عام

قصائد في حُبِّ الإسكندرية

  • shutterstock_109339334
  • shutterstock_23664358

الإسكندرية عروس البحر المتوسط، مدينة التاريخ والحُب والجمال، تنام شواطؤها الطيبة على صدر البحر بلا خوف، وتناجي الأمواج رمالها اللازوردية؛ فيسجل الزمان لهما أجمل قصائد الحُب وأروع همساته.. ومنذ أن بنى الإسكندر المقدوني هذه المدينة سنة (332 ق.م)، لتكون مقرًا له وعاصمة لإمبراطوريته الكبيرة، والإسكندرية موطن الأدباء والفنانين، ومقصد الكتَّاب والشعراء. من لم يولد بها أو ينشأ فيها؛ فقد جاء إليها أو قضى بين ربوعها ردحًا طويلًا أو قصيراً من حياته، يستلهم من طبيعتها الساحرة كتاباته، ويستخرج من أعماق بحر جمالها أروع لآلىء شعره وفنه. ويضيق المجال إذا حاولنا أن نحصر أسماء بعض الكتَّاب والفنانين والأدباء من الذين ولدوا بها أو جاءوا إليها؛ فكتبوا عنها في كتاباتهم أو صوَّروها في رسوماتهم، ومن هنا اخترنا أن نعرض باختصار لبعض ما كتبه أمير الشعراء أحمد شوقي في شعره عنها…
لقد أحب شوقي الإسكندرية، وظل يتذكرها ويحن إلى شواطئها حتى وهو في منفاه بالأندلس 1920م فنراه كالبلبل الحبيس؛ ونسمعه يشدو مترنمًا بشوقه للحرية التي كان مستمتعًا بها في وطنه قائلاً:
راهب فــــي الضلوع للسفن فطن كلمــــــا ثــــــــــرن شــــــــــاعهن بنقـــــــــس
نفسي مرجل؛ وقلبي شراع بهما فــــي الضـــــــلوع ســــــــــــيري وأرســــي
واجعــلي وجهك الفنار ومجراك يـــد الثـــــــغر بين رمــــــــل ومكــــس (*)
وطــــني لو شـــــغلت بالخــــــــلد عنه نازعتني إليـــه في الخــلد نفســــي
وعندما عاد شوقي من منفاه، واقتربت السفينة التي كانت تقله من ميناء الإسكندرية؛ أنشد بالفرحة من قلبه قائلاً:
هــــــدانا ضـــــــوء ثغـــرك من ثلاث كمـــــــا تهـــدي المنــــــــــورة الركــــــابا
وقد غشـــــى المنار البحــــــــــر نورا كنـــــار الطــــــور جلـــــلت الشـــــــــعابا
وقيــــل الثغـــــر؛ فاتـــــأدت؛ فأرست فكانـــــت من ثـــــراك الطهـــــر قـــــابا
وبعد عودته من منفاه بالأندلس، شيّد أمير الشعراء لنفسه داراً كبيرة بالإسكندرية عرفت باسم درة الغواص، حيث كان يقضى فيها شهور الصيف كلها، فتصبح مقصد الأدباء وملتقى الفنانين والشعراء.. وليس من الغريب إذن أن يكتب شوقي عن حسن الإسكندرية وجمالها وتاريخها، فعن رحابة صدرها وكرم ضيافتها لكل من أتى إليها زائراً أو مقيماً، قال:
غدا على الثغر غاد من مراكبكم فـــراح مبتســــــم الأرجــــــاء جــــذلانا
جـــرت ســــفينتــكــم فيه، فقلبــــهـــا على الكـــــرامة قيـــــدوماً وســـــــكانا
يلقاكـــم بســــماء البــــحر ضاحية وتــــــارة بفضــــــاء البـــــــر مزدانــــــــــا
ولو نزلتـــــم به والدهــــــر معتدل نزلتـــــم بعـــــروس المــــلك عمــرانا
إذا الفنــــــار وراء البحر مؤتلـــــــــق كأنـــــه فلــــــــــــق من خـــــــــدره بانـــــــــــا
ويكتب أمير الشعراء عن تاريخ الإسكندرية العريق، وكيف أنها على طول تاريخها مدينة الأدباء والفنانين ومقصد الشعراء والمبدعين، فيقول:
