديو كليب يؤسس نفسه للتعريف بـ الأغنية المصوّرة ، زاحفاً صوب أغاني الشاشة، إلا أن كون التلفزيونات الخليجية رسمية تابعة للحكومات حال دون تمرير هذه الصرعة إلى المشاهدين، ولذلك تأخر انتشار الفيديو كليب إلى عقد التسعينيات بظهور الفضائيات الخاصة. وهو العقد نفسه الذي ظهرت فيه محطات الإذاعة الخاصة أيضاً على موجات (الإف إم)، لتأخذ صناعة الأغنية منحى تجارياً غير مسبوق في تاريخ الفن في منطقة الخليج العربي.
وكان من نتائج ذلك أن حققت الأغنية الخليجية اختراقاً جغرافياً إضافياً على ما حققه طلال المداح ومحمد عبده وشادي الخليج وغيرهم في المراحل السابقة. فقد ذاعت أغان بعينها متحررة من لهجاتها المحلية الصرفة. ويشعر الإماراتي سالم الخالدي بالزهو عندما يُشار إلى أغنية رهيب التي كتبها الخالدي ليغنيها السعودي عبدالمجيد عبدالله. وقد كان لهذه الأغنية دور في تناسل الأغاني التي تعتمد على مفردات سهلة يستطيع فهمها والتفاعل معها الخليجي والمغربي مروراً بالمصري والسوداني واللبناني والسوري والأردني وغيرهم. نجاح رهيب أدى إلى استغلال النعوت في القاموس العربي وتوظيفها بشكل مستساغ وغير مستساغ أحياناً في الأغنية بحثاً عن الشهرة السريعة.
تكريس الصورة
وعلى الرغم من أن نجاح أغنية رهيب وأمثالها كان معتمداً على كونها مسموعة في الأصل، فإن عقد التسعينيات كرّس حقائق صعبة في واقع الفن عموماً. ولعلّ أصعبها هو ذلك الجدل الذي بقي مستمراً في الاعتراف بـ الفيديو كليب أو إنكاره من الناحية الفنية والأخلاقية. وهو الجدل نفسه الذي ساد المجتمعات العربية.
مع الإقرار بإسهام الفيديو كليب الفاعل في انتشار الأغنية الخليجية على مستوى الوطن العربي إلا أن بعض رموز الأغنية الخليجية، راحلين ومعاصرين، يعتبرونه سبباً في هبوط الأغنية. وما يراه الشاعر الشهير إبراهيم خفاجي في هذا الصدد يحمل الكثير من الدقة.. فهو يرى أن: الفيديو كليب أدى إلى انحدار ملموس في مستوى الأغنية الشبابية، ولم يعد التركيز كما كان سابقاً على الكلمة واللحن بقدر الاهتمام بالأجسام التي تهتز أمام العدسات . وخفاجي هو كاتب كلمات النشيد الوطني السعودي، ويحمل خبرة تربو على نصف قرن في كتابة الأغاني التي أداها ولحنها عدد كبير من رواد الفن الخليجي.
لكنّ هذا الرأي لا ينسجم ورأياً آخر لملحن شاب هو صلاح الهملان الذي قدم أعمالاً لمطربين سعوديين منتشرين، وحقّقت ألحانه نجاحاً بين الجمهور، مثل: ياناسينا، تضحك الدنيا، حبيت أسلّم عليك بصوت راشد الماجد، و هكذا الدنيا تدور التي غناها عبدالمجيد عبدالله، و وجه الخير بصوت جواد العلي وغيرها. فالهملان لا يرى غضاضة في انتشار الفيديو كليب بتركيزه على مضمون الأغنية.. ويقول: العمل المدهون بالكلمة المعبرة البسيطة واللحن المبتكر سيصل إلى المتلقي ويحقق النجاح المنتظر .
دعاية وإعلان..!
ومن ناحية ما، يبدو الاختلاف مسألة بين جيلين نشأ أقدمهما على تذوق المغنى في حين تفتّح الآخر على ربط الصورة بالكلمة. بيد أن واقع المسألة يتخطى ذلك بكثير ليطولَ المسألة الاجتماعية فيما تحترمه من ثقافة وموروث.
