بيئة وعلوم

الأشعة الكونية.. مازالت لغزاً

  • 6
  • 22
  • 33
  • Lofoten Islands, Flakstadoy Island, Aurora borealis
  • Northern Lights
  • Northern Lights

عند بداية تكوُّن الأرض، لم تكن محمية بهذه الدروع المتعددة لحمايتها من اختراقات الأشعة الكونية، هذه الدروع من قبيل: «منطقة الأوزون، مناطق التأين المتعددة، وأحزمة الإشعاع، والمجال المغناطيسي للأرض» التي سلَّح الله بها كوكبنا لتقينا من الهلاك المحتوم، استغرقت – هذه الدروع – عشرات ملايين السنين لتتكوَّن، فقبلها كانت الأرض ميداناً مشاعاً لسقوط كل أنواع الأشعة الكونية، واختراق غلافنا الجوي إلى أعماق كبيرة قريبة من سطح الأرض، لتنيرها ليصبح تقريباً ليلها كنهارها من شدة التفاعلات الفيزيائية المشابهة للشفق القطبي الذي نراه اليوم. وبمرور الزمن تكوَّنت دروع الحماية لتغلف الأرض ولم يبق من آثارها إلا هذا الشفق الذي يزين ليل القطبين الشمالي والجنوبي. في المقال التالي، يستعرض مازن عبد العزيز شفيق، الباحث في قسم الفيزياء والفلك بجامعة «أوبسالا» في السويد، ظاهرة الأشعة الكونية، ويكشف المزيد من أسرارها، والمصادر المولِّدة لها، وتأثيراتها الكونية المحتملة على الإنسان والمناخ.

الأشعة الكونية عبر التاريخ
النشاط الإشعاعي هو ظاهرة تنفرد بها بعض العناصر، حيث تتحوَّل هذه العناصر «بعملية تدعى التحلل الإشعاعي» إلى عناصر أخرى نتيجة إشعاعها جسيمات «ألفا» التي تتكون من: «نواة الهليوم، وتجمُّع بروتونان، ونيوترونان»، أو جسيمات «بيتا»، وهي عبارة عن: «إلكترون، أو بوزترون سريع، وهو إلكترون موجب الشحنة»، وأشعة «جاما»، وهي «أشعة كهرومغناطيسية عالية الطاقة».

عندما اكتـُشفت في نهاية القرن التاسع ظاهرة التأين في الغلاف الجوي، أو الكهربائية الموجودة في بعض طبقاته، كانت ظاهرة محيرة لعلماء الفيزياء، ورجّحوا حدوثها بسبب تأثر عناصر الهواء بالنشاط الإشعاعي الصادر من بعض العناصر المشعة في الأرض أو من نظائر الهواء المشعة التي تولدت بسبب هذه العناصر المشعة.

وفي مطلع القرن العشرين أظهرت التجارب وجود مستويات عالية من النشاط الإشعاعي في طبقات الغلاف الجوي، وأن التأين يتزايد كلما ابتعدنا عن سطح الأرض ويقل بالاقتراب من سطح أو أعماق الأرض، فأرجع بعض العلماء سبب هذا لمصدر آخر غير النشاط الإشعاعي الصادر عن الأرض.

ولحسم الموضوع قام العالِم «فكتور هيس»، «24 يونيو 1883 – 17 ديسمبر 1964م» بتجربة؛ فقد انتظر هيس حدوث كسوف شمسي شبه كلي «عندما يكون القمر بين الأرض والشمس فيحجب ضوءها عن الأرض» ليستبعد احتمالية التأين بسبب أشعة الشمس، وعند الكسوف وضع هيس جهاز قياس التأين في بالون وجعله يرتفع إلى أكثر من خمسة كيلومترات عن سطح الأرض، فوجد أن نسبة التأين عند هذا الارتفاع قد ازدادت إلى أربعة أضعاف النسبة الاعتيادية. افترض هيس أن سبب هذه الزيادة مصدراً إشعاعياً خارج الأرض ذا قدرة قوية جداً على اختراق غلافنا الجوي؛ وبعدها أجريت تجارب أخرى عند ضعف هذا الارتفاع فأكدت نظرية هيس.