شــــاد (اســـــكندر) لمصـــــر بنــــــــاءً لم تشـــــده المــــــــلوك والأمـــــــــــراء
بلــــــــــد يرحـــــــــــل الأنــــــــــام إليــــــــــــه ويحـــــــج الطــــــــــــلاب والحكمـــــــــــــاء
عاش عمـران البحر ثغر المعالي والمنــــــــــار الـــــــذي بــــــــــه اهتــــــــــداء
مطمئـــــناً من الكتــــائب والكتـــب بمـــــا ينـــتـــهـــــــــي إليـــــــــــــه العــــــــلاء
يبعـــث الضـــــوء للبــــــلاد فتسري فـــــــي ثنــــاء الفـــــــهوم والفهمــــــــــــاء
وقد شارك شوقي في كثير من مهرجانات الإسكندرية السعيدة والحزينة معاً، ففي حفل افتتاح فرع جديد لبنك مصر الذي هو من رموز الاقتصاد الوطني المستقل، ينتهز أمير الشعراء الفرصة ليقول:
أمس انقضى واليوم مرقاة الغد إســــــــــكندريـــــة آن أن تتجــــــــــــــــددي
ياغرّة الوادي وســــــدة بابه؛ ردي مــــــكانــــــــك فـــي البريــــــة يـــــــــــردد
فيضي كأمس على العلوم من النهى وعلى الفنون من الجمال السرمدي
وحتى في مناسبات الرثاء، لا تفوت شوقي فرصة وصف الإسكندرية والإشادة بتاريخها ودورها الحضاري والريادي في العلم كله، ففي حفل تأبين شاعر النيل حافظ إبراهيم ورثائه له قال:
إســــكـــندريـــــــة ياعــــروس المــــــــاء وخميلـــــة الحكمـــــــاء والشــــــــــعراء
نشــــــأت بشاطئك الفنون جميلة وترعـــرعت بســـــمائك الزهـــــــــراء
جاءتك كالطير الكريــــم غرائباً فجمعتـــهـــــا كالربــــــــــوة الغنــــــــــــاء
غرســـوا رباك على خمائل بابــــل وبنوا قصـــــورك فى سنا الحمراء
واستحدثوا طرقًا منورة الهدى كســـبيل عيســـى فى فجــــــاج الماء
فخــذي كأمس من الثقافة زينة وتجمــــلـــــي بشــــــبابك النجبــــــــاء
وتقلـــــــدي لغـــــــة الكتــــــاب فإنـــــها حجــــر البنــــاء وعـــــدة الإنشــــــــاء
وفي رثائه للفنان الموسيقار سيد درويش قال:
بلبل اســــــــكنـــدري أيــكـــــه؛ ليـــــس فـــــــي الأرض ولكن فـــــي الســــــــماء
هبـــــط الشــــــاطـــــــىء مـــن رابيــــــة ذات ظـــــــــــــــل وريـــــــاحيــــــن ومـــــــاء
ونختتم بالأبيات التالية التي صوَّر فيها شوقي روعة الإسكندرية مدينة الحضارة وموطن الحُب ونبض الحسن والجمال، التي يلخص فيها أمير الشعراء حبه الكبير وإعجابه الدائم بعروس البحر قائلًا:
شــاطىء مثل رقعة الخلد حسناً وأديــــم الشـــــباب طيبــــــا وبشـــــــــرا
جـــرّ فيروزجــــا على فضــة الماء وجــــرّ الأصــــــيل والصـــــبح تبــــــرا
كلمـــــــــا جئــــتــــــــــه تهــــــــلل بشــــــــــرا مـــن جـــميــــع الجهات وافتـــر ثغـــرا
انثنـــــى موجـــــــه؛ وأقـبـــــــل يرخى كلـــــــــــــه تــــــــــارة؛ ويرفــــــــــــــع ســــــــــتر
شـــــب وانحــــط مثل أسراب طير ماضــــيات تلــــف بالســــــهل وعـــــرا
وتــــرى الرمــــل والقصور كأيــــك ركــــب الوكــــر فـــــي نواحيــــه وكـــرا
وتـــرى جــــوسقًا يزيـــــن روضـــــــــــا وتــــرى روضـــــــة تزيــــــــــن قصـــــــــرا

