كثيراً ما تطالعنا وسائل الإعلام بأخبار تتحدث عن انهيار مؤسسات اقتصادية ضخمة، يفترض أنها تضم أعداداً كبيرة من أصحاب العقول الكبيرة والمبدعين والإداريين المتفوقين.. وكثيراً ما يفسَّر هذا الانهيار بخطوة استراتيجية خاطئة أقدمت عليها هذه المؤسسة وأدت إلى إفلاسها. فكيف يمكن أن يخطئ مديرون مشهود لهم بالتفوق والنجاح مثل هذه الأخطاء القاتلة، وهم الذين شقوا طريقهم إلى القمة من خلال سلسلة طويلة من القرارات الصائبة.
ليلى أمل تجيب عن هذا السؤال المحيِّر. وفي الأمثلة التي تعطيها ما قد يفاجئ القارئ.
في حياتنا اليومية العادية، نتخذ عشرات القرارات. بعضها صغير وعادي، وبعضها كبير وأكثر أهمية، ذو تأثير كبير في حياة المعنيين به. وفي الحياة العملية، يزداد تعقيد القرارات، ويتسع محيط تأثيرها.
ولهذا، يؤكد خبراء الإدارة دائماً على أهمية عملية اتخاذ القرار، وضرورة الاستعداد الجيد لها. علينا أن نجري التحليلات الدقيقة، ونزن الأمور بعناية فائقة، ونراجع كافة البدائل، ونقلب الأمر على كل أوجهه الممكنة. لكن الحقيقة التي تسترعي الانتباه وتتطلب التوقف أمامها، هي أنه بالرغم من كل ذلك، هناك قرارات كبرى، يتخذها أشخاص أذكياء ومسؤولون، يعتمدون على أدق المعلومات وأفضل النوايا، تأتي نتيجتها لتثبت كم كانت هذه القرارات منذ البداية خاطئة.
لدينا قصة جارجين شريمب، المدير التنفيذي لشركة ديملر- بينز. الذي قاد الإندماج ما بين شركتي ديملر وكرايسلر، رغم المعارضة التي واجهها هذا القرار. بعد سنوات تسع، اضطرت ديملر للتخلي عن كرايسلر في صفقة جديدة للحد من خسائرها.
وهناك قصة ستيف راسل المدير التنفيذي لشركة «بووتس» البريطانية المختصة ببيع المستحضرات الطبية. فقد قرر راسل اعتماد استراتيجية جديدة، لتمييز الشركة عن منافسيها ودفع نموها، وذلك عبر تقديم عدد من الخدمات الطبية داخل فروعها كالعناية بالأسنان. لكن اتضح فيما بعد أن مديري «بووتس» لم تكن لديهم المهارات اللازمة للنجاح في المجالات الجديدة. بالإضافة إلى ما اتضح من الربحية القليلة لهذه المجالات. فطالت خسائر هذه الاستراتيجية راسل نفسه، إذ أسهمت في سرعة رحيله عن المنصب الأعلى في الشركة.
هاتـــــان القصــــــتان وغيرهما الكثير في عالم الأعمال، تثيران التساؤل: كيف يمكن للمدير الذي يملك كل المهارات والخبرات اللازمة لإدارة شركته، أن يتخذ قرارت يتضح بعد مدة قصيرة أنها كانت أخطاءً فادحة؟ وهل يمكننا تجنب مثل هذه الأخطاء؟
كيف نقوم باتخاذ القرارات؟
لنرى الأمر بوضوح أكبر، علينا أولاً أن نفهم العمليتين الرئيستين اللتين نعتمد عليهما في اتخاذ القرارات. فالمخ يزن ويقيس المعلومات المتوافرة أمامه عن طريق عملية «تعرف الأنماط»، ثم يقرر التفاعل مع هذه المعلومات، أو تجاهلها، استناداً للارتباطات العاطفية المحفوظة في ذاكرتنا. وكل من هاتين العمليتين محل ثقة ويعتمد عليها جيداً، لكن في بعض الحالات وتحت ظروف معيَّنة يمكن أن تخذلنا بشدة.