هذا الاكتشاف أهّل هيس لاستلام جائزة نوبل للفيزياء في سنة 1936م. وفي سنة 1925م وضع عالم الفيزياء الأمريكي «روبرت مليكان»، «22 مارس 1968 – 19 ديسمبر1953م» مصطلح الأشعة الكونية، بعد أن ثبت أن مصدرها خارج الأرض. وقال: إنها عبارة عن فوتونات وإلكترونات ذات طاقة عالية؛ لكن عالم الفيزياء الأمريكي «آرثر كومبتون»، «10 سبتمبر 1892 – 15 مارس 1962م»، أثبت فيما بعد أن الأشعة الكونية هي عبارة عن جسيمات نووية ذات شحنة. وأثبتت التجارب والبحوث أن الأشعة الكونية الأولية تتكون غالباً من بروتونات وجسيمات «ألفا» ومقدار صغير من بعض النوى الأثقل، أما الأشعة الثانوية فهي عبارة عن مجموعة من الإلكترونات، والفوتونات، والميونات، وتوالت التجارب في النصف الأول من القرن العشرين، فبيّنت أن الأشعة الكونية الأولية ذات طاقة عالية، تخترق الغلاف الجوي فتتفاعل مع نوى عناصر الهواء، فتحدث ما يدعى بشلال الجسيمات المنهمرة، وهذه بدورها تتفاعل لتنتج زخات كثيفة من الأشعة الثانوية تهطل على سطح الأرض.

وفي سنة 2007م كشف المزيد من أسرار الأشعة الكونية، فعرفت بعض المصادر المولدة للأشعة الكونية وكشفت عن حوالي سبعة وعشرين مصدراً ذي طاقات عالية، واتضح أنها وثيقة الصلة بما يعرف بـ «نوى المجرات الفعالة»، وهي المواقع النشطة لمراكز المجرات التي تحتوي على ثقب أسود ذي كتلة وحجم هائلين، إذ يُعتقد بأن المجال المغناطيسي الهائل المحيط بالثقوب السوداء العملاقة في مراكز نوى المجرات الفعالة يقوم بتسريع وقذف البروتونات إلى أصقاع الفضاء بطاقات تبلغ أو تزيد على «1020 إلكترون فولط».

ما هي الأشعة الكونية
الأشعة الكونية هي جسيمات نووية ذات شحنة وطاقة عالية، منشأها من الفضاء الخارجي، ومصدرها حتى الآن مجهولٌ، ولا يُعرف بالضبط نوعية الأجسام الكونية التي تولدها. وهي تولد جسيمات «أشعة» ثانوية ذات طاقة تمكنها من اختراق غلافنا الجوي وقشرة الأرض. وقد اصطلح منذ بداية اكتشافها على تسميتها بالأشعة الكونية برغم أن لفظ الأشعة يطلق عادةً على الأمواج الكهرومغناطيسية. وتتكوَّن أغلب الأشعة الكونية الأولية من نفس الجسيمات النووية المستقرة الموجودة في كوكبنا مثل البروتونات والنويات الذرية والإلكترونات. وأحياناً تحتوي على جزء صغير من المادة المضادة مثل البوزترونات «نقيض الإلكترون».

والنمط العادي للأشعة الكونية يتكوَّن بنسبة %90 من البروتونات «أو ما يصطلح عليه بنواة الهيدروجين»، و%9 من نوى الهليوم «جسيمات ألفا»، و%1 نوى عناصر أثقل. وهذه النسب تشكل الصفة العامة لـ %99 من الأشعة الكونية، أما الـ %1 المتبقية فتتكون من الإلكترونات المنفردة «جسيمات بيتا» وهذه ما زالت حتى يومنا هذا مجهولة المصدر.

