ديوان اليوم

تأثير الشعر .. علاَّته ودوافعه

  • scan2
  • OLD MAN

عدنان السيد محمد العوامي، أحد أدباء المملكة، ولد في 13/06/1357هـ، له مشاركات وحضور أدبي بارز، صدر له شاطئ اليباب – 1412هـ، وتحقيق ديوان أبي البحر الخطي – 2005م، وكُرِّم في اثنينية عبدالمقصود خوجة في جدة قبل سنوات، وترجم له العديد من المصادر التي تؤرخ للحركة الأدبية في المملكة.

ماهية الشعر قضية شغلت النقاد قدماء ومحدثين، ويبدو أنها ستظل كذلك إلى ما شاء الله، فأقدِّم ما اعتبره نقاد الأدب تعريفاً لم يكن بأكثر من لمحة هنا، أو لفتة هناك؛ استحساناً أو استكراهاً، كما قيل عن تهزؤ طرَفة من المتلمس يوم سمعه ينشد:

وقد أتناسى الهمَّ عند احتضاره
بناج، عليه الصيعريَّةُ، مكدمِ

فقال طرفة: (استنوق الجمل)، فالصعيرية سمة اختصوا بها عنق الناقة؛ ولأن الشعر الجاهلي بالغ القدسية عندهم، ولأنهم يعدون المتلمِّس أشعرَ أهل زمانه؛ تعصبوا له، فزعم القَرافِيُّ أنّ: (البِعيرَ يتَناول الأُنثَى، وأنه ذَكَّرَ الوصفَ، تفخيماً للشأْن؛ إذ الذَّكَرُ أجْلَدُ وأقْوى)، وهذا تخريجٌ متمحَّل، بيِّنُ التعصب للمتلمس لا غير.

وينقلون أن النابغة سئل عن أشعر الناس فأجاب: (من استجيد جيِّده، وأضحك رديئه)، وللتقديس نفسه أنكر القيرواني نسبة هذا الرأي للنابغة؛ لأنه: (إذا أضحك رديئُه كان من سِفلة الشعراء). ومثل هذا صنيع ابن الأعرابي يوم أنشدوه لأبي تمام:

وعاذلٍ عذلتُه في عذله
فظن أني جاهلٌ من جهله

وأوهموه بأنها لجاهلي، فأعجب بها، وأمر بكتابتها، ثم سأل: (لمن هذا الديباج الخسرواني؟)، فأعلموه بأنها لأبي تمام، فقال: (من أجل ذلك أرى عليها أثر الكلفة)، ثم قال لكاتبه: (يا غلام، خرِّق، خرِّق).

ومثل هذه النقدات الطائرة أن كُثيِّر عَزَّة تمدَّح عند قَطام، صاحبة ابن مُلجَم المرادي، بأبيات منها:

فما روضةٌ بالحزن طيِّبة الثرى
يمجُّ الندى جَثجاثُها وعَرارُها
بأطيبَ من أردانِ عَزَّة مَوهِناً
إذا أُوقِدت بالمندَل الرطب نارُها

فقالت: (تا الله! ما رأيت شاعراً أنقصَ عقلاً، ولا أضعف وصفاً منك، حيث تقول هذا. لو أُوقِد المندل الرطب وبُخِّرت به أمك العجوز لطاب ريحها، ألاَّ قلت كما قال امرؤ القيس:

ألم ترياني كلما جئت طارقاً
وجدت بها طيباً وإن لم تطيَّب

بعد هذه الومضات يأتينا النقاد بتعريف سجنوا الشعر بين جدرانه، فوصفوه بأنه: (كلامٌ موزونٌ ومقفىً يدلُّ على معنى)، وفسروا هذا بأنه الحدٍّ والبنية، أي اللفظ والوزن والقافية والمعنى. ووضعوا له أركاناً أربعة هي المدح والهجاء والرثاء، والنسيب.

أما الميزان الذي وضعوه لسبر جيد الشعر من رديئه فسموه (عمودَ الشعر)، وهذا العمود هو الذي التبس على كثير من المعاصرين فظنوه قالب القصيدة، أي نظام الشطرين الذي تكتب فيه أبياتها واحداً تلو الآخر، وهذا ليس المراد بعمود الشعر، وإنما هو شروط ومعايير يحكم بها للقصيدة أو عليها، وقد أجملها المرزوقي في سبعة؛ هي: (شرف المعنى وصحتُه، وجزالة اللفظ واستقامته، وإصابة الوصف، ومقاربة التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها، وتخير الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائهما للقافية كي لا تحصل منافرة بينهما).