«تعرف الأنماط» هي عملية معقدة تستخدم المعلومات التي تتعامل معها أكثر من 30 منطقة من مناطق المخ. فعندما نواجه موقفاً جديداً، نبدأ بوضع فرضيات حوله بناءً على الخبرات والأحكام السابقة. وبهذه الطريقة، يستطيع مخ لاعب الشطرنج الخبير، أن يصل إلى حركة عالية المستوى في مدة زمنية قصيرة تصل إلى ست ثوان، عن طريق البناء على أنماط رآها وتعامل معها من قبل.
لكن تعرف الأنماط يمكنه أن يقودنا في الاتجاه الخطأ. فعند التعامل مع مواقف تبدو مشابهة لمواقف سابقة، قد تدفعنا هذه العملية إلى التفكير في أننا نفهم الموقف بجميع تفاصيله، في حين أن حقيقة الأمر ليست كذلك.
في العام 2005م، كان الجنرال ماثيو برودريك رئيس مركز عمليات الأمن الداخلي الأمريكي، مسؤولاً عن إشعار الهيئات الحكومية العليا إذا تصاعدت حدة الإعصار «كاترينا»، وأصبح يشكِّل خطراً داهماً على مدينة نيوأورليانز. كان برودريك صاحب خبرة مكثفة في العمل في مراكز العمليات في الكثير من التحركات العسكرية على مدى سنوات حياته المهنية، كما أنه قاد مركز عمليات الأمن الداخلي الأمريكي خلال عدة أعاصير سابقة ضربت بلاده. وقد علمته هذه الخبرات أن التقارير الأولى حول حدث كبير تكون غالباً غير دقيقة كفاية. وأنه من الأفضل أن ينتظر حتى يحصل على الحقيقة المؤكدة قبل أن يبدأ في التصرف. لكن الأمر كان مختلفاً هذه المرة، ولم يكن في جعبة الجنرال برودريك خبرة سابقة مع إعصار يضرب مدينة ينخفض مستواها عن مستوى سطح البحر.
في نهاية يوم 29 أغسطس للعام 2005م، كان برودريك قد تلقى عدة تقارير عن تصاعد الموقف، واحتمال وصوله إلى حدود خطرة. إلا أنه تلقى أيضاً تقارير معاكسة. كما عرضت القنوات التليفزيونية مشاهد لسكان المدينة يحتفلون بعبور الإعصار عبوراً هادئاً وبزوال الخطر عن مدينتهم. وقادت عملية «تعرف النمط» التي أجراها برودريك، أو جرت في عقله من دون تحكم، إلى الوصول إلى أن هذه التقارير المعاكسة هي الحقيقة التي كان ينتظرها. لذلك، أصدر تقريراً قبل انصرافه إلى منزله في المساء يقول فيه إن الوضع لم يصل إلى مرحلة الخطر، إلا أنه يحتاج إلى مزيد من البحث والتأكد في اليوم التالي. وبعد ساعات من إصدار التقرير، اجتاح الإعصار مدينة نيوأورليانز وأحدث فيها دماراً غير مسبوق.
أما العملية الثانية التي نعتمد عليها في اتخاذنا للقرارات، فهي الربط العاطفي. والتي تتشكل بواسطتها الروابط بين مشاعرنا المختلفة والأفكار والخبرات المحفوظة في ذاكرتنا. هذه الروابط هي التي تخبرنا ما إذا كان علينا أن نعطي انتباهنا لشيء ما أم لا، وتحدد لنا رد الفعل المناسب إن قررنا الانتباه له. وتشير أبحاث الدماغ إلى أهمية هذه الروابط العاطفية في عملية اتخاذ القرار. فحين تتعرض مناطق المخ المسؤولة عن تكوين هذه الروابط للإصابة، تصبح عملية اتخاذ القرار بطيئة وغير فعالة. وذلك على الرغم من عدم تأثر قدرة المخ على التفكير والتحليل المنطقي.