وبيَّن رصد جسيمات الأشعة الكونية أنها ذات مستويات مختلفة من الطاقة بشكل يوحي بتنوع مصادرها. ومصادرها المعروفة متعددة، أقربها إلينا هي العمليات الفيزيائية التي تحدث في الشمس والنجوم الأخرى «التي يفترض حدوث نفس التفاعلات فيها»، بالإضافة إلى التفاعلات الفيزيائية الأخرى «المجهولة حتى الآن»، التي تتم في الأصقاع البعيدة على أطراف كوننا المرئي. وتبلغ طاقة الأشعة الكونية مقادير أعلى من 1020 إلكترون فولط، وهذا المستوى من الطاقة أكبر بكثير من الطاقات التي تنتجها معجلات الجسيمات النووية والتي لا تتجاوز الـ 1013 إلكترون فولط؛ وتوحي الدراسات المعاصرة بوجود أشعة كونية ذات مستويات طاقة أعلى.

تلعب الأشعة الكونية دوراً رئيساً في عملية تخليق الليثيوم والبريليوم والبورون في كوننا، من خلال عملية التخليق النووي «Nucleosynthesis»، وهذه العناصر تشكل الجزء الضئيل المتبقي من مكونات الأشعة الكونية، وهي من النواتج النهائية لعملية التخليق النووي القديمة أو ما يصطلح عليه بـ«البك بانك» وهو تعبير عن مصطلح الانفجار العظيم، وهي نظرية مطروحة في علم الكونيات، ترى أن الكون قد نشأ من تكوين حار شديدة الكثافة قبل حوالي 13.7 مليار سنة تقريباً..

كما تسهم الأشعة الكونية أيضاً في إنتاج الجينات الكونية «Cosmogenic» للنظائر المستقرة والنظائر المشعة، مثل الكاربون 14؛ وبواسطتها تمكَّن العلماء من اكتشاف العديد من الجسيمات النووية كالبوزترون والميون والباي ميزون. وتفقد الأشعة الكونية بعد اختراقها المجال المغناطيسي المحيط بالأرض ودخولها غلافنا الجوي الكثير من قوتها وتأثيرها، إلا أن قوتها خارج الغلاف أكبر بكثير، ولهذا السبب يقوم مصمّمو المركبات الفضائية بتجهيزها بدروع في غاية المتانة للحد من تأثيرها على رواد الفضاء.

تنقسم الأشعة الكونية إلى نوعين، الأولية والثانوية. الأولية هي التي تنتجها مصادر كونية تقع خارج نطاق المجموعة الشمسية، وتتولَّد الأشعة الكونية الثانوية من تفاعل الأولية مع المادة المنتشرة في الفضاء ما بين النجوم، أو عندما تخترق غلافنا الجوي وتصدم النوى الذرية والإلكترونات. كما تشع الشمس أيضاً أشعة كونية متدنية الطاقة بسبب انفجاراتها الشمسية. ورصد طيف طاقة الأشعة الكونية الأولية بإمكانه تحديد مكوناتها الأساسية خارج غلافنا الجوي. وتكون نوى الليثيوم والبريليوم والبورون أغزر في الأشعة الكونية عن تلك التي ينتجها الغلاف الجوي الشمسي بنسبة 1:100 تقريباً.

وقد عثر على أدلة على وجود بعض الأنتي بروتونات «بروتونات مضادة» والبوزترونات في الأشعة الكونية الأولية، ولكن حتى الآن لم يعثر على دليل على وجود نوى كاملة للمادة المضادة «Antimatter». لكن الطاقة المختلفة التي تصلنا بها الأنتي بروتونات «تبلغ 2X109 إلكترون فولط» تدل على أنها نشأت بواسطة عمليات إنتاج تختلف عن تلك التي تنتج الأشعة الكونية ذات البروتونات الاعتيادية. ومختبرياً يتم تخليق الأنتي بروتونات بتسليط بروتون طاقته أكبر من X1096 إلكترون فولط على بروتون آخر معاكس له في الحركة. وكما ذكرنا، فطاقة أغلب بروتونات الأشعة الكونية أكبر من هذا المقدار. وعندما تتكوّن المادة المضادة في أي جزء من مجرتنا أو في أصقاع الكون الأخرى فطاقتها الكبيرة ستؤهلها لتنتشر لمديات كبيرة خلال الفضاء بين النجوم قبل أن تصل إلى الأرض، لكنَّ قسماً منها يتحلل عند تصادمه بغاز الهيدروجين الموجود في الفضاء بين النجوم.

