إبراهيم أصلان اسم كبير في عالم الرواية العربية. كان صاحب مشروع عبّر عنه بأعمال سردية توزعت بين القصة والرواية والمقال السردي «السيرذاتي». رحل أصلان في 7 يناير 2012م عن 77 عاماً، أمضى معظمها بعيداً عن الأضواء.
هويدا صالح، تلقي الضوء على جانب من حياته وكذلك على أعماله وما تتميز به من جماليات سردية وشخصيات مهمشة.
بالرغم أن إبراهيم أصلان غادرنا بجسده، فإنه لن يغادرنا أبداً لأن عوالمه السردية تسكن فضاءات كتاباتنا حتى لو نعي ذلك. فصاحب «يوسف والرداء» و«صائد العصافير»، الذي كان شغوفاً باصطياد اللحظات الإنسانية في عاديتها ودهشتها ليدخلها عالمه السردي، طالما عرف كيف يبحث في قصصه عن النقطة الجدلية الحية التي تمتزج فيها الحياة بالكتابة، خصوصاً أنه كان صياداً ماهراً يقضي جلّ وقته في صحبة النيل على شاطئ إمبابة.
وصاحب «بحيرة المساء»، قلما لكلام شغوف بأعمال السردية لأنه كان يخجل كثيراً ممن يكيل له المديح، حتى ولو كان مبتدئاً كما حصل مع كاتبة هذه السطور عندما التقته في مجلة «أدب وفن» التي كان مستشارها ويزورها كل أحد ويجيز بعض القصص للنشر. و«العم إبراهيم» هو الذي أجاز نشر أول قصة لي في المجلة عام 1990م بعدما حذف منها مقاطع. وبالرغم من إجازته القصة، كان غير راض عنها لأنها تفتقر إلى الشخصيات الهامشية.
فهو دائماً يبحث عن الشخصيات الهامشية ليكتب عنها، وهذا ما أراده من سواه. كان يحض على التقاط الأبطال من حواري المدن المنسية وشوارعها. كان يحض على البحث عن هؤلاء الذين ينتظرون أن ينتصر الكاتب لهم من واقع رديء. وكان يعد أن الكتابة عن الأبطال لا تزيد شيئاً إليهم، فتاريخهم مكتوب آلاف المرات، أما الذين يستحقون أن يوجدوا في القصة فهم الهامشيون الذين يجب أن يحتلوا فضاء السرد.
أراد أن تظهر خصوصيتهم في القصة، وأن يرى لمعة عيونهم حين تروى قصصهم المنسية. أراد أن تسرج المصابيح لتضيء عوالمهم المهمشة، وأن ترسم الكتابات القصصية شخصية كاتبها وعلى أي شيء خارج شروطها الخاصة أن يتنحى. فالقصة، في رأيه، هي اختزان الكثير في الأقل. ولا يمكن من كانت له علاقة روحية ونفسية بإبراهيم أصلان، أن يتحدث عنه دون أن يطل بشكل بانورامي على أعماله السردية التي توزعت بين القصة والرواية والمقال السردي «السير ذاتي».
فقد بدأ مشروعه كاتباً للقصة بمجموعة لافتة للنظر بعنوان «بحيرة المساء» في بداية السبعينيات. وتميز في هذه المجموعة القصصية، بأنه راهن أيضاً على تفاصيل حيوات المهمشين، ولكنه لم يكتبها بثرثرة وفيض سردي، بل كتبها بكثافة لغوية أوصلت لغة السرد إلى تخوم الشعر، وكان فيها اللامقول أكثر من المقول، وصارت مساحات البياض فيها أكثر من السواد مما يمكن القارئ من أن يقيم جدلاً مع نص أصلان، ويعيد إنتاجه، بل ويمكن له أن يكتب سيناريوهات خاصة به عن تلك الشخوص التي تركها أصلان دون بوح، بل جعل تفاصيلها تكمن وراء البياض.
إذن القارئ مع نصوص أصلان، يجد نفسه مشاركاً في إعادة إنتاج النص، وهذا ما قالته نظريات القارئ والاستجابة: إن القارئ مشارك أصيل في إعادة إنتاج النص، وأن النص الذي لم يقرأ لم يكتب أصلاً.