لقد أصبح المشاهد الخليجي هدفاً لأكثر من عشرين قناة فضائية خاصة بضاعتها الوحيدة، تقريباً، هي أغاني الفيديو كليب التي تنتجها شركات الإنتاج وترعى بثها شركات تجارية رعاية إعلانية في الغالب الأعم. ومن أجل أن تنجح القناة في جذب المشاهد والمعلن؛ فإن رهانها يتركز على جعل الأغنية جزءاً من عملية استعراضية بصرية أكثر مما هي كلمة معبرة ولحن جميل وأداء متمكن. وعلى الرغم من أن التقنية قد أوصلت الأصوات الباهتة إلى المستمع من خلال تدخلات مهندسي الصوت ومشغلي الآلات الحديثة؛ فإن المطربين المتمكنين، أنفسهم، قد طالهم إغراء الفيديو كليب وهرولوا إلى الصرعة عن طيب خاطر..!
واقع تلفزيون الواقع..!
وقد يصحّ القول بأن الألفية الجديدة التي بلغنا منتصف عقدها الأول احتضنت تناقضات حادة وغير معقولة في شأن الأغنية في منطقة الخليج. وذلك هو حال الأغنية العربية في المرحلة الزمنية ذاتها. وقد يُطمئن خلوّ ساحة الغناء الخليجي من ظاهرة روبي ونانسي عجرم وهيفاء وهبي وغيرهنّ من مغنيات الاستعراض؛ إلا أن ذلك لا يبرّئ ساحة المطربين الخليجيين الذينَ لم يتحرجوا من جرّ الاستعراض إلى أغانيهم المصوّرة جراً غير مبرر..!
وعند الحديث عن الأغنية الشبابية لايمكن إغفال الحالة الاستثنائية التي صنعها برنامج ستار أكاديمي في نسخته الثانية. فقد فاز بلقب البرنامج شاب سعودي، لتثير مشاركته في البرنامج جدلاً عريضاً في الصحافة والقنوات الفضائية المختلفة. فهناك من وجد أن هشام الهويش رسم صورة للشاب السعودي، مقابل من رفض هذا القول معتبراً الشاب الفائز لا يمثل سوى نفسه ويجب ألا يحظى بالاهتمام الذي حظي به . بل إن بعضهم رأى أنه لا يملك خامة صوتية ..!
والقلق الذي أفرزه ستار اكاديمي ينسحب على برامج أخرى مشابهة في إطار تلفزيون الواقع، وبعضها يذاع حالياً عبر مسميات مختلفة، لكنها تعتمد في مضمونها على تأهيل أصوات يافعة في محاولة لتصديرها إلى الساحة الفنية. وهناك من يرى أنها برامج تستهدف جيوب أهل الخليج وتدق مسماراً جديداً في نعش الأغنية، بينما يرى آخرون أن المواهب التي تقفز من أمعاء تلك الفعاليات لا تقل سوءاً عن تلك التي تهطل فجأة إلى الشاشة دون سابق استئذان..!
الأغنية السعودية:
مراحل الترقي وصولاً
إلى الشبابية
خالد ربيع السيد
انطلقت الأغنية السعودية الحديثة من تراكم موسيقي وشعري وإيقاعي هائل، حيث استقت قوالبها الموسيقية من المقامات العربية والفارسية والتركية، ونهلت شعرياً من النبع التراثي الحافل بالقصائد العربية الفصحى والعامية المتداولة والمتوارثة، واقتبست من الإيقاعات الإفريقية المتنوعة.. فموسيقياً كانت البدايات ضمن أبرز شكلين موسيقيين معروفين في القرن التاسع عشر، والمنتشرين آنذاك في مختلف أرجاء الجزيرة العربية، لا سيما في الخليج العربي وهما (الصوت) و(الحداء). وأول من بدأ بالغناء بشكله المنظم في السعودية كان المطرب المكي الشيخ حسن جاوة، المولود في العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر. وقد اجتهد في صياغة أعماله الغنائية بفعل ارتجالي مرة، وأخرى بالتصرف والابتكار، معتمداً على عذوبة صوته واتساع مساحته التي مكنته من التجريب والمحاكاة والابتداع، ولهذا نجد أن الشيخ قد استحدث بتلقائيته الفنية إيقاعات خاصة وجديدة، لم تكن متداولة آنذاك، مستمدة من إيقاعات إفريقية تعلمها على أيدي الوافدين والمقيمن في مكة من الأفارقة المسلمين، فعمل على تنويت بعضها بمساعدة موسيقيين مصريين ومغاربة، ومن ثم توقيعها في ألحان مرتكزة على المقامات الحجازية واليمنية المندرجة تحت وحدة السلم السباعي.