تغيرات الأشعة الكونية
كان الاعتقاد السائد أن فيض الأشعة الكونية إلى حد ما ثابت لا يتغير بتقدم الزمن، ولكن البحوث المعاصرة دلّت على أنه خلال الأربعين ألف سنة الماضية حدثت في كل 1500 إلى 2000 سنة تغيرات على هذا الفيض. يحدث التغير بفيض الأشعة الكونية الهابطة على غلافنا الجوي من خلال عمليتين هما الرياح الشمسية والمجال المغناطيسي الأرضي، وهذه عبارة عن بلازما المغناطيسية تعمل على كبح الجسيمات المتدفقة تجاه الأرض وتـُقصي بعض الجسيمات ذات الطاقة التي تقل طاقتها عن 109 إلكترون فولط وتغير مسار قسم من الأشعة الكونية. والرياح الشمسية ليست ثابتة إذ تتغيَّر حسب قوة النشاط الشمسي، ولكن مقدار تغيُّر الأشعة الكونية غير مرتبط بشكل مباشر بالنشاط الشمسي. وتختلف شدة تدفق الأشعة الكونية إلى الأرض من مكان إلى آخر اعتماداً على خطوط الطول والعرض وزاوية رصد الأشعة ما بين شمال الأرض وجنوبها حسب بعدها عن أقطاب المجال المغناطيسي الأرضي «الشمالي والجنوبي» فتكون شدتها أضعف عند خط الاستواء مقارنة بشدتها عند الأقطاب. ويؤثر تفاعل جسيمات الأشعة الكونية الأولية الموجبة الشحنة على مقدار الأشعة، لأن هذه الجسيمات تفضل التحرك مع خطوط المجال المغناطيسي على أن تتقاطع معها، ولهذا نراها تتكدس عند الأقطاب المغناطيسية حيث تتراص الخطوط هناك بشكل كثيف وتميل منحدرة باتجاه سطح الأرض فتولد هناك ظاهرة الشفق القطبي «الأورورا». وتجدر الإشارة هنا إلى أن المحور المغناطيسي الأرضي «الذي تقع أقطاب الأرض المغناطيسية على نهايتيه» هو غير محور دوران الأرض حول نفسها، إذ يتقاطع المحوران عند مركز الأرض ويميل أحدهما عن الآخر بزاوية مقدارها °11.5.

تفاعلات الأشعة الكونية مع غلافنا الجوي
بإمكان جسيمات الأشعة الكونية الوصول من الأماكن البعيدة التي تولَّدت فيها إلى الأرض دون عائق يذكر، بسبب الكثافة المتدنية للمادة في الفضاء الكوني. ولكن بمجرد وصولها واختراقها لغلافنا الجوي تبدأ بالتفاعل بشدة مع الغازات التي تتصادم معها. تولد هذه التصادمات جسيمات تعرف بالبايونات والكاوونات، وهي جسيمات نووية أولية، والميزونات غير المستقرة، وهذه تتحوَّل مباشرة إلى ما يُعرف بالميونات التي لا تسمح لها طبيعتها بالتفاعل بشدة مع الغلاف الجوي بسبب سرعتها الهائلة بالنسبة لسرعة الأرض، فالكثير منها يتمكن من بلوغ سطح الأرض وحتى اختراق جزء من القشرة الأرضية؛ وهذه ترصد بسهولة بسبب الإشعاعات المؤينة التي تطلقها. أما على كواكب المجموعة الشمسية الأخرى التي تحتوي على عناصر أثقل من الهيدروجين والهليوم، فيؤدي انهمار الأشعة الكونية لتفاعلات تطلق أشعة جاما ذات طاقة عالية تبلغ حوالي 106 إلكترون فولط نتيجة لعملية تحلل النشاط الإشعاعي.