وكما كان الأمر مع تعرف النمط، فإن عملية الربط العاطفي تساعدنا على اتخاذ قرارات صحيحة، لكنها أحياناً تحيد بنا عن ذلك. كانت شركة «وانج» واحدة من أهم شركات البرمجيات في أوائل الثمانينيات، وكان الجزء الأكبر من نجاحها يأتي من برامج معالجة النصوص التي كانت الشركة تقوم بتصميمها. وفي الفترة الأولى من ظهور الكمبيوتر الشخصي إلى النور، رأى مؤسس الشركة آن وانج أن مستقبل الشركة سيكون مهدداً إن لم تقم بالدخول في هذا القطاع. وبالفعل صمم «وانج» جهاز كمبيوتر شخصي، لكنه اختار أن يصمم له نظام تشغيل خاص، بدلاً من الاعتماد على نظام التشغيل «آي بي إم» الرائج وقتها، والذي أصبح نظام التشغيل المعتمد في صناعة الكمبيوتر الشخصي. فقاد هذا الخطأ الشركة إلى النهاية خلال سنوات قليلة، وكان سببه كراهية وانج لشركة «آي بي إم». فقد كان يرى أن «آي بي إم» سطت على تكنولوجيا جديدة كان قد ابتكرها في بداية حياته العملية. وهذه المشاعر جعلته يرفض تماماً أن يعتمد في جهازه نظام تشغيل مصدره الشركة التي يكرهها إلى هذا الحد.
لماذا لا يلتقط المخ هذه الأخطاء ويقوم بتصحيحها؟ السبب الأول هو أن معظم العمل العقلي الذي نقوم به، يكون بطريقة غير واعية. لهذا يكون من الصعب أن نراقب المعلومات والأفكار والمنطق الذي استخدمناه حين قمنا باتخاذ القرار. فنحن نقوم باكتشاف الأخطاء في نظامنا، فقط بعد أن نرى نتائج هذه الأخطاء. ماثيو برودريك عرف أن قاعدة «الحقيقة المؤكدة تأتي متأخرة» لا تصلح للحكم في كل الأحوال، لكن فقط بعد أن وقعت كارثة إنسانية هائلة. وآن وانج وجد أن إطلاقه لنظام تشغيل خاص كان قراراً خاطئاً، لكن بعد أن لاقى جهاز الكمبيوتر الذي طرحته شركته في السوق فشلاً مؤكداً.
ومما يزيد من تعقيد المشكلة هو أن تفكيرنا في معظمه يدور بصورة غير واعية. وثمة مشكلة أخرى مصاحبة هي طريقة هذا التفكير. فالمخ لا يقوم بعملياته بالطريقة «الأكاديمية».. تحديد الخيارات، ثم تعريف النواتج المطلوبة، ثم قياس كل من الخيارات على هذه النواتج. فبدلاً من ذلك، نقوم بتحليل الموقف باستخدام تعرف النمط، ثم نصل للقرارات حول الفعل، أو عدمه، عن طريق الربط العاطفي. وكل من العمليتين تحدث في الحقيقة بصورة لحظية.
