طاقة واقتصاد

لماذا لا يُربّي سكانُ الشمال الشرقي التونسي أنثى الماشية؟

  • Screen shot 2012-02-13 at 9.46.18 AM
  • sheep2
  • sheep3
  • Buttercup meadow
  • Screen shot 2012-02-12 at 5.19.22 PM
  • Screen shot 2012-02-12 at 5.21.44 PM
  • Screen shot 2012-02-13 at 9.46.02 AM

يطرح هذا المقال صنفين من القواعد الثقافية التي تؤثر في سلوكيات الناس. فمن ناحية، تُوجد ما أسميه «القواعد الثقافية العامة» التي تتقيد بها سلوكيات أغلبية الناس في المجتمع. وبعبارة أخرى، فالقواعد الثقافية العامة السائدة في المجتمع تسمح بحدوث السلوكيات الانحرافية فيه. ومن ناحية أخرى، تمنعُ ما أُطلق عليه «القواعدُ الثقافية الخاصة» الانحراف َعنها في المجتمع. فهي قواعد ثقافية يتبعها كلّ أفراد المجتمع الصغير أو الكبير بدون استثناء، كما هو الأمر في التقيد المطلق لكل العائلات المسلمة في المجتمعات العربية بعرف ختان أبنائها الذكور. يشرح د. محمود الذوادي، عالم الاجتماع التونسي في هذا المقال تأثير العلاقة الثقافية الخاصة على ظاهرة تربية ماشية الذكور فقط في الشمال الشرقي للبلاد التونسية.

سكان مدينــة رأس الجبل ونظراؤهم في قرى غار الملح ورفراف وسونين والماتلين المجاورة لا يربُّون إلا ذكور الماشية من الخيول والبغال والحمير. وهو ما حدانا للبحث عن إجابة علمية لهذا التساؤل المشروع: ما هي الأسباب التي جعلت سكان هذه المنطقة يتصرفون بهذه الطريقة؟

فمثل ذلك التساؤل يُعد تساؤلاً ذا مشروعية قوية. إذ إن الغياب الكامل لتربية ماشية الإناث من تلك الحيوانات لا يمكن إلا أن يشد انتباه أي باحث يتمتع بالفضول وبدقة الملاحظة. فعدم تربية ماشية الإناث يمثِّل في حد ذاته انحرافاً عن طبيعة الأشياء في دنيا تربية الماشية. فالعـرف وطبيعة الأشياء يقتضيان أن يقوم السكان بتربية الذكر والأنثى من الماشية على حد سواء. ولا يعنـي هذا بأي حال من الأحوال أن يتساوى عدد الإناث مع عدد الذكور من الماشية في هذه المنطقة، وإنما يعني أن يتواجد جنباً إلى جنب جنس الذكور والإناث من الماشية بنسب معقولة تسمح في نهاية الأمر بالتناسل الذي يضمن استمرار وجود التوازن بين الجنسين.

ما وراء الاقتصار على تربية ماشية الذكور
تفيد استجواباتنا لعيِّنة الفلاحين أن هناك سببين رئيسين يقفان وراء اقتصار تلك المناطـق الفلاحية على تربية ماشية الذكور. وهما:

ضيق المناطق الزراعية التي لا تسمح بتربية ماشية الإناث لقدرتها على التوالد وبالتالي الزيادة في عدد الماشية .
الاعتقاد بأن القوة العضلية لذكور البغال والخيول والحمير تستجيب أكثر لمتطلبات تلك المناطق التي تكثر فيها الجبال والتلال والهضاب.
فظاهرة الغياب الكامل لتربية ماشية الإناث في هذه المناطق من الشمال الشرقي التونسي تفسرها إذن حتمية بيئوية / إيكولوجية. فمن جهة، إن تربية ماشية الإناث من خيول وحمير وبقر ومعز وغنم سيؤدي إلى اكتظاظ حيواني شبه مؤكد بالنسبة لتلك المناطق الضيقة جداً من حيث المساحة والخالية من السهول، وأن تربية المواشي الولَّادة يتطلب شهوراً وأعواماً أحياناً قبل أن يمكن التخلص منها وذلك ببيعها بأثمان تدرّ أرباحاً مناسبة. وبعبارة أخرى، فتربية ماشية الإناث بالنسبة لفلاحي تلك الجهات تنطوي على خطر ازدياد رؤوس الماشية بحيث يصبح من الصعب على موارد وفضاءات بيئتهم الفلاحية الصغيرة الحجم أن تتحملها.

ومن جهة ثانية، فإن تنقُّل الفلاحين صعوداً ونزولاً بين الجبال والهضاب والتلال يحتاج إلى نوع من الماشية التي تتمتع بقوة عضلية أكبر. وذكور الماشية تتفوق عموماً على إناثها على هذا المستوى خاصة إذا علمنا أن تنقّل الفلاحين في هذه المناطق لا يقتصر على مجرد الركوب عليها بل يشمل في معظم الأحيان وضع أحمال ثقيلة عليها بالإضافة إلى ركوبها.