أما في غلافنا الجوي، فتصطدم الأشعة الكونية بشكل رئيس بجزيئات الأكسجين والنيتروجين وتنتج سيلاً من الجسيمات الخفيفة «تبلغ بالمليارات»، غالباً هي من مجموعة الميزونات «البايونات والكاوونات الموجبة والسالبة الشحنة». كما تنتج أيضاً بعض النظائر المشعة غير المستقرة، مثل الكاربون 14 «نصف عمره 5730 سنة» الذي يستعين به الآثاريون غالباً لتحديد أعمار الكائنات الحية القديمة. وكمية الكاربون في غلافنا الجوي ثابتة تقريباً وهي حوالي 70 طناً لقرابة المئة ألف سنة الماضية، ولكن هذه الكمية اختل مقدارها منذ أن بدأ الإنسان بإجراء تجارب التفجيرات النووية في خمسينيات القرن الماضي. كما تنتج الأشعة الكونية عدا الكاربون 14 قائمة طويلة من النظائر المشعة لا مجال لذكرها هنا، مثل الكلور 34 «نصف عمره 32 دقيقة» والبريليوم 10 «نصف عمره 1.6 مليون سنة».

تأثيرات الأشعة الكونية
يُعد تعرُّض الكائنات الحية للأشعة النووية بمختلف أنواعها «ألفا، بيتا وجاما» من العوامل المؤثرة على الصفات الجينية «الوراثية» وحدوث الطفرات الوراثية. والتشوهات التي ظهرت على المواليد الجدد بعد سنة 1945 في اليابان عقب قصفها بالقنابل الذرية وتعرضها للإشعاعات النووية، والتشوهات الخلقية التي حدثت على مواليد جنوب العراق بعد حرب الخليج جراء استعمال الأمريكان عتاد اليورانيوم المنضّب دليل يؤكد قدرة الأشعة النووية على خلق مثل هذه التغيرات الجينية.

من المؤكد أن للأشعة النووية تأثيرات متنوعة ومختلفة علينا وعلى البيئة، وبعضها قد تمتد آثاره بشكل قد لا يخطر على البال. ويرجح بعض العلماء أن الأشعة الكونية «بصفتها كأشعة نووية» لها مثل هذه القدرة التحويلية للصفات الوراثية في الكائنات الحية المنتشرة على الأرض. وفي ظروف الحياة الاعتيادية فالطفرات الجينية نادرة الحدوث، إلا أنها برغم ندرتها لها دور كبير في حصول تغيرات جوهرية على الكائن الحي.

ويفترض بعض العلماء بأنه لو صادف أن اخترقت الأشعة الكونية الصادرة من أعماق الكون أحزمة المجال المغناطيسي، والغلاف الجوي، ووصلت إلى سطح الأرض وتعرض لها أي كائن حي فهذا يرجح احتمالية حدوث طفرات جينية لديه. لكن من فضل الله علينا، أنه طوّق الكرة الأرضية بدروعٍ منها أحزمة «فان ألن»، «المجال المغناطيسي الأرضي»، لتدرأ عنا تأثيراتها المهلكة، بالإضافة إلى الغلاف الجوي. ولكن بين الحين والآخر «كل بضعة آلاف أو عشرات آلاف السنين» تحدث، لأسباب عجز العلم عن تحديدها حتى الآن، انقلابات في المجال المغناطيسي الأرضي، فيتغير بسببها محور المجال المغناطيسي الأرضي «أي مواقع الشمال والجنوب المغناطيسي وهما غير الشمال والجنوب الجغرافي». وفترة الانقلاب هذه «حتى يستقر المحور المغناطيسي على موقعه الجديد» مجهولة فربما تستغرق ساعات أو أياماً أو أسابيع، لا أحد يدري بالضبط؛ خلال فترة الانتقال هذه تضعف أحزمة المجال المغناطيسي الأرضي فتتهيأ فرصة نادرة لاختراق كمية كبيرة من الأشعة الكونية الغلاف الجوي «دون أن توهنها كثيراً تفاعلاتها مع طبقات الغلاف الجوي» لتصل سطح الأرض وتؤثر على جينات الكائنات الحية.