توصلت الدراسات التي قام بها عالم النفس الأمريكي جاري كلان، إلى أن المخ يقفز إلى الاستنتاجات، ويقاوم إعادة التفكير في البدائل. كما أنه يقاوم إعادة تقييم الموقف، أو تغيير الإطار الأول الذي رآه عبره. وفي اختبار تجريه كلية أشريدج للأعمال، يُطلب من الدارسين تقديم نصيحتهم لشركة تريد أن تستثمر في تكنولوجيا جديدة أنتجتها، ويشير الاختبار إلى هذه التكنولوجيا الجديدة على أنها فرصة واعدة. بعد ساعات من البحث والتحليل، يصل بعض الدارسين إلى خطأ اعتبار هذه التكنولوجيا فرصة واعدة من الأصل، ويبدأون في رؤيتها بطريقة صحيحة كتهديد لوضع الشركة المادي وموقعها في السوق. وعلى الرغم من تأكيد التحليل والأرقام، للتأثير السلبي لهذه الخطوة الجديدة على الشركة، إلا أن النسبة الأكبر من الدارسين، لا تستطيع الخروج من الإطار الأول الذي رأت فيه هذه التكنولوجيا، وتأتي إجابتهم بتشجيع الإقدام على الاستثمار بقوة فيها.
عوامل ثلاثة للخطأ
هناك ثلاثة باحثين اهتموا بمعرفة أسباب اتخاذ القرارات الخاطئة. فقد قام آندرو كامبل، وجو وايتهيد، مديرا مركز الإدارة الاستراتيجية بلندن، بالتعاون مع سيدني فينكلستين أستاذ الإدارة بكلية دارتماوث الأمريكية، ببناء قاعدة بيانات تتضمن حصراً لمجموعة ضخمة من القرارات الخاطئة التي اتخذها مديرون في عالم الأعمال، ومسؤولون في مجالات أخرى مختلفة. تشترك جميعها في وجود دلائل واضحة تشير إلى كونها خاطئة وقت اتخاذها، لكن ذلك لم يمنع من المضي قدماً في تنفيذها. وبتحليل هذه البيانات، توصل الفريق إلى أن القرارات الخاطئة تأتي كنتيجة لأخطاء يرتكبها المسؤولون في حكمهم على الأمور. وبالتالي اتجه نظرهم إلى ضرورة فهم الطريقة التي تحدث بها هذه الأخطاء في الحكم.
بتحليل الطريقة التي يقوم بها المديرون الأكفاء باتخاذ قرارات خاطئة، اتضح أنهم يتأثرون في هذه الحالات بثلاثة عوامل تؤدي إلى ربط عاطفي خاطئ، أو تدفعهم إلى رؤية نمط غير حقيقي.
العامل الأول والأكثر شيوعاً هو وجود اهتمام شخصي، يؤدي إلى عدم حيادية الأهمية العاطفية التي نعلِّقها على المعلومات، الأمر الذي يجعلنا نرى النمط الذي نحب أن نراه، حتى وإن كان غائباً. وتؤكد الأبحاث أنه حتى في حال وجود النيات الطيبة وغياب ما يستدعي الانحياز، فإن قراراتنا المهنية تتأثر كثيراً باهتماماتنا الشخصية.
أجرى ماكس بازرمان الباحث بجامعة هارفارد الأمريكية دراسة حول الدور الذي يلعبه الاهتمام أو المصلحة الشخصية، في عملية اتخاذ القرار. فقد طلب من مجموعة من المراجعين الماليين الخبراء مراجعة حسابات إحدى الشركات، للتأكد من صحتها ودقتها وخلوها من أي تلاعب. وقد قسم المراجعين الماليين إلى قسمين، وأخبر القسم الأول أن الشركة هي من رشحتهم للقيام بالعمل. أما القسم الثاني فقد أخبرهم بأن شركة أخرى خارجية قد كلفتهم بأداء هذه المهمة قبل أن تقوم بعقد صفقة مع الشركة المقصودة. وإذا افترضنا الحياد التام، فإنه سيكون من المتوقع أن تتطابق نتيجة تقييم القسمين، إلا أن الأمر لم يكن كذلك. فحين جمع بازرمان متوسط التقييم الذي حصل عليه من القسمين، وجد أن تقييم القسم الأول يقول إن حسابات الشركة دقيقة ومطابقة للمعايير، بدرجة أعلى بنسبة %30 من تقييم القسم الثاني.