تطورها في الغربية والوسطى والشرقية
وعلى هذا المنوال جايل الشيخ جاوة وسار على خطاه كل من المطربين عبدالرحمن مؤذن والشيخ حسن لبني وسعيد أبوخشبة. بعطاءات فنية استمرت خلال عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، حيث كانت أعمالهم الغنائية مفعمة بروح الأصالة المحلية والابتداع والخصوصية البيئية. ومن زاوية أخرى فقد أثرت الثقافة المحافظة السائدة في تلك الفترة على انتقاءاتهم واختياراتهم الشعرية، فكانت لا تخرج إلا من توليفة رصينة من عيون الشعر العربي الفصيح الممتزج بتلوينات لطيفة من الشعر العامي البليغ المتداول حينذاك في عموم الحجاز. والجدير بالذكر، كما هو معروف أن شهرة هؤلاء المطربين جاءت من خلال التغني بقصائد المدائح النبوية، وذلك وفق طريقة حجازية متميزة، تختلف عن مثيلاتها في الشام أو مصر أو المغرب العربي.
كما ظهر في تلك الحقبة الفنية الشيخ إبراهيم السمان، المتوفي في العام 1964م والذي كان مقيماً بالمدينة المنورة، وتمكن عن طريق الاحتكاك الفني والسفر من الموشحات الأندلسية والقدود الحلبية والأدوار المصرية، وتبنى في كل ذلك الشعر الجيد من التراث العربي، مكوناً مدرسةً فنيةً غنائية راقية أثرت المنطقة وأتحفتها بالرائع من فن الغناء الأصيل.
وهكذا.. وعلى نحو عام نستطيع القول أن الأغنية السعودية أخذت في التطور شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى المطربين المجددين في مكة المكرمة والطائف أمثال: محمد علي سندي، طارق عبدالحكيم، عبدالله مريعاني وعبدالله محمد، وربما فوزي محسون، واضطلاعهم على ألوان الدانة والصهبة والمجس، حتى بلغوا مرحلة أغنية الجلسة (التخت السعودي إن صح القول)، ثم أغنية الفرقة الموسيقية الكاملة (الأوركسترالية الحديثة) المستفيدة من الغناء اليمني بقوالبه ومقاماته المتعددة وعقوده المتلونة..
وبإشارة سريعة إلى الغناء في المنطقة الوسطى من المملكة العربية السعودية، نجد أن فن الغناء قد تأسس فيها بداية من الغناء الجماعي المتمثل في أهازيج العرضة المصاحبة بإيقاعات راقصة، ومن لون (الحداء) المعتمد على الارتجال في تلحين قصائد الشعر النبطي. إلى أن تطور هذا الشكل الغنائي إلى قوالب السامري والدوسري وغير ذلك..
وإن تتبعنا على عجل مسيرة الغناء في الساحل الشرقي من البلاد فسنجد فن الغناء قد سار على ذات النهج الحجازي، مع اختلاف بعض التأثيرات البيئية والثقافية والجغرافية، متأثراً بالمقامات العراقية، والدانات الخليجية المتنوعة، ومستمداً من الألحان الهندية والإيرانية، ومعتمداً على الإيقاعات الإفريقية، حيث أخذ المطربون، في تلك الفترة من الأربعينيات والخمسينيات، قالب (الصوت) الخليجي ومزجوه بحركات هندية وتنويعات إيقاعية هندوإفريقية ، متأثرين بالفنانين الكويتين الذائعي الشهرة حينذاك أمثال: أحمد باقر، عثمان السيد، شادي الخليج، وعوض الدوخي وغيرهم من الفنانين الخليجيين في الإمارات والبحرين. ثم شرعوا في تطوير أغاني الغوص التي كانوا يأدونها عند قيامهم برحلات الغوص لصيد اللؤلؤ. حتى استقرت حالياً في المنطقة الشرقية بشكلها الحديث المعروف.