التغير الجيني الذي يطرأ على الخلايا الحية يؤدي لتغيير الصفات الوراثية للكائنات الجديدة، وغالباً ما يكون التغيير سلبياً «تشوهات في الكائنات الجديدة» وهذه تنتج مواليد مشوهة أو مختلة الوظائف والأعضاء لا تلبث إلا قليلاً ثم سرعان ما تفنى، أما الصفات الحميدة فعلى ندرة حدوثها فهي تحسّن الصفات الوراثية للمواليد الجدد وتقوّيها، وبهذه الطريقة تنتج الكائنات ذرية أقوى وأكفأ من أسلافها. وبتعاقب الأجيال تصبح هذه السلالات متميزة عن غيرها بما أكسبتها تلك الطفرات من مزايا إيجابية جديدة.

يبقى هذا الافتراض مجرد نظرية، علينا لو أردنا التأكد منها انتظار انقلاب مغناطيسي قادم، لا يعلم موعده أحد، وإذا حدث ننتظر دفعة المواليد الجدد لمختلف الكائنات لنفحصها حتى نتأكد من حصول ما ادعته النظرية؛ وربما هي مجرد تأملات علمية لم يحالفها الحظ لتتحقق على أرض الواقع.

ومن التأثيرات الأخرى للأشعة الكونية على أرضنا هي إضعاف وتخريب طبقة الأوزون التي تلعب دوراً كبيراً في حجب جزء كبير من الأشعة فوق البنفسجية الصادرة من الشمس التي قد تسبب آثاراً كارثية على الحياة البشرية لو وصلت سطح الأرض بنفس الكمية الصادرة من الشمس. فعندما تخترق الأشعة الكونية الغلاف الجوي الأرضي تبدأ جسيماتها بتأيين جزيئات الأكسجين والنيتروجين، ويعقب هذا سلسلة من التفاعلات الكيميائية التي تستهلك طبقة الأوزون. ولكن المقدار المستهلك منها صغير جداً ولا يؤدي لحدوث خلل يهدد الحياة البشرية، بخلاف ما يحدثه انبعاث غازات الكلورو فلورو كاربون «الفريون» التي ثبت أنها تؤدي إلى نضوب الأوزون بشكل خطير قد يعرِّض الإنسان مستقبلاً لمخاطر مؤكدة لا يمكن تفاديها.

قد تثير كلمة الإشعاع النووي في نفوسنا الهلع نتيجة للتجارب المروعة التي مرت بها البشرية «تفجيرات هيروشيما وناجاساكي»، وقد يخطر على البال مادامت الأشعة الكونية من هذه النوع فعلى مر السنين ربما لا نسلم من أذاها الذي قد يتراكم ويأتي بنتائج لا تُحمد عقباها. الشيء المطمئن أن بإمكاننا قياس مدى تأثير الأشعة على الكائنات الحية، وهذه التأثيرات تعتمد على مقدار الإشعاع الذي يمتصه الجسم، ونوعية الإشعاع «مثل أشعة جاما، الأشعة السينية، أشعة ألفا، الخ..»، ووحدة قياسها الفيزيائية تدعى الزيفرت، وهي وحدة لقياس جرعة الإشعاع المكافئة. مثلاً، يقدر معدل الجرعة الطبيعية التي يتعرَّض لها الإنسان في وسط أوروبا من مختلف المصادر المحيطة به بـ 4.5 مللي زيفرت/ سنة، في حين معدل الجرعة الإشعاعية التي تصل إلى سطح الأرض من الأشعة الكونية هي في حدود 0.24 مللي زيفرت/ سنة. وعلى هذا الأساس يُعد تأثير الأشعة الكونية ضمن الحدود الآمنة التي باستطاعة الإنسان تحملها دون أي مشكلات تترتب عليها مستقبلاً، وذلك بفضل الحصانة التي منَّ الله بها علينا: أحزمة «فان ألن» والغلاف الجوي.