وهكذا يجد السببان المشار إليهما مصداقيتهما في رؤية الحتمية البيئوية. أي أن وعورة العمل والتنقل في أراضي تلك المناطق الفلاحية ومحدودية مواردها الفلاحية الصالحة لتربية الأعداد الضخمة من الماشية وضيق المساحات المناسبة لتربية ماشية الإناث وأولادها، كلها عوامل لم تساعد على تشجيع الناس والفلاحين في تلك المنطقة التونسية على تربية ماشية الإناث.

ورغم ما للعامل البيئوي من واقعية ومنطق في إفراز ظاهرة الاقتصار على تربية ماشية الذكور، فإن رؤية العلوم الاجتماعية لا تلغي احتمال وجود مؤثرات أخرى قد تكون هي السبب الأول أو هي السبب المساعد في تبلور هذه الظاهرة الاجتماعية أو تلك، خاصة وأن الظواهر الاجتماعية طالما تكون متأثرة بأكثر من عامل. ومن ثم، فإنه يمكن طرح فرضية العامل الثقافي كسبب رئيس أو مساهم في انتشار ظاهرة تربية ماشية الذكور في هذه المناطق الفلاحية.

أي هل هناك عقائد دينية وقيم ثقافية بين سكان هذه الجهة عملت على الحد شبه الكامل لتربية ماشية الإناث؟

فعلى مستوى العقيدة الدينية، فسكان تلك المنطقة يعتنقون الديانة الإسلامية مائة بالمائة مثل بقية سكان المناطق المجاورة لهم في الشمال الشرقي التونسي أمثال قرى عوسجة والزواوين وهنشير أتيك الفلاحي. وليس هناك في الإسلام ما يدعو إلى تحريم أو منع تربية ماشية الإناث. بل هناك ما يدعو في الإسلام بطريقة غير مباشرة إلى عكس ذلك.

فعلى مستوى احترام الأنثى من بني الإنسان، فقد انتقد القرآن بشدة عادة وأد البنات في عصر الجاهلية «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ» (النحل: 58). فغير وارد،إذن، أن تكون قيم العقيدة الإسلامية وراء امتناع سكان هذه المناطق عن تربية ماشية الإناث خاصة إذا علمنا بأن الآيات القرآنية تحفل بالحديث والإشارة إلى حكمة الله في خلق الذكر والأنثى في كل أنواع المخلوقـات «سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا» (يس: 36)، «فجعل منه الزوجيـن الذكـر والأنثـى» (القيامة: 39)، «وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ» (الشورى: 11).

أما على مستوى القيم الثقافية غير الدينية، فليس هناك ما يشير إلى أن سكان هذه المناطق متأثرون بقيم ثقافية حضارية قديمة عرفها القطر التونسي قبل الفتح الإسلامي. فالشخصية القاعدية لسكان هذه المنطقة هي شخصية منصهرة كامل الانصهار، مثل بقية شخصية التونسيين العرب والبربر المسلمين الآخرين، في بوتقة الحضارة العربية الإسلامية. وبالتعبير السوسيولوجي الحديث، ليس هناك ما يسمح بالقول إن سكان هذه المنطقة يمثلون أقلية متميزة بعقائدها الدينية وقيمها الثقافية الرئيسة عن المجتمع التونسي العربي الإسلامي. بل هم جزء لا يتجزأ من النسق العقائدي الثقافي الإسلامي العربي الكبير للمجتمع التونسي. ومن ثم فظروف البيئة الفلاحية القاهرة هي المؤهلة قبل غيرها لمدّنا برؤية فكرية نظرية تساعدنا على فهم وتفسير ظاهرة غياب تربية ماشية الإناث.

بروز ثقافة مناهضة لماشية الإناث
وإذا لم يكن هناك عقائد دينية إسلامية ولا قيم ثقافية عربية أو غير عربية في ثقافة المجتمع التونسي قد ساعدت على عدم تربية ماشية الإناث في تلك المنطقة الفلاحية من الشمال الشرقي التونسي، فإن ضيق مساحات الأراضي وقلة مواردها الطبيعية الصالحة لتربية عدد أكبر من الماشية وصعوبة التنقل بين جبالها وهضابها وتلالها تصبح العوامل الحاسمة التي أدت إلى الاقتصار على تربية ماشية الذكور، ومن ثم إلى ظهور قيم ثقافية عند سكان تلك المنطقة تنظر إلى تربية ماشية الإناث بنظرة تغلب عليها السلبية. أي إن نسق القيم الثقافية في المجتمعات البشرية تساعد على تحديد معالم المعطيات الطبيعية (الإيكولوجية) لتلك المجتمعات. فالأمر يتعلَّق هنا بنوع من الحتمية الإيكولوجية الشديدة التأثير في القيم الثقافية للأفراد والمجتمعات.