ثم قعدوا للشعر قواعد هي أقرب لتبويب أرباب المخازن، فعدوها أربعاً هي: الرغبة والرهبة، والطرب، والغضب. ولن يكون آخر هذه التعريفات ما جاء به ابن رشيق بقوله: (وإنما سمي الشاعر شاعراً؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ أو ابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص ما أطاله فيه سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة…).

وأضاف المعاصرون معايير أخرى كالعذوبة والموسيقى الداخلية والخارجية … إلخ، وابتدعوا له تقسيمات جديدة فصنفوه إلى خطابي وغنائي، وكلاسيكي ورومانسي، وهكذا.

وفي تقديري أن هذه القواعد ليست إلا قواعد مدرسية قد توصل إلى تعريف شكلي للشعر، لكنها لا تعطينا القدرة على كشف ذلك السر الكامن في استحساننا لقصيدة، واستكراهنا لأخرى. فلو أخذت قصيدة توافرت فيها كل هذه المقومات والشروط، فليس من المتيقن تأثيرها فيك، إلا أن تلامس حالة نفسية، أو تثير ذكرى هاجعة. تقرأ أو تستمع لقصيدة في وقت فتتأثر بها، لكنك لا تتفاعل معها في وقت آخر، وتخلبك قصيدة يفر منها غيرك طلباً للنجاة. هذه الخاصية للشعر أظنها هي التي عناها ابن طباطبا بقوله: (وليست تخلو الأشعار من أن يقتص فيها أشياء هي قائمة في النفوس والعقول، فتحسن العبارة عنها، وإظهار ما يكمن في الضمائر منها، فيبتهج السامع لما يرد عليه مما قد عرفه طبعه، وقبِله فهمه، فيثار، بذلك، ما كان دفيناً، ويبرز به ما كان مكنوناً، فيكشف للفهم غطاؤه، فيتمكن من وجدانه بعد العناد في نشدانه).

ولعلي لا أخطئ لو اختصرت عوامل ابن طباطبا هذه في عاملين هما: المناسبة والمشاكلة). المناسبة هي تماثل الدافع لدى مبدع القصيدة والمتلقي، والمشاكلة هي ارتباط الشعر بحالة أو مناخ مشتركٍ بينهما. جرب مرة أن تقرأ:

حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جار
ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار
بَينا يُرى الإِنسان فيها مُخبِراً
حَتّى يُرى خَبَراً مِنَ الأَخبارِ
طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها
صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ
وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها
مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ
وَإِذا رَجَوتَ المُستَحيل فَإِنَّما
تَبني الرَجاءَ عَلى شَفيرٍ هارِ
فَالعَيشُ نَومٌ وَالمَنِيَّةُ يَقظَةٌ
وَالمَرءُ بَينَهُما خَيالِ سار
فاقضوا مآرِبكم عُجَالاً إِنَّما
أَعمارُكُم سِفرٌ مِنَ الأَسفارِ

ولن أزيدك علماً بأن مرثية التهامي هذه من أروع شعر الرثاء، جرِّب أن تقرأها أثناء جلسة أنس وسهرة فرح، وانظر كيف أثرها عليك. وبالضد تصفح ديوان الشريف الرضي، وأنت تترشف قهوة الصباح أثناء تهيئك للذهاب لتعزية في عزيز، وأجل بصرك في هذه الأبيات:

