قول آخر

هل يصرخ الشعر من الألم؟

هل قُدِّرَ للشعر العربي أنْ يكون جماهيرياً في يوم ما كما هي حالته الآن؟ أي هل جرى تداوله في أوساط وشرائح اجتماعية مثقفة و/أو شعبية بحيث باتت «العامة» تحفظه؟ هل ساءل الشاعر العربي الشعرَ نفسَه ، يوماً ما، عن جوهره؟ أي هل ساءل الشاعر نفسه عن «هويته» بعيداً عن وظيفة الشعر وأغراضه المُعَدَّة له سلفاً؟. واقع الأمر أنه لا دليل مادياً بين أيدينا على ذلك بل هي تأويلات أحداث وروايات كانت في الأصل شفوية الطابع.

لكنْ قبل استكمال اقتراح الإجابة عن سؤال بهذا العمق، إلى حدّ أنه يطال جوهر الفن إجمالاً وليس الشعر وحده، يجد المرء نفسه مصاباً بدوار من فرط إلحاح سؤال سابق عليه ويتبدى جلياً للواحد أينما ولّى وجهه: هل يمتلك أحدنا «ترف» طرح مثل هذا السؤال في اللحظة العربية الراهنة؟ بمعنى آخر: هل من الممكن أن يتصالح التساؤل والواقع في منطق ما، هو هنا منطق شعري.

للحقيقة وجهان في جاري العادة، فالوجه الأول: إما أنْ ينشغل الشعر في اللحظة الراهنة ويصبح عبداً لسيّده الواقع، فيمتلئ بصراخ لا يستمع إليه أحد إلا ما ندر، بل ربما يصبح وَعِراً من فرط ما يتوفّر على جدران من المعنى المعنى المباشر التي تعطل مخيلة التلقي ولا تدع الصور تتنفس أوكسجيناً نقيّاً، وإما أنْ ينشغل بذاته ويعيد النظر في مجمل خطابه وتوجهاته وموقع الفرد منهما، فينأى وينأى.

والوجه الثاني: أن التقنيات الحديثة في وسائل الاتصال من جهة وتطوّر مفهوم المثقف في العصر الراهن لجهة علاقته بالواقع وما يجري فيه ومسؤوليته الأخلاقية تجاهه وضرورة نقده بجرأة ومكاشفة وقاحته وصفاقته بوقاحة وصفاقة معادِلَتَيْن قد جعلت الشاعر يتصرف كما لو أن ما يجري لا يجري حوله فحسب بل يجري فيه وله.

هنا قد يستعير الشاعر أدوات الكاتب – أو كاتب المقالة الصحافية أو حتى قد يظهر على شاشات التلفزيون في محطّات لا يتابعها أصلاً – ويقدّم نوعاً من «التنازلات» غير الجوهرية وغير المعرفية في سبيل دفاعه عن قضية ما أو في سبيل المجاهرة بموقف محدد وذلك في سياق «قرار سياسي» شخصي يكون هو قد اتخّذه بنفسه ضمن رؤية ثقافية جامعة يرى من خلالها العصر الذي يعيش فيه.

إنّ المرء إذ يقلّب أمر شاعرٍ ما يجد نفسه أمام «فكرة» أخرى غير معهودة من قبل لدور الشاعر كما هو عليه الدور والوظيفة في الأدبيات الكلاسيكية للنقد الشعري العربي، فقد تحوّل الشاعر من الناطق باسم الجماعة، أو من «المفرد بصيغة الجمع»، كما هو عنوان أحد دواوين أدونيس، إلى توجيه النقد الشرس لهذه الجماعة إنما ليس ببعيد عن تعقيدات معرفية وسياسية واجتماعية بل وحتى شعرية شديدة الاختلاط وتحتاج إلى قَدْر كبير من الدهاء والمزايا الشخصية التي لا تتوافر لشعراء كثيرين، إنها تحتاج إلى بوصلة من نوع خاص لم يتمّ اختراعه ولن يحدث ذلك لأنها بوصلة جوّانية جداً.

والأرحج أنه لم يكن لهذا التحول العميق في شخصية الشاعر العربي أن تحدث لولا هذا الإحساس بالذات وتشكّل الشاعر في المجتمعات العربية الحديثة بوصفه فرداً قادراً على ألاَّ يستجيب لما هو خارج عن قناعاته ولما هو ضاغط على وجدانه وضميره الأخلاقي وإحساسه بالمسؤولية تجاه ما يجري حوله. يحدث ذلك في لحظة يبدو فيها «العقل العربي» غير قادر على استيعاب ما يحدث من حوله.

فإذا كان الأمر هو كذلك بالنسبة لشعراء لديهم منابر تفتح لهم أبوابها ليقولوا ما يودون أن يقولوه، وهم كثُر ويعيشون خارج المنطقة العربية واستقطاباتها السياسية الحادة غالباً، فماذا سيفعل الشعراء الأفراد في تلك المجتمعات التي لا تزال لا تعترف بفردية الفرد وبحاجته إلى التعبير عن ذاته بأدوات أخرى غير تلك الأدوات النمطية التي يمتلها الشاعر؟.

وعَوْدٌ على بدء، هل تسنى طرح مسألة جماهيرية الشعر. الإجابة الأكيدة: لا. فالراهن ضاغط على العصب الحسّاس لهذه اللحظة ومؤلم إلى حدّ أنه لا يسمح بترف من هذا النوع. إذن لندع الشعر ينشغل بنفسه. إذن لندع الشعر ينشغل بسواه.

أضف تعليق

التعليقات