عبده خال، سعد الدوسري، عبدالله باخشوين، محمد علوان، يوسف المحيمد، وغيرهم.. أسماء سعودية عبّرت، بوضوح، عن جدارة السرد السعودي، وقدرته على التلبّس بواقعه وبيئته الاجتماعية. وفي أعمالهم القصصية القصيرة الكثير من المفردات الجمالية الشفيفة، والتنوع النابض بالحياة والحراك الشعبي والاجتماعي والإنساني. وهذا يدلل ـ بدوره ـ على ما شهدته المملكة من طفرة أدبية كبيرة وتطوير ملحوظ على الساحة.
إن القاص السعودي أحس بأنه قاب قوسين أو أدنى من المتغيرات الفكرية والفلسفية التي فجرت مصطلحات غاية في الغرابة والغموض، وابنثقت منها قضايا صراع الحضارات والحداثة والعولمة، وما بعد الحداثة التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الإبهام.. فكان لا بد من التسلح بجذوره الأصيلة، ومواجهة هذه المتغيرات الضالة بالأدب الرصين الهادف، الذي لا يخذل القاريء بسطحيته، أو انغماسه في حالات الضبابية..!
وهناك الكثير من الإشارات الجمالية والواقعية في قصص هذه الأسماء، بمعنى إنهم اهتموا بواقعهم من خلال المعالجات الجمالية المتصلة بما وصلت إليه القصة القصيرة العربية من تقنيات ورؤى ومعطيات..
قصة عبده خال “القبر”، واحدة من نماذج كثيرة تشير إلى ما لدى القاص السعودي من مستوى في التعاطي مع البنية السردية. القصة تطرح حالة صراعٍ بين رجلين يتقاتلان قتالاً غير متكافيء؛ فأحدهما بدين يصوّره القاص بدقة حتى نكاد نراه بأعيننا قميئاً شريراً، في حين نتعاطف مع الآخر النحيف المتضائل جسداً..!
موقع الصراع هو مقبرة نائية، حيث لا شاهد على ذلك القتال المنعزل. وسبب الصراع هو الرغبة في الاستحواذ على قبر يدعي كلا الرجلين أنه قبر أبيه، ويؤكد تأكيد المتيقن أنه دفن أباه في المكان ذاته..!
بعد احتدام الخلاف؛ يدرك النحيف أنه سيصبح ـ بعد وصول الخلاف إلى عراك ـ فريسة بين يدي هذا العريض المفتول الذراعين؛ فما كان منه إلا إشهار مسدس في رأس خصمه الذي انصاع ـ تحت التهديد ـ إلى الأوامر، في الوقت الذي أصرّ على موقفه من مكان قبر أبيه..!
القصة المحتشدة بالشاعرية والسلاسة تذهب صوب تأكيد ما للقوة من قدرة على الفعل والتأثير. والسرّ الذي يلعب عليه القاص، عبده خال، ليس اختلافاً في “مكان” بقدر ما لهذا المكان من أهمية لدى مالك القوة/ المسدس. المكان، في ادعاء النحيف، يحتفظ بكيس ذهب مدفون مع الميْت. ولهذا فإن القوة/ المسدس في يد النحيف، تُحاول إجبار القوي الأعزل على حفر القبر…!
إنه عين الجحيم.. أن تصير المقابر ساحاتٍ يعبث بها الأقوياء. وعبده خال يدّخر الظاهر الخادع، في القصة، إلى الوقت المناسب. ففي الوقت الذي يمهّد للتعاطف مع البطل النحيف ذي العظام البارزة والعضلات الضامرة؛ فإنه، لاحقاً من زمن القصة، يكشف عن شرّير أشد شراسة من ذلك الرجل الضخم الذي تكاد شراسته تفيض، في البداية، على ورق القصة، وتدعونا إلى اتخاذ موقف كراهية منه، ثم ننقلب، لاحقاً، إلى الموقف المقابل تماماً..!
يُضاف إلى هذه الرمزية الشفيفة؛ أن عبده خال اعتنى بثلاثة محاور لعرض تجربته القصصية: فهناك السلاسة والتلقائية في السرد الذي وظف ضمير الغائب الذي تواشج وضمير المخاطب تارة، وضمير المتكلم تارة أخرى.. وهناك الفقرات الحوارية بين الشخصيات التي اتسمت بالاستخدام الدرامي لإكمال البناء السردي دون مبالغة.. وهناك المراوحة بين النثر والشاعرية التي نجحت بمفردات شفيفة أقرب إلى الشعرية..
وقبل هذه التقنيات والأساليب؛ هناك الموقف والرؤية اللتان انكشفتا عبر لغة غير مباشرة، واستهدفتا قراءة مكامن دفينة في النفس البشرية المغلفة بالظاهر المخادعة.. إنها رؤية تجسد السرّ الذي لا ينكشف منذ البداية..!