قضية العدد

البحث المضني عن شركات مسؤولة..
اجتماعياً وبيئياً

  • POLUTION A4
  • POLUTION C
  • POLUTION A2

اندلعت في العالم في العقد الأخير، معركة بيئية واجتماعية بين ممثلي الشركات الكبرى ومناصري البيئة، لم تزل رحاها تدور في قاعات مؤتمرات تتنقل سنوياً من مدينة إلى أخرى، وبشعارات متنوعة تتمحور كلها حول إنقاذ كوكب الأرض من ارتفاع درجة حرارته وتلوث أصنافه، إضافة إلى الحفاظ على الإنسان والمجتمعات.

فالطرف الأول، أي أصحاب الشركات والمصانع التي تُعد مسؤولة عن الانبعاث الحراري وإنتاج سلع لا تخلو من تلوث، يتطلع إلى زيادة أرباحه وتنمية رأس ماله. أما الطرف الثاني، فيرفع لواء مناصرة البيئة والمسؤولية الاجتماعية، ويسعى جاهداً إلى إلزام الطرف الأول بها.
وبين هذا وذاك، تمكّنت مؤسسات دولية معنية بالتشريع، من سن قوانين كثيرة تصب في مصلحة الإنسان والبيئة منها «الآيزو»، وحقوق الإنسان، وحماية البيئة. لكن تلك القوانين لا تنظر إليها الشركات، إلا بوصفها توصيات وتمنيات، لأنها تفتقد إلى صفة الإلزام. الباحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية، د. يحيى مفرح الزهراني، يلقي الضوء على المسؤوليات الاجتماعية التي يجب أن تنهض بها المؤسسات والشركات.

ذر الرماد
يغدو البحث عن الشركات الملتزمة بالمبادئ الاجتماعية والبيئة مضنياً، خصوصاً أن عصر العولمة يتميز بعدد غير محدود من الشركات الكبرى والمتعددة الجنسيات، يمتلك كثير منها مصانع ضخمة ومعامل عملاقة تنتج آلاف الأطنان من الكربون يومياً، تنعكس سلباً على البيئة وعلى صحة الإنسان.

وثمّة شركات كثيرة تسعى، فيما يشبه «ذر الرماد في العيون»، إلى إيهام الرأي العام المناصر للإنسان والبيئة من جمعيات أهلية ومؤسسات غير حكومية، بأنها تلتزم بالقوانين الدولية المتعلقة بالمسؤولية البيئية والاجتماعية وتنفذها، فتعمد إلى تنفيذ مشاريع خيرية وتقديم تبرعات، في محيطها ومجتمعها لتقنعه بأنها مسؤولة تجاهه.

وقد ينطلي هذا الأمر على كثيرين، إلا أن من الخطأ حصر المسؤولية الاجتماعية والبيئية للشركات بالتبرعات الخيرية. بالطبع ليس هذا ما يُقصد بالمسؤولية الاجتماعية والبيئية للشركات, بل المقصود هو دمج هذه المفاهيم في نشاط الشركات وواجباتها تجاه مَنْ لهم علاقة بها، سواء من داخلها (مساهمين وموظفين ومتعاقدين)، أو من خارجها (مشتركين وعملاء).

ومتى ما تحقق هذا الأمر، وجعلت الشركة الهَمَّ الاجتماعي والبيئي في صلب توجهاتها وتطلعاتها ونشاطها، تأتي قراراتها مفعمة بالمسؤولية كما لا يخلو تطبيقها من العمل الأخلاقي، حتى يغدو الأمر ثقافة يتحلَّى بها الجميع، أصحاب الشركات والمسؤولون والموظفون.

كما يجدر بالشركات، أن تدرك أن المجتمع ليس في حاجة إلى تبرعاتها ومشاريعها الخيرية، بقدر ما هو في حاجة إلى أن يعرف أن له حقوقاً عليها، وأن تمارس أنشطتها بمنهج أخلاقي وتضامني. وهذا الأمر، وإن كان ليس بجديد على بعض المجتمعات وبخاصة الإسلامية، فإن تطبيقه في الواقع يتطلب منهجية تضمن التزام تلك القواعد في العمل بصفة عامة، وفي الشركات بشكل خاص.

إشكاليات الاندماج
وتبرز من خلال الاندماج التطوعي للشركات في المسؤولية الاجتماعية والبيئية داخل نظامها وخارجه بهدف تعزيز شراكتها مع المجتمع، ثلاث إشكاليات هي:

الإشكالية الأولى أن هذه المسؤولية ليست إجبارية، لذا لا تحترم الشركة التي تسعى بشكل رئيس إلى تحقيق الأرباح، مبدأ أنها عضو معنوي في المجتمع وعليها مسؤوليات وواجبات تجاهه وتجاه البيئة، علماً بأن المجتمع والبيئة يساهمان في تحقيق الأرباح، في شكل مباشر أو غير مباشر.

والإشكالية الثانية تتمثل في تحديد نوع الشركة المنخرطة في تلك المسؤولية لتكون هذه المسؤولية بحجم الشركة، علماً بأن الشركات وإن اختلفت أحجامها، فهي غير معفية من المسؤولية.

فتبرعات الشركات لجمعيات خيرية، لا تُدرج بالشكل الاصطلاحي، تحت المسؤولية الاجتماعية والبيئية، وبالتالي فإن المشاريع الخيرية قد تكون صالحة للمجتمع لفترة موقتة، لكن إلزام الشركات بالمسؤولية الاجتماعية يضفي صفة الديمومة ويلغي صيغة الاستجداء. ويحول دون بلوغ هذه المرحلة لكثير من التحديات سواء أكان لناحية إدراج المسؤولية الاجتماعية ضمن التنظيم المؤسساتي ودور مجالس المسؤولية الاجتماعية، أم لناحية الوضع التشريعي والقانوني لمختلف الأنظمة التي تتعلق بالشركات والعمال والبيئة.

قوانين وقَّعتها السعودية
وهذا النهج يكاد يكون متبعاً في معظم الدول بما فيها المملكة العربية السعودية التي وقّعت، ممثلة بوزارة العمل، غالبية قوانين العمل المعترف بها دولياً. لكن تطبيقها يتفاوت بين شركة وأخرى.

وهذه القوانين التي يجب إدخالها ضمن معايير المسؤولية ليتم تقويم الشركات على أساسها بشكل متدرج، يبلغ عددها خمسة قوانين وهي إلزامية تمثل الحد الأدنى من كل التشريعات المتفق عليها: قوانين تتعلق بمدة العمل والأجر الذي يكافئ هذه المدة، على أن يكون مجزياً للحصول على حياة كريمة. وقوانين العمر الأدنى لعمل الأطفال، وقوانين منع العمل الإجباري, والصحة ونظافة أماكن العمل, و عدم التمييز في العمل.

وتنظيم المسؤولية الاجتماعية حالياً، يقبع تحت مظلة الغرفة التجارية، ولكنه لا يتميز بالصلاحية المنتجة للقوانين أو المعايير, وهي ميزة تتمتع بها هيئة سوق المال. لذا نقترح إنشاء هيئة مستقلة تدمج هذه القوانين، لتنتهي إلى وضع معايير خاصة بمسؤولية الشركات البيئية والاجتماعية، تأخذ بمبدأ الإلزامية في فرض الحد الأدنى من المعايير مع الحرص دائماً على عدم التأثير في تنافسية الشركات وإنتاجيتها.

أما قوانين البيئة الدولية فمنها: بروتوكولات معاهدة كيوتو، والقوانين العشرة الخاصة بمبادرة الميثاق العالمي، والتعليمات المنهجية الخاصة بالشركات الدولية ومتعددة الجنسية.

وهذه القوانين البيئية، إما أن تتعلَّق ببيئة العمل نفسه، كالحفاظ على نظافتها كجزء من حماية الموظف صحياً، وتعزيز بيئة سليمة للإنتاج والعمل مهما كان النشاط, عبر إجراء اختبارات ووضع خطط للحفاظ على مستوى عالٍ وصحي فيما يتعلق بالمنتج أياً كان.

وإما أن تتعلق بالبيئة المحيطة بالشركة والمخلفات التي قد تنتج عنها. وتزيد تلك المعايير عندما يتعلق نشاط الشركة بأوجه النشاط الكيميائية أو البترولية التي قد تستلزم خططاً خاصة لدى حصول تسربات غازية أو كيميائية أو نفطية، إضافة إلى توافر الحماية للعامل والموظف القريب من الأماكن التي يُتوقع منها خطر على صحة الإنسان.

تطوُّع ومبررات متنوعة
ومع ذلك، تبقى تلك التشريعات دون صيغة إلزامية أو تطوعية، وتختلف دوافع الملتزمين بها بين من يعلِّل التزامه المسؤولية الاجتماعية بالأخلاق، ومن ينادي بروح التعاون الدولي، ومن يبرره بضرورة ممارسة نشاط يساعد به في تنمية المجتمع، ومن يذهب إلى أن المسؤولية الاجتماعية والبيئية ستخدم الشركة نفسها في مجال التسويق وتجميل صورتها.

أما فيما يتعلق بطرق تطبيق مفهوم المسؤولية فتتنوع وتراوح بين الميثاق الدولي، ومعيار SA800، أو ابتكار الشركة نوعاً جديداً من البرامج الداعمة للمجتمع، كدعم المؤسسات الصغيرة أو التعليم أو التدريب.

وفي المجتمعات الشرقية، تدخل مفاهيم مبادئ التضامن والتكافل الاجتماعي لتعطي حافزاً أكبر للشركات والقائمين عليها، لدعم المجتمع ببرامج نوعية ذات أهداف تنموية وتحفيزية لكل أفراده. وهذا ليس بغريب على بعض المجتمعات مثل الذي نعيش فيه، لكن الدور والمسؤولية الملقاة على عاتق أصحاب الشركات كبيرة في فهم دورهم في المجتمع، إضافة إلى تحقيق هدفهم المنشود وهو تحقيق الربح المادي.

فالمطلوب الآن هو الوعي بدور الشركات كوحدة بناء للمجتمع، لأن تطويره ليس فقط من مؤسسات الدولة، بل هي تتقاسمها مع شركات القطاع الخاص ليكون هناك محور ذو ثلاثة أطراف: المجتمع والشركات ومؤسسات الدولة، ولكلٍ دور يؤديه في تطوير المجتمع وتنميته.

خطوات صغيرة نتائجها كبيرة
وبعيداً عن كل تلك القوانين والالتزامات، يمكن للشركات والمؤسسات، صغيرة كانت أم كبيرة، أن تعمد على أمور بسيطة تكون نتائجها على المدى الطويل كبيرة من الناحية البيئية، إذ يمكنها أن تتجنب إنتاج مخلفات ورقية وبلاستيكية الناتجة عن الفواتير وتغليف المنتجات، عبر استبدال الفواتير الورقية بالفواتير الإلكترونية، كما يمكنها اعتماد البريد الإلكتروني، وأن تخفف في عملية التغليف قدر الإمكان من استخدام الورق والبلاستيك مع المحافظة على جودة المنتج بطريقة ذكية. وكذلك يمكن للمؤسسات استخدام وسائل الإضاءة الصديقة للبيئة ما يخفف إنفاقها على الكهرباء، والأمر نفسه فيما يتعلق بالمياه.

أما الشركات التي يتركز نشاطها على المنتجات الكيماوية والبترولية فيمكنها تقليل الانبعاثات، ومعالجة المخلفات، وتنقية الهواء والماء، واستخدام وسائل عضوية.

وهذه الوسائل وأوجه النشاط المبتكرة في الحفاظ على البيئة، تحتاج إلى دراسة وأبحاث ليتم تبنيها بنطاق أوسع وأشمل ولكي تصبح ثقافة الحفاظ على البيئة في القطاع الخاص جزءاً من العمل، يجب علينا التفكير بمبدأين أساسين هما: الحفاظ على البيئة واجب تجاه المجتمع والوطن. الحفاظ على البيئة وتبني الأساليب الحديثة يسهم في ربحية الشركة على المدى البعيد.

أضف تعليق

التعليقات