ويعتقد البعض أن الأشعة الكونية قد تُحدث أضراراً للتكنولوجيا الحديثة عندما تضرب الدوائر الإلكترونية المتكاملة «Integrated Circuits» فتسبب بعض الأخطاء البسيطة أو يمكن تسميتها بأخطاء برمجية، أكثر من أن تكون عطباً في بنية تلك الدوائر. وسابقاً كانت المشكلات الإلكترونية تصيب الأجهزة العاملة على ارتفاعات عالية كالأقمار الصناعية وأحياناً بعض الطائرات المحلقة في الجو، ولكن الأعطال بدأت تتسرب إلى الدوائر «الرقائق» الإلكترونية على سطح الأرض التي أخذت تتضاءل في حجمها مع زيادة التقدم العلمي. ربما الطاقة العالية للأشعة الكونية هي التي رشحتها لتكون سبباً محتملاً لهذه المشكلات، إلا أن الأمر ما زال موضع بحث، ولم يعثر على دليل مؤكد يحسم الموضوع تماماً. وربما استمرار حدوث الاضطرابات في الذاكرة الإلكترونية أو الأداء الخاطئ لوحدات المعالجة المركزية «CPU» في الكثير من الدوائر الإلكترونية هو ما دفع المختصين لترشيح سبب غير منظور، فكانت الأشعة الكونية المرشح الأمثل لإلقاء التبعة عليه. هذا دفع بعض الشركات العاملة في مجال الدوائر الإلكترونية المتكاملة لاقتراح وضع متحسسات للأشعة الكونية مدمجة مع هذه الدوائر لمراجعة سلسلة عملياتها قبل عرض الإشكال لو اعترتها إحدى مشكلات «الأشعة الكونية!».

تأثير الأشعة الكونية على مناخ الأرض
ما زال السؤال مطروحاً على العلماء: هل الأشعة الكونية تؤثر على مناخ العالم أم لا؟. الجواب عن هذا السؤال ليس سهلاً، فالإجابة بـ«نعم» أو «لا»، تتطلب بحوثاً وإمكانات كبيرة وزمناً أطول مما نتصور. والدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع لم تحسمه بشكل تام، ولكن بعض الدلائل التي ظهرت مؤخراً تدعم الرأي المؤيد لتأثير الأشعة. إلا أن الشيء المؤكد، هو أن الأشعة الكونية الساقطة على الأرض تخضع لتأثير الشمس ونشاطاتها الإشعاعية. وبعض العلماء يرجح أن ارتفاع معدلات الحرارة الذي شهدته الأرض في القرن الماضي لا يرجع سببه لظاهرة الاحتباس الحراري فقط بل إلى التغيرات التي طرأت على النشاط الشمسي.

وقد اكتـُشف مؤخراً أن الأشعة الكونية تولِّد عند اختراقها الغلاف الجوي كتلاً من الشحنات تستقر عند الطبقات السفلى من الغلاف الجوي. تبدأ هذه الشحنات سلسلة من التفاعلات لتنتج جسيمات نووية مركزة تتحوَّل إلى غيوم كثيفة تنتشر في العالم، ولا يعرف حتى الآن بشكل دقيق ميكانيكية عملها، إلا أن من المرجح أنها حسب موقعها يقوم بعضها بتسخين الجو والبعض الآخر بخفض درجة حرارته. ويؤكد العلماء أن للغيوم دوراً فاعلاً في اختراق أو حجب الأشعة التي تخترق الغلاف الجوي، فالغيوم الواطئة تحجب ضياء الشمس بشكل أكبر من الغيوم المرتفعة، والغيوم عموماً تحجب بعض الإشعاعات ذات الأمواج القصيرة القادمة من الفضاء من بلوغ الأرض فيؤدي هذا إلى برودة الجو؛ كما تقوم بامتصاص بعض الإشعاعات الأخرى ذات الأمواج الطويلة الصادرة من الأرض، فيؤدي هذا إلى رفع درجة حرارتها. وهناك أيضاً احتمالية أن التغيرات المناخية وكميات الدخان الهائلة التي ينتجها البشر قد تؤثر على هذه الغيوم فتغير من خصائصها فتزيد من تعقيد فهم العلاقة بين الغيوم والمناخ، لكن إلى الآن لم يتم التأكد من حجم هذه التأثيرات على عموم مناخ الأرض.