العامل الثاني هو وجود ارتباط غير مناسب. فنحن نصبح مرتبطين بالبشر وبالأماكن والأشياء، وهذه الروابط يمكن أن تؤثر على الأحكام التي نكونها حول الموقف الذي نواجهه، وحول الفعل المناسب اتخاذه. ومثال ذلك هو التردد الذي يشعر به المدير التنفيذي حين يواجه قرار بيع جزء أو قسم من شركته عمل فيه في بدايات حياته المهنية وارتبط به.
أما العامل الأخير فهو وجود ذكريات مضلِلة، من حيث كونها تبدو متصلة وقابلة للمقارنة مع الموقف الحالي، فتقود تفكيرنا نحو اتجاه خاطئ. لأنها تدفعنا إلى التغاضي عن الاختلافات الفارقة بين الموقف الحالي والموقف الذي نقيس عليه. الأمر الذي يجعلنا نتخذ قرارات في غير أماكنها. ويزيد من تعقيد الأمر، وجود ارتباطات عاطفية متعلقة بهذه الخبرة السابقة. فكلما كانت قراراتنا في الموقف السابق ناجحة، زاد احتمال اندفاعنا لتكرارها مرة أخرى، وبالتالي تغاضينا عن الفروق الكبيرة بين الموقفين.
«رنتوكل» هي شركة بريطانية لتأمين سلامة المنازل والمنشآت، وقد كانت سياسة مديرها التنفيذي كليف طومسون تقوم على ضم مجموعة من الشركات الناجحة الأصغر حجماً، ودمجها في شركته الأم. وقد حققت هذه السياسة الكثير من الفائدة والربح للشركة، التي كانت تمارس قدراً كبيراً من الضبط والتحكم على الشركات التي تضمها إليها. ولكن بعد فترة من النجاح، أقدم طومسون على قرار خاطئ بضم شركة كبيرة هي «سيكيوريجارد» إلى كيان شركته الآخذ في النمو. وبعد فترة قصيرة أثبتت التجربة خطأ هذا القرار. لأن الشركة الكبيرة لم يكن من السهل دمجها كما كان الحال مع الشركات الأصغر، واهتزت أقدام رنتوكل في السوق كثيراً، وخسرت خسائر كبيرة لم تستطع بعدها أن تتعافي منها. فحين توالت صفقات طومسون الناجحة، افترض أنه سيكون ناجحاً في كل صفقة جديدة مشابهة. وكان من الصعب أن يتوقف ليسأل عن صحة القرار الجديد بعمق، أو أن يلتقط الخطأ في القياس الذي كان واضحاً للجميع ماعداه.
نقاط الحراسة في طريق الخطأ
بناء على ما توصلوا إليه من خلال دراساتهم حول الموضوع، يقترح كامبل ووايتهيد وفينكلستين، اتباع استراتيجية من ثلاثة أجزاء، تكون بمثابة إقامة نقاط للحراسة ضد القرارات الخاطئة. النقطة الأولى هي الحصول على معلومات وخبرات وتحليلات جديدة، والثانية هي طرح القرار للنقاش، أما النقطة الثالثة فهي عملية المراقبة والمتابعة.
في كثير من الأحيان، لا يكون صانع القرار ملماً بجميع جوانب الأمر. فيبني قراره على القليل من المعلومات المتاح بين يديه. الأمر الذي يُعد خطوة أولى أكيدة لاتخاذ القرار الخطأ! فحتى لو كانت المعلومات المتاحة بين يديه دقيقة وصائبة، إلا أن نقصها وإغفالها لجوانب مهمة، يجعلها بخطورة المعلومات الخاطئة إن لم يكن أكثر.