(*) المكس: اسم حي قديم ومشهور في الإسكندرية

ملاك ميخائيل شنودة
الإسكندرية- مصر

طقوس الاحتفال بالمطر في الشعر النجدي

قد يظن البعض أن البيئات ذات الطبيعة الساحرة، والأشجار الباسقة، والورد الفاتن، والاخضرار الدائم هي فقط التي تلهم الشعراء أعذب القول وأرق الكلمات، فتكون سبباً رئيساً في إبداعهم ونظمهم أعذب القوافي. لكن الأمر ليس منوطاً بالبيئة وحدها وما يلهمه جمالها الساحر للشعراء، بل هو متعلق بالإبداع في المقام الأول، فكم من امرئ يمر بالحدائق الغنَّاء والماء الرقراق مروراً عابراً لا تؤثر فيه النسمة الباردة، ولا تطربه الواحة الغناء أو الحديقة الفيحاء ولا يلهمه النظم أو الإنشاد، وكم من شاعر ذي قريحة بكر عاش في صحراء جرداء تفتق لسانه بقول أعذب الشعر. ولا أدل على ذلك من براعة شعراء الجزيرة العربية في العصر الجاهلي، يقول حسين سرحان بهذا الصدد: «كل أديب لا يستوحي أدبه من الطبيعة الماثلة أمامه في كل شيء فليس لأدبه قيمة، ولا ينبغي أن يلفت أنظارنا أو يستحق منا الاهتمام. والطبيعة العارية والطبيعة الكاسية هما عندي بمكان واحد، بل قد يستلهم الكاتب البارع والشاعر المجيد من جبال الحجاز الجرد ومفاوز نجد المقفرة أسمى وأمتع مما يستلهمه من غابة بولونيا في باريس، ورياض سويسرا». ونجد هذا المعنى جلياً في قصيدة للشاعر النجدي حمد الحجي في قصيدة له بعنوان: الربيع الفاتن في نجد:
وأبصرت عينك الغدران صــــــافية تصطف من حولها الأزهار ترتيبا
لأنت نشوان رحب الصدر حين ترى وجه السماء بوجه الأرض مقلوبا
قـــــــــل للذي زار لبــنــــانـــــاً وجــنــتـــه فبات من عقله المخدوع مسلوبا
لا تذهــبن بك الذكـــرى مجنحـــة وترتقي بك فوق السحب منهوبا
فنجد لبنان في فصل الربيع لذا أمسى الجمال لنجد اليوم منسوبا
انظر إلى الربوات الفيح قد خلعت يد الجلال عليهن الجلابيبا
فمن خـــــزامى إلى رنـــــد يضـــوع بمـــا يشفي الصدور ويقصي الهم محروبا

فنجد تتحول إلى (لبنان) جمالاً واخضرارً في فصل الربيع -حسب تعبير الشاعر- بعد أن ينهمر على ربوعها المطر فتنمو في ثنايا البراري نباتات الخزامى، والرند التي تهبها الجمال وتمنحها الاخضرار. ولو تتبعنا ظاهرة احتفال شعراء نجد بنزول المطر وتأثير هذا الحدث الطبيعي في نفوس الشعراء الذين يمتلكون حساً شاعرياً وإبداعياً يؤهلهم إلى ترجمة فرحهم بالهطول إلى كلمات وقوافٍ وتوظيف المطر في كثير من المواقف الشاعرية لديهم والاستلهام منه لوجدنا الشيء الكثير، ولا نكاد نلمس مثل هذه الظاهرة لدى غيرهم من الشعراء على الرغم من جمال الطبيعة التي تحتضنهم. فلكل بيئة خصوصية، وكل بيئة مؤهلة أن تلهم الأديب الذي تتوافر لديه الموهبة والحس المرهف. فالمطر يكاد يكون سمة ثقافية إبداعية تتمحور حولها كثير من المعاني والرؤى التي تبثها الأعمال المحلية في البيئة النجدية كما يقول د. محمد صالح الشنطي. وقد تتبع الدكتور سعد البازعي هذه الظاهرة في كتابيه: ثقافة الصحراء، وأبواب القصيدة، ويؤكد البازعي من خلال تتبعه على مسألة التفاعل بين الوعاء الطبيعي وبين الإنسان بصفة عامة، ويعرف الثقافة بأنها محصلة الرغبة الدفينة في أنسنة البيئة. ويمضي في دراسته عبر المنطلقات الجمالية باحثاً في النصوص الإبداعية عن الحكايات الشعبية ذات الطابع الأسطوري أو عن الغنائية الشعرية التي تقف موازية للظواهر الصحراوية التي تتمثل في المطر أو الماء، كما تتمثل في نقيضه وهو الجدب والعطش، وقد حدد سياقين رئيسين للحكايات والأساطير الموظفة هما السياق العربي السامي، والسياق المحلي، على مستوى السياق الأول وجد رموز الخصوبة والانبعاث، وعلى مستوى السياق الثاني وجد الشخصيات الأسطورية الملتصقة بالماء والمطر.
ومن ذلك توظيف الشاعر عبدالله الصيخان أسطورة شعبية نجدية تُدعى
بـ (بنات المطر) تقول الأسطورة إن هناك بنات يهبطن مع المطر حين تهطل السماء، فجعل الصيخان في إحدى قصائده من (مليحة) فتاة نجدية تحلم بالمطر كي تلتحم به فتصير واحدة من بنات المطر، يقول الشاعر:
استفاقت مليحة حين الصباح أتى
وارتدت
ثوبها المنزلي وغدت للغناء
مطر لا مطر
أشرعت وجهها للسماء
مطر .. لا مطر
وتعرت كما تفعل الطير
منحتها السماء نوافذها
أمطرت .. أمطرت فتدلت مليحة فوق الشجر

فانظر إلى الشاعر النجدي كيف وظف أسطورة (بنات المطر) وكيف كانت مفرداته مستقاة من بيئة الصحراء وكيف أنسن المطر، وجعل انهماره ينم عن احتفالية مبهجة. وقد رسم الشاعر حمد العسعوس في قصيدته: «بيعة الرياض» لوحة جمالية لانبعاث المطر، واحتفال البيئة النجدية بهذا الحدث المميز جاعلاً من الغمائم أباً من شيمته الفيض والعطاء، يقول العسعوس