مرحلتها الذهبية
من خلال هذه النظرة التاريخية الخاطفة، نلتمس مدى الاتساع المنهلي الذي نشأت في خضمه الأغنية السعودية، فهي وليدة التأثر بمدارس موسيقية مختلفة، دائماً وفي كل مراحلها، وهي، كما نلحظ، مسايرة لأنماط التطور المستمرة من قبل مجاوريها العرب والعجم على حد سواء.. وظلت هذه الصفة تلازم تفاعل الأغنية السعودية وتناميها، مع إضفاء الطابع الموسيقي المميز الذي رسخه جيل المرحلة الثانية من الفنانين، وهي المرحلة الذهبية للأغنية السعودية التقليدية. التي نهضت على أكتاف المطربين الأكثر تأثيراً في مسيرتها، أمثال طلال مداح، فوزي محسون، محمد عبده، غازي علي، عبادي الجوهر، علي عبدالكريم، المطربة توحة، ابتسام لطفي، سعد إبراهيم، عودة العودة، محروس الهاجري وسلامة العبدالله وغيرهم. حيث تغنى هؤلاء بألحان من أخذوا على عاتقهم تمييز اللحن السعودي وفق طابع لحني معين، أمثال: عبدالله محمد، سامي إحسان، سراج عمر، عمر كدرس، عبدالرب إدريس، أبوبكر بلفقيه، محمود حلوني، عبدالقادر حلواني… وغيرهم، وترافق تواجدهم مع ثلة من الشعراء الذين تشكلت ثقافتهم الإبداعية من منطلقات بناء الذات السعودية المعاصرة المواكبة للتطور الحداثي العام الذي شهدته البلاد خلال السبعينيات والثمانينيات. وكانت تلك الكوكبة من الفنانين السعوديين متمسكة بجذور أرضها، غير غافلة الهوية الحضارية التي تميز أبناءها عن سواهم.. وهم كثر نذكرمنهم على سبيل المثال: الأمير عبدالله الفيصل، خالد مدني، غازي علي، الأمير بندر ابن فهد وفتى الشاطئ، والأمير بدر بن عبدالمحسن والشاعرة الحميمة ثريا قابل، صالح جلال، خالد زارع ويوسف رجب، والعديد سواهم.. (بغض النظر عن الترتيب).
انتصارها عربياً
تميزت الأغنية السعودية في تلك الفترة عن غيرها في أي مكان آخر وبدأت الجماهير العربية، في كل مكان، تتفاعل وتطرب للأغنية السعودية. ولا غرابة في ذلك، فقد وصلت فيها مراحل الإبداع إلى أقاصيها، وحفلت الساحة الفنية بالغناء الجميل المنسجم مع جمهوره وبيئته وحاضره وماضيه، وصار من الصعوبة الخروج على تلك النمطية بسبب النجاحات التي حققتها داخلياً وعربياً. وبسبب النشوة الفنية التي غمرت العالم العربي من أدناه إلى أقصاه بروائع الغناء السعودي الجميل، والذي ظل تأثيره وطابعه المتميز، مستمراً ومهيمناً حتى بلغ المرحلة الثالثة للأغنية مع المطربين الأكثر تجديداً وانفتاحاً ونشراً للأغنية أمثال: عبدالمجيد عبدالله، خالد عبدالرحمن، وعبدالله رشاد، طلال سلامة، راشد الماجد ورابح صقر.. وإن حافظ مطربوا هذه المرحلة على وقار الأغنية الشكلي والمضموني إلا أنها حفلت كمرحلة باجتهادات جيدة على المضمار الموسيقي (صالح الشهري)، (راشد الماجد) وبخوض تجربة الأوبريتات الوطنية (مهرجان الجنادرية)، وتجربة الدويتو (عبدالله رشاد – نوال الكويتية)، وإدخال التقنيات الإلكترونية (عبدالمجيد عبدالله)، وخوض فكرة العرض المبهر من خلال الفيديو كليب، والاشتغال على التنقيب في التراث وتقديمه في قالب حديث ومدروس. فقدم الفنان علي عبدالكريم لون المجرور والدانة في إطار متجدد ورائع.
وقد أسهمت التطويرات المستمرة إلى ترقية الأغنية الوطنية والابتعاد بها عن الأناشيد والهتافات الحماسية فانتقل بها الفنان عبدالله رشاد، مستفيداً من الأساتذه محمد عبده، وأبوبكر بلفقيه، وجعلها أغنية حميمية بحيث تصهر مشاعر المستمع الوطنية مع ذاته وتجعله يحفظها ويرددها كغيرها من الأغاني العاطفية. وخاض الفنان (عبدالمجيد عبدالله) تجارب ناجحة من خلال التعاون الخليجي مع فناني الكويت والبحرين.. وغير ذلك من الفضائل والإبداعات التي حققتها الأغنية السعودية في هذه المرحلة، ورسخت نمطها التقليدي الرائع..