فتربية ماشية الإناث خاصة من البغال والخيول والحمير أصبح ضرباً من قبيل السلــوك الانحرافي. أي إن تربية ماشية الذكور أصبحت المعيار الاجتماعي المقبول والمزكَّى من طرف الأفراد والمجموعات لهذه المنطقة. ومنه بـرزت مواقف وتصورات مزدوجة بخصوص تربية الأنثى والذكر من الماشية. فمن جهة ، أصبحت تربية ماشية الإناث تجلب لصاحبها وصمة العار. وهذا ما ذكرتْه إحدى الطالبات المبحوثات من قرية سونين. فأهلها يعرفون بعض الفلاحيـن من منطقة أتيك المذكورة سابقاً حيث تربى أنثى الماشية إلى جانب الذكر. وكان أهل سونين ينظرون إلى تربية ماشية الإناث من طرف أصدقائهم في أتيك بشيء من الاشمئزاز، إذ إن معاييرهم الثقافية الاجتماعية تَعد تربية ماشية الإناث ضرباً من العار المشين، ومن جهة ثانية، فإن تربية ماشية الذكور أصبحت مفخرة عند سكان تلك المنطقة. ولعل تربية الحمير تفصح أكثر من غيرها من الحيوانات عن معاني الذكورية. فخلافاً للبغال والخيول، لا يُعرف الحمار بأعضائه التناسلية الذكورية فحسب بل يُعرف أولاً وقبل كل شيء بنهيقه. فنهيق الحمار يمثل رمز ذكوريته. وهو ما لا يتوافر بنفس الوضوح والتميّز عند البغل أو الحصان إذا ما قورنت أصواتهما بأصوات البغلة والفرس. أما نهيق الحمار فيتميز بكل جلاء عن نهيق نظيرته الحمارة. وبسبب ذلك، أصبح نهيق الحمار في هذا الفضاء الثقافي الذكوري في تربية الماشية مصدراً للشعور بالافتخار من طرف صاحبه لا يضاهيه في ذلك لا البغل ولا الحصان. وهذا ما تذكره القصص التي يرويها البعض عما يوحي به نهيق الحمار بالنسبة للفرد المنحدر من قرية رفراف أو غار الملح مثلاً. فنهيق الحمار عند هذا أو ذاك يُعد الصوت المفصح بكل عزة ومفخرة عن البيئة الذكورية للماشية التي ينحدر منها والتي تشبّـع فيـها صاحب الحمار من سيادة سلطة الذكر في كل من عالمي الماشية والمجتمـع البشـري الصغير الذي ولد وشبَّ وكبر فيه. ومن هنا تأتي مشروعيـة التساؤل عن العلاقة المحتملة بين التصور السلبي لأنثى الماشية، من ناحية، ونظيره للأنثى الإنسانة (المرأة)، من ناحية أخرى، عند سكان تلك المنطقة من طرف الذكور على الخصوص.

إن الوضع السابق الذكر جعل عند سكان تلك المنطقة تربية الأنثى من تلك الحيوانات وصمة عار اجتماعي كبير لا يجوز القبول به على الإطلاق. وأدت قوة تجذر ثقافة العار هذه وانتشارها الكامل بين السكان إلى تحاشي تسمية حتى العناصر الجامدة تسمية أنثى. فأهل مدينة رأس الجبل والقرى المجاورة يذكّرون مؤنث «الكميونة» (عربة نقل البضائع والناس) لتصبح عندهم «كميون»، أي مسمى ذكوري!. وبعبارة أخرى، فتأثير السلوكيات الجماعية على كل سكان هذه المنطقة تأثير شامل وكامل وقاهر لايعرف استثناءً بين المواطنين.

أي إن جميعهم لايربون إلا ماشية الذكور من حمير وبغال وخيول. وإنه لضرب من العار في ثقافتهم تربية الأنثى من تلك الحيوانات. وبالتالي فذكر ماشية الأنثى أمامهم أو الحديث معهم عنها أو مساءلتهم إن كانوا يملكونها يثير ردود فعل سلبية متنوعة تتراوح بين الشعور بالخجل والغضب العنيف. فثقافة العار إزاء تربية الماشية الأنثى هي نتيجة لما سميناه سابقاً القواعد الثقافية الخاصة السائدة لدى أهل هذه المنطقة من البلاد التونسية، بحيث هناك مشروعية قوية في نعت تأثير تلك القواعد الخاصة على سلوكيات الأفراد في هذه المنطقة بأنه تأثير اجتماعي مطلق وقاهر يشمل الجميع ولا يستثني أحداً.

فثقافة العار المحلية عندهم المانعة لتربية ماشية الأنثى تجعلهم لا يأبهون كثيراً بالقواعد الثقافية العامة السائدة في بقية مناطق القطر التونسي بالنسبة لتربية الماشية. وتتمثل تلك القواعد في أن تربية الماشية من الذكر والأنثى أمر عادي وطبيعي. وبعبارة أخرى، فقوة القواعد الثقافية الخاصة بالنسبة لعدم تربية الماشية الأنثى تجعلهم قادرين بالكامل على المحافظة على تلك العادة التي تصطدم في وضح النهار مع العرف السائد أو بالقواعد الثقافية العامة التي تشجع تربية الإناث والذكور من الماشية بالقطر التونسي.

أضف تعليق

التعليقات