يا لَيلَةً كَرُمَ الزَما
نُ بِها لَوَ اَن اللَيلَ باقِ
كانَ اِتِّفاقٌ بَينَنا
جارٍ عَلى غَيرِ اِتِّفاقِ
وَاِستَروَحَ المَهجورُ مِن
زَفَراتِ هَمٍّ وَاِشتِياقِ
فَاِقتَصَّ لِلحِقَبِ المَوا
ضي بَل تَزَوَّدَ لِلبَواقي
حَتّى إِذا نَسَمَت رِيا
حُ الصُبحِ تُؤذِنُ بِالفِراقِ
بَرَدَ السِوارُ لَها فَأَح
مَيتُ القَلائِدَ بِالعِناقِ
أو في ميميته:
يا لَيلَةَ السَفحِ أَلاَّ عُدتِ ثانِيَة
سَقى زَمانَكَ هَطّالٌ مِنَ الدِيَمِ
ماضٍ مِنَ العَيشِ لَو يُفدى بَذَلتُ لَهُ
كَرائِمَ المالِ مِن خَيلٍ وَمِن نَعَمِ
إلى قوله:
وَأَمسَتِ الريحُ كَالغَيرى تُجاذِبُنا
عَلى الكَثيبِ فُضولَ الرَّيطِ وَاللِمَمِ
يَشي بِنا الطيبُ أَحياناً وَآوِنَةً
يضيئُنا البَرقُ مُجتازاً عَلى أَضَمِ
وَباتَ بارِقُ ذاكَ الثَغرِ يوضِحُ لي
مَواقِعَ اللَثمِ في داجٍ مِنَ الظُلَمِ
يُوَلِّعُ الطَلُّ بُردَينا وَقَد نَسَمَت
رُوَيحَةُ الفَجرِ بَينَ الضالِ وَالسَلَمِ
وَأَكتُمُ الصُبحَ عَنها وَهيَ غافِلَةٌ
حَتّى تَكَلَّمَ عُصفورٌ عَلى عَلَمِ

فسوف تجدها سمجة ثقيلة الوطأة على نفسك. بل ربما أشعرتك بالضيق والغثيان، وعلى العكس منها لو قرأت أبياته:

راحِلٌ أَنتَ وَاللَيالي نُزولُ
وَمُضِرٌّ بِكَ البَقاءُ الطَويلُ
لا شُجاعٌ يَبقى فَيَعتَنِقَ البيـ
ـضَ وَلا آمِلٌ وَلا مَأمولُ

فيقينًا أنها ستسرِّي عنك، وتشعرك بالارتياح. والسر في هذا واضح؛ فحالة المناخ أو البيئة النفسية المهيمنة لحظة الاندماج بالقصيدة هي المسؤولة عما تحدثه في النفس من أثر، أما مقوماتُها؛ من قواعدَ لغوية، وقوانين عروضية فقضية عقلية شأنها شأن القوانين العلمية والرياضية علاقتها بالعقل لا العاطفة.

وفي هذا السياق، أتذكر ثلاثة من النقاد تناولوا ديواناً واحداً لشاعر واحد ولم يتفقوا على قاعدة كما لم يتفقوا على نتيجة، بل ربما اختلف الناقد مع نفسه وضربت آراؤه بعضها بعضاً. الشاعر هو أبو البحر الخطي، والنقاد هم الدكتور شوقي ضيف، في (تاريخ الأدب العربي – عصر الدول والإمارات)، الذي استغرقت مطالعته للديوان صفحتين وأسطر تضمنت ترجمة الشاعر ونماذج من شعره وحُكمَه عليه بأنه: (رديء ظاهر التكلف)، وهذا عينه حكم ابن الأعرابي الآنف، على أبي تمام. والثاني الدكتور أحمد حاجم الربيعي (مجلة دراسات الخليج)، وهذا أفاض في إعجابه بالخطي، وأطنب في ثنائه عليه. أما الثالث فهو عز الدين التنوخي في (مجلة المجمع العلمي بدمشق)، وأغرب ما وجدته لدى هذا الناقد الكريم هو التفاوت المفرط بين الاستحسان والاستهجان، فبينما يرفع الشاعر إلى مصاف العالمية، فيقول: (إن أبا البحر يكاد – بهذا الوصف – يضع البدر أمام عينيك، فتهم بلمسه)، وفي موضع آخر: (إن هذا الشعر ليفيض شعوراً، ولو تُرجم إلى لغة أجنبية لشارك الفرنجي الشاعر في حزنه وأشجانه، وبكى لغربته وبُعده عن أوطانه، وأما حنينه إلى أهله وولده فيحاكي به شاعر الفرنجة فكتور هوغو إلى ولده، وولع شاعرنا بولع شاعرهم أشبه من الجمرة بالجمرة). ثم يقول: (إنا قرأنا في اللغة الفرنسية كثيراً من قصائد الحنين إلى الأوطان، والأهل والأخدان، مما يحل له الحليم الحبوة، وتنشأ له في قلب الخلي الصبوة، وأقسم لو قرأنا هذا الشعر في لغة، فرنجية كانت أو ما يساميها أدبًا، لخرجنا من جلودنا طربا).