الخط البياني ينحدر
ولكن بقليل من التتبع، نجد أنه منذ بداية التسعينيات، غشى الكلمة المغناة بعض النأي والبعد عن الواقع البيئي والثقافي للبلاد. وغدا التركيز على الشأن الإنساني والشعوري بشكله العام، في الوقت الذي تلاشت فيه المفردات الثقافية المتنوعة (الحياة، الأشياء، المشاعر، الخيال والرؤى) والتي كانت تبثها الأغنية السعودية في تلقائة وجمالية بالغة إبان عصرها الأروع..
وهكذا استمر الحال مع هذه المعطيات الجديدة، حتى وصلت الأغنية السعودية إلى وقتنا الحالي، الذي توسعت فيه دائرة الاغتراب البيئي عبر كلماتها، وذابت فيه الخصوصية المناطقية، والأهم من ذلك الهوية المحددة. واعترت الكلمة المغناة هالة ضبابية، بحيث صارت لا تذهب إلى تعميق الإحساس بالإنسان السعودي ككائن تحكمه ظروف الهوية الثقافية والنفسية والاجتماعية. بل إنها صارت تذهب لتنتصر إلى مشاعره الوجدانية المجردة. إلى جانب هذا وذاك نجد أن خطاب الأغنية السعودية تخصص في توجهه إلى فئة محددة من المتلقين وهي فئة المراهقين (الشباب)، متجاهلاً بذلك فئات الجمهور العريض الأخرى، فتبنت الأغنية هموم الشباب المرحلية، وصبت كامل فحواها على مشاعرهم الغضة التي لا تزال في طور التكوين، مرتكزة على استهلاك فن الرقص المصاحب دائماً (في حالة الفيديو كليب). ولهذا ونتيجة لهذه السمات الجديدة والطارئة على الأغنية السعودية، سميت الأغنية بـ (الشبابية)، فجاءت وفق التوجه الذي تتشابه فيه مع الأغنية القطرية والكويتية والبحرينية والمصرية واللبنانية في توحد يلغي الفوارق ويوائم بين مختلفاتها، مما دعا بعض النقاد والمتلقين إلى القول بأن هذا التشابه يؤدي إلى تدمير الحالة الطربية لدى المتلقي.. والتي كرسها – حسبما يدعون – ضيق المساحات الصوتية التي ظهرت مع بعض المطربين العرب في الآونة الأخيرة، والتي تحاول أجهزة التسجيل الصوتي تغطية نقاط الضعف فيها من خلال التمويه المصطنع.. كما لا يمكن إغفال الدور التسويقي الذي تلجأ إليه الشركات المنتجة للأغنية، فهي تنتهج الأساليب المعتمدة على الإبهار والتشويق والعمل على تسليع الأغنية وجعل استهلاكها يدخل في منظومة السلع السريعة الاستهلاك.
وإن التفتنا إلى مستوى الموسيقى والألحان ونوعية الآت الموسيقية المستعملة، فإننا سنجد نشوء تغيرات كبيرة تميل إلى تغريب الإيقاعات وتسريعها، وتوقيع إيقاعات الروك آند رول أو الراب أو الكنتري ، وكذلك استعمال إيقاعات عربية خاصة بدول بعينها، مثل إيقاع الوحدة ونصف، أو غيرها من الإيقاعات البعيدة عن الثقافة السعودية. ومن ناحية أخرى ذهبت الأغنية الحالية إلى الاقتباس من بعض الجمل في الألحان الغربية بشكل واضح. مما أدى ذلك، إضافة إلى المستجدات الأخرى مجتمعة، إلى بروز جيل الأغنية الحالية، والذي اصطلح على تسمية أغانيه بـ (الأغاني الشبابية) التي اشتهر بأدائها مجموعة من الشباب أمثال: جواد العلي، حسن عبدالله، راشد الفارس، فارس مهدي، سارة، أحمد الهرمي، المطربة وعد، بالإضافة إلى المحتفى به كثيراً إبراهيم عباس الذي يمتلك صوتاً جيداً سوى أنه كرر أغنية المرحلة الذهبية (عباءة محمد عبده التقليدية) تحت إطار ومقومات مصطلح (الشبابية)..
وكختام ينبغي القول إن انحياز الأغنية الشبابية، بشكلها ومواصفاتها الحالية، إلى فئة الشباب وحدهم قد يؤدي إلى مزيد من القطيعة بين الجماهير العريضة وبين ما يقدمه هؤلاء الشباب. والقطيعة لا تؤدي بدورها إلا إلى تعطيل تلك الأصوات وطاقاتها.