وبعض العلماء يعتقدون أن حرارة سطح الأرض أخذت بالتزايد، في حين أن حرارة طبقات الغلاف الجوي السفلى بقيت دون تغير مذكور. لكن إذا صحت نظرية أن الأشعة الكونية تحدث تغيراً في أغلفة الغيوم فهذا قد يعطي تفسيراً لظاهرة ارتفاع درجة الحرارة، ويبرئ البشر من تهمة تدمير مناخ الأرض لضعف الأدلة التي تؤكد هذا. وإذا كانت الأشعة الكونية «بالقدر الذي تسمح الرياح الشمسية بنفاذه للأرض»، تؤثر فعلاً على مناخ كوكبنا فهذا قد يكون حلاً للغز ودليلاً يفسر أسباب الاختلافات الموجودة في مستويات الحرارة بالمناخ العالمي التي لم يحسمها العلم حتى الآن.

الشفق القطبي
الشفق القطبي هو الأثر الوحيد المحسوس بالعين المجرَّدة على وجود الأشعة الكونية؛ وهو ظاهرة ضوئية تظهر ليلاً في سماء المناطق القطبية والدوائر القطبية الشمالية والجنوبية، وتتركز في المناطق الواقعة بين قطبي الأرض المغناطيسيين عند خطوط العرض المغناطيسية 67 درجة شمالاً و67 درجة جنوباً وما بعدها، وقد تمتد أحياناً لمساحات أوسع من ذلك. يبدو الشفق القطبي غالباً على شكل ستائر منسدلة من السماء، أو جدران متلألئة بصورة مهرجان من الألوان البرَّاقة الحمراء والخضراء والزرقاء غالباً تتوهج وتخبو بصورة دورية كل عدة ثوانٍ وقد تمتد إلى عدة دقائق. وتمتد تلك الأنوار عمودياً على صفحة السماء إلى ارتفاع قد يصل إلى 80 كيلومتراً فوق مستوى سطح البحر وأفقياً إلى مئات الكيلومترات.

تحدث ظاهرة الشفق القطبي عند ارتطام الأشعة الكونية الأولية «الصادرة من الشمس، وأغلبها يصلنا من خارج المجموعة الشمسية» بغلافنا الغازي فتؤدي إلى تأينه وتنتج أشعة كونية ثانوية، وتبدأ هذه بالتصادم بشحناتها الكهربائية المختلفة مع بعضها ومع الشحنات الكهربائية الموجودة في الغلاف الغازي مما يؤدي إلى تفريغ طاقتها وتوهجها بألوان مختلفة. خلال رحلتها تتحرَّك الأشعة الكونية الأولية والثانوية لولبياً بموازاة خطوط المجال المغناطيسي الأرضي، وتنهي رحلتها لتصب في القطبين المغناطيسيين الشمالي والجنوبي بسبب عجزها عن اختراق المجال الأرضي المغناطيسي. تسبب عملية الاختراق هذه عند القطبين زيادة تأين الغلاف الجوي وتفريغ شحنات الأشعة الكونية فتتوهج الغازات بما يعرف بظاهرة الشفق القطبي. وتتأجج هذه الظاهرة في أوقات الثورات الشمسية العنيفة التي تدفع كميات هائلة من الأشعة الكونية الأولية صوب الأرض.

أضف تعليق

التعليقات

ندى

شكرا على التقديم

ميرفت شاهين

هل تعد الأشعة الكونية هي الموصل الحقيقي للحديد على الأرض من انفجارات السوبرنوفا ؟