في حالة ستيف راسل المدير التنفيذي لشركة «بووتس»، كان من الممكن أن يجعله تعرضه لمعلومات أو خبرات جديدة، يعيد التفكير في قراره السابق. كان راسل يحتاج إلى مزيد من الخبرات الشخصية في مجال الرعاية الصحية الذي ينوي دخوله مع شركته لأول مرة. وكان يحتاج إلى رأي مستشار مختص يمده بالمعلومات اللازمة حول حجم السوق والمنافسة، ومدى الربحية المتوقع من الدخول في القطاع الجديد. كما كان بحاجة إلى أن يعرف ما هي المتطلبات الجديدة للنجاح في هذا القطاع، ومدى قدرة شركته على توفيرها، سواء من جانب الموارد المادية، أو من جانب تأهيل موظفيه وتدريبهم على أداء مهام جديدة.
300 مليون دولار ثمن الذوق الشخصي!
أما طرح القرار على النقاش، فهو من العمليات المهمة في اكتشاف أي انحياز مؤثر في عملية اتخاذه. فوجهات النظر المختلفة، تؤكد إن اجتمعت، أو اجتمعت أغلبيتها، على صحة القرار. أما إذا كان القرار غير صحيح بدرجة كبيرة، فإن النقاش حوله سيسلط الضوء على نقاط ضعفه، ويفسح المجال لتعديله أو استبدال خيار أفضل به.
كان السير ديريك راينر يشغل منصب المدير التنفيذي للمتجر الإنجليزي الشهير «ماكس وسبنسر» في الثمانينيات. وعلى الرغم من نجاحه الكبير خلال الفترة الأولى من توليه منصبه، إلا أنه ارتكب خطأ كبيراً في شراء شركة أمريكية هي «بروكس براذرز»، حيث عرض مبلغاً قدره 750 مليون دولار، على الرغم من أن التقارير المالية أكدت بعد ذلك أن الصفقة لم تكن تساوي أكثر من 450 مليون دولار. الأمر الذي أدى إلى انخفاض حاد في أسهم «ماركس وسبنسر». يقول المحللون إن راينر كان يمكنه أن يتفادى هذه الخسارة الكبيرة لو أنه طرح القرار للنقاش مع كبار مسؤولي الشركة، واستمع جيداً لما يرون عليه القيمة الحقيقية للصفقة. لأن رأي راينر كان متحيزاً بوضوح في تقييمه للشركة الأمريكية، التي كانت ملابسها مصممة للرجال في عمره وعلى ذوقه الخاص.
وآخر نقاط الحراسة هي عملية المراقبة والمتابعة. فإذا تم اتخاذ القرار الخطأ، سيكون من المهم اكتشاف ذلك مبكراً، لتصحيح المسار في وقت يكون معه هذا التصحيح فعالاً ومؤثراً. وتتطلب هذه العملية تخصيص وقت إضافي لمراقبة المراحل الأولى لتنفيذ القرار، ومتابعة ما يأتي من نتائج. كذلك تتطلب تقسيم الناتج النهائي لتطبيق القرار، إلى مراحل متتالية، والتأكد من كونها واضحة لكل أفراد فريق العمل.. واضحة لأجل تنفيذها، وواضحة لأجل مراقبتها ومتابعتها كذلك.
بوضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ، تستطيع الشركات أن تحد من نسبة الخطأ في قراراتها المهمة، وتحد كذلك من التأثير السلبي للخطأ في حالة وقوعه. فاتخاذ القرارت الجيدة والصحيحة، لا يتطلب فقط المعلومات والخبرة والحكم السليم، ولكنه يتطلب أيضاً اتخاذ خطوات عملية لتصحيح المسارات الخاطئة للتفكير، والتي تقود بالضرورة إلى اتخاذ قرارات خاطئة. وإذا كان تجنب كل القرارات الخاطئة هو أمر مستحيل على أرض الواقع، إلا أن اتباع خطوات عملية لتقليل نسبة حدوثها، قد يكون هو أكثر القرارات صواباً.