كل هذا الإعجاب لشعر استهجنه وحقره بمثل قوله: (فإذا ما حذونا شعر أبي البحر الخطي على هذا المقياس رأينا أنه يحاول تجويده، وأن حُسنه بشرف المعنى غير خلاب). ثم يقول: (وسلك أبو البحر – في كثير من أبيات وصفه – سبيل التشابيه المألوفة في عهد انحطاط البيان والمستبشعة بتصويرها). فكيف استقام هذا مع ذاك؟ الغريب أن إعجابه أغفله عن عيوب كثيرة في الشعر الذي استحسنه؛ كالاقتضاء، وهو ضرب من التضمين المستقبح لدى النقاد.

والأغرب أن الناقد دفعه إعجابه بقصيدة ليست من الشعر أصلاً، وإنما هي نظم محض، يصدق عليه تعريف النابغة بأنه الرديء المضحك، وهي قصيدة تهزَّأ فيها بشعرور من بلده، منها:

أو فاتخذ لك سنداناً ومطرقة
واعمل، متى شئت، سكينًا ومسمارا
أو فاتخذ لك منشاراً وقشترة
وكن كنوح نبي الله نجَّارا
أو كن، فديتك، صفَّاراً فليس على
علياك بأس إذا أصبحت صفَّارا

وأغرب من هذا غفلة هذا الأستاذ الجليل عن روائع الشاعر في رثائياته وخصوصاً الدالية:

معاهدهم بالأبرقَين هوامدُ
رزقْن عهادَ المزن تلك المعاهد
وقفت بها والوحش حولي كأنني
بهنَّ مليك حوله الجند حاشد
أسرح في أكنافها الطرفَ لا أرى
سوى أشعثٍ شجَّته، أمسِ، الولائد

أو عتابه لصديقه السيد ماجد الصادقي، ومنها:

أمولى الورى، إني جعلتك في الذي
جرى، أمس، ما بيني وبينك قاضيا
فديتك والناس الذين تراهمُ
إذا حُمَّ ما لا بد منه فدائيا
أيحسن إنعاليك خدِّي كرامة
وتتركني أمشي على الشوك حافيا
وتشرب من كفيَّ ما يقتل الصدى
وأشرب منك، ما يزيد ظمائيا؟
ألم ترني استقبلت أوجه شقوتي
لديك وخلفت النعيم ورائيا؟
وجوه أحباء تبدَّلت بعدهم
وجوه رجالٍ، يُتَّقَون، أعاديا
ينال الجفا والضرُّ منهم مرادَه
وهان لو انِّي نلت منك مُراديا
وحادثةٍ أنزلتَها بي لو انها
برضوى لخوَّى جانباه تداعيا
يغضُّ لها من طرفه ناظر العلى
ويكسر من جفنيه عنها تغاضيا
وهب أنها لم تأت منك وإنما
رماني بها من شلَّه الله راميا
فإن قراري عندها واستكانتي
على خجلي منها وفَرطِ حيائيا؟
إلى آخرها.

ما هو جلي من علة التأثير إعجاباً واستحساناً، ازدراءً واستهجاناً ليس مرجعه توافر المقومات الفنية أو انعدامها، وإنما الحالة النفسية المشتركة بين المبدع والمتلقي، فالتنوخي تجرَّع مرار الغربة، فتشبع بالشوق والحنين إلى الوطن؛ وبرم بأدعياء الشعر؛ فجذبته مشاعر الحنين والشوق إلى الوطن، وآنسته سياط التهكم والسخرية، وليس مقاييس الجمال والقبح.

أضف تعليق

التعليقات

أ.د .احمد حاجم الربيعي ـ بغداد ـ الجامعة المستنصريةـ التربية

لقدأعجبني نقدالدكتورعدنان العوامي للنقد ، ديوان واحد يختلف فيه ثلاثة نقاد ، وهذاأمر طبيعي ، لأن النقد يخضع للذوق ، والذوق يختلف لدى كل ناقد ، وقد سررت بتحقيق هذاالديوان وارجوارسال نسخة على عنواني .