كثير من الكتَّاب حاولوا التجريب وإزاحة الحدود بين الأنواع الأدبية، وإنتاج نص لا يمكن تصنيفه، لكن تبقى السيرة الذاتية هي من أكثر الأنواع الأدبية إثارة للنقاشات، لأنها لا تريد أن تستقر. فهي، جنس أدبي مراوغ وغير محدد الملامح، ذلك لأنها تشتبك مع أجناس أدبية أخرى كاليوميات والمذكرات والرسائل وقصائد السيرة، والشهادات، والحوارات الشخصية، كما أنها تشتبك مع هذه الأنواع حين تستعير آليات عملها ومنطقها الفني. لكن السيرة الذاتية الصريحة قل تداولها في الأدب العربي، وذلك لكثرة القيود التي تتحكم في كتابتها، ما جعلها تسرب مضامينها وأشكالها إلى السرد تحاشياً وتجنباً لإرجاع السيرة الذاتية إلى كاتبها الحقيقي، وليس المؤلف الضمني، وما ينتج عن ذلك من تقويم سالب للكاتب، فيفر إلى ما يعرف مثلاً برواية السيرة الذاتية، أو السرد «السير ذاتي»، أو يتخفف من بعض اشتراطات كتابتها، كالسرد بضمير الغائب، أو اللجوء إلى التعديل والحذف.
إن السرد متقاطع بطريقة ما مع مفهوم السيرة الذاتية، ويُعد توماس كليرك السيرة الذاتية «أكثر من جنس أدبي، إنها نمط من الخطاب». لكن لو إننا اعتبرناها نوعاً من الخطاب الرؤيوي للعالم، فهذا يدفعنا للتساؤل عن تجنيس السرد الروائي وتقاطعه مع مفهوم السيرة الذاتية واعتبارها «جنساً أدبياً»، فإن اختلافها الجوهري عن التخييل يمر «عبر الإحالة على ضمير متكلم ملموس وليس على شخصية متخيلة»، مما يفرض اعتبارات حاسمة في عملية تلقي الأدب.
ومعرفة الذات هي أحد الأهداف الرئيسة التي يراهن عليها كاتب السيرة الذاتية. وتمثل وظيفة التواصل بعداً آخر يفيد في إيصال التجربة الخاصة إلى الآخر. ولا تقف رهانات السيرة الذاتية عند حد، فهناك روايات أفادت بشكل مركزي من تقنيات السيرة مثلما فعل إبراهيم أصلان في جل مشروعه السردي.
في روايته الأولى «وردية ليل» يقدم لنا عالماً مليئاً بالتفاصيل الحميمة التي أجادها أصلان، عن سليمان موظف البريد المكلف بتوزيع البريد، العم جرجس الرجل الذي استطاع بملامحه الطيبة، وعلاقاته الإنسانية البسيطة مع الموظفين أن يمثل فضاء سردياً مغايراً التقطه أصلان في الوقت الذي كان جيل الستينيات الذي ينتمي إليه أصلان يحرص على الحكاية ذات الحبكة الدرامية الكلاسيكية. فأصلان في ذلك العمل السردي الذي ضمّ سروداً متجاورة لا يربطها إلا رابط وحيد هو المكان الذي تجتمع فيه شخوصها، كسّر حدود الرواية الكلاسيكية، صدرت الرواية في طبعتها الأولى عن دار شرقيات، وأحدثت رد فعل واسعاً بين قراء الرواية وكتابها، لأن في هذا التوقيت كانت الروايات تراهن على الحكاية المحكمة بحبكتها السردية وروابطها الزمكانية . لكنه في هذا النص قدَّم لنا سرديات متتابعة يربطها فقط مكان الفضاء السردي: هيئة الاتصالات التابعة لمؤسسة البريد المصري، وشخوصها سليمان وجرجس ومن يتعاملون معهم من أصحاب الخطابات والبرقيات. عالم المهمشين. أفلح أصلان في أن يرصد وقائعهم الصغيرة، أو حيواتهم البسيطة جداً في إيقاع يومي ليلي رتيب. عالم العاملين في البريد، واطلاعهم على حيوات من يوصلون لهم المراسلات والتلغرافات والبرقيات، وتلك النماذج الإنسانية المهمشة هي الأخرى والملتاعة بحزن يبدو مقيماً لا يريد أن يفنى تحت وقع مراود الحياة. كتابة تفيض بالحنين والذكريات.
وكذلك تجلت السير ذاتية في مجموعة من المقالات السردية عنونها أصلان بـ «خلوة الغلبان». صحيح أن «دار الشروق» التي أصدرت النص عام 2002م لم تصنفه، ولم تكتب على غلافه تصنيفه الإبداعي، إلا أن كثيراً من القراء والنقاد تعاملوا معه باعتباره رواية. لكنني أتحفظ في التعامل معه كنص روائي. وعلى رغم أن السارد واحد هو إبراهيم أصلان نفسه باسمه وتاريخه الشخصي كما يتضح من السرديات، إلا إنها تظل مقالات كتبت بلغة سردية عالية الشعرية، كما أنه التقط تفاصيل إنسانية بسيطة ودالة كدأبه في كل كتاباته.
من المؤكد أن «خلوة الغلبان» نموذج صارخ يقع في تلك المنطقة البينية، بين السيرة الذاتية والسرد السيرذاتي، فهي ليست سيرة ذاتية خالصة يوثق فيها الكاتب لحياته وفق الشروط التي وضعها فيليب لوجون وسبقت الإشارة إليها، كما أنها ليست رواية بالمعنى المتعارف عليه لسبب بسيط، وهو أن أصلان حاضر بشخصه كراوٍ للعمل ومشارك في الأحداث التي يتم انتخابها، بل يغالي في مراوغة الكاتب فيذكر أسماء شخصيات حقيقية، لكنه يضعها في آفاق سردية صانعها هو، وهو الحكم والفيصل في صدقها من عدمه، فنجده يذكر نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف إدريس والغيطاني وغيرهم من الكتَّاب والأعلام الحقيقيين، لكن المنطلق السردي يصنعه هو وفق مخيلته التي تستعيد أحداثاً بعينها، يقوم بانتخابها بعناية، ويتورط فيها كبطل وسارد في آنٍ، بطل لزمن مستعاد، وسارد لزمن حاضر، كما هو متفق عليه في تقسيمات الزمن في السيرة الذاتية.
حافظ على مسافات السرد المشدود إلى ذاكرة متدفقة تحفز وجودها في الأمكنة العديدة، مستفيدة من حضور الكاتب، الراوي الذي يفيض شاعرية وشفافية، ويستطيع تقديم مشاهد معبّرة عن إيقاعات متنوعة في الحياة. إن الماضي هنا ليس مجرد مساحة زمنية لحركة الأحداث والوقائع، بل هو ملجأ سردي نصعد منه عبر مستويات الزمن كلها إلى أحلامنا وتشوّفاتنا دون أن نبتعد عن طفولتنا. هكذا تصبح مقاربة الماضي فعلاً نوستالجيا أكثر قسوة وإشراقاً من مجرد التذكّر البارد.
إن منطق الكشف السيري الذي اعتمده أساساً لعمله هو منطق مثقف يستعين ويقارب كل ما هو متاح من رؤى وأفكار ومعارف، من أجل تعميق صلة الكتابة بالحدث والارتفاع بذلك إلى مستوى الفن.
النص الذي أعطى الكتاب عنوانه هو «خلوة الغلبان»، وكما نفهم من السرد فـ «خلوة الغلبان» هي قرية تقع في شمال مصر كان ينتمي إليها يهودي مصري اسمه «جاك حسون» هاجر من مصر قديماً بصحبة عائلته، لكنه يظل يشعر بالحنين لكل ما هو مصري. فحين عرف بوجود مجموعة من الكتاب ومن ضمنهم إبراهيم أصلان سعى للتعرف إليهم لأنه يشم فيهم رائحة مصر، وحين يكتشفون أنه يهودي يرتبكون، فهم كمثقفين لهم موقف واضح من كل من هو يهودي. وفي هذا السرد المختزن بالدلالات تكشف لنا رؤى إبراهيم أصلان ومواقفه من قضايا مثل التطبيع وغيره.
وكذلك في نص «أم عبده» يقدِّم لنا سردية تفيض جمالاً عن «أم عبده» التي ترسل تحياتها الدائمة لـ «سي نجيب»، وتقصد نجيب محفوظ الذي عرفته بعد نيله جائزة نوبل، وعرفت قيمة هذه الجائزة العظيمة من احتفاء الإعلام المصري بها، ما جعل «أم عبده» تتعامل مع نجيب محفوظ كفرد من عائلتها، بل وترسل له التحيات كلما صادفت إبراهيم أصلان، خصوصاً أن ابنها البكر ولد يوم إعلان فوز محفوظ بجائزة نوبل. وفي عيد ميلاد محفوظ التسعين، يزجي أصلان إليه بتحيّة البسطاء: «الناس كلّهم، وخصوصاً أم عبده، بتسلم عليك».
وفي واحدة من أجمل المقطوعات التي يضمها الكتاب وحملت عنواناً «في ذكرى رحيل كاتب بديل»، ينحت إبراهيم أصلان تمثالاً باقياً لكاتب مجهول لدى طليعة قرّاء العربيّة، هو «عبد المُعطي المسيري»، الذي عاش مُحكِّماً من الباطن في المسابقات الأدبيّة، يقبض حقوقه الماليّة البسيطة من المُحكِّمين الرسميين الذين تُعيِّنهم أجهزة الدولة الثقافيّة. وعندما يَرحَل الرجل إلى الدار الآخرة، لا يجد أهله إنساناً يُسهم في حمل جثمانه إلى مثواه الأخير. فقد مات في يوم رحيل جمال عبد الناصر!.
وكذلك قدَّم لنا سردية افتتح بها الكتاب عن رصده بلغة مشهدية بصرية، سائق تاكسي أوقفه في شارع تقع فيه السفارة الأمريكية ومنع فيه وقوف سيارات الأجرة. واللافت في هذه السردية، تلك اللغة البصرية التي صور بها اللحظات التي قضاها بصحبة هذا السائق العجوز البائس الذي يقود سيارة متهالكة، وحيرته وحزنه لأن شرطي المرور أخذ رقم سيارته، وسجل عليه مخالفة مرورية. هي شخصية هامشية أخرى تلتقطها عيون إبراهيم أصلان.
كذلك هناك سمة أخرى يقدِّمها أصلان في كتاباته وهي السخرية اللاذعة ، والاعتماد على بنية المفارقة، ظهرت تلك السمة جلية في سرديات «خلوة الغلبان»، فقدَّم لنا سرديات كثيرة تعتمد على المفارقة مثل سرديته عن الناقد الصديق الذي كان قادراً ببساطة على أن يتحدث في أي عمل حديث، مطولاً من دون أن يقرأ هذا العمل. أو السردية التي صور فيها بشكل ساخر موقف المجلة العربية التي قررت أن تعد ملفاً عن وفاة نزار قباني. وقررت دون أن تحسب العواقب، أن تأخذ رأي كل من جوروج أمادو وجابريل جارثيا ماركيز في وفاة نزار قباني. وللمفارقة أن الكاتبين العالميين لم يكونا يعرفان من هو نزار قباني، وفي لغة ساخرة يكشف لنا كيف أننا نتخيل موقعنا على خريطة الآداب العالمية، وفي مفارقة عجيبة يصدم القارئ صدمة كبيرة حين يكشف له أن هذين الأديبين الرمزين على مستوى العالم لا يعرفان من هو نزار قباني.
السخرية والمفارقة ذاتهما، يقدِّمهما لنا في نصه «أنا وصديقي والعالمية» الذي يسخر فيه من تكالب الكتَّاب المصريين على الوصول للعالمية، وترجمة أدبهم، وبتلك السخرية اللاذعة يناقش فكرة آليات الكتابة والترجمة، ومحاولة بعض الكتَّاب مغازلة الترجمة بالكتابة بمقاييس ومواصفات تكرس لرؤية القارئ الغربي للأدب العربي.
في النهاية تميز أدب إبراهيم أصلان بأنه أدب يعرف قيمة الحياة، ويعرف كيف يبحث عن تفاصيلها، ولقد تمثَّل دوماً وجهة نظر الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي في الكتابة عما يعيشه ويعرفه، وعما ينشغل به من تفاصيل صغيرة عبر «الكتابة بالمحو»، في لغة مختزلة بعيدة عن الحشو والتصنع.
أجاد أصلان الاقتصاد اللغوي، وانتقى شخصياته من شرائح المهمشين في المجتمع، وحرص على الاختزال والمحو أكثر من الاستفاضة والثرثرة، حتى إن مساحات البياض في كتابته أكثر كثيراً من مساحات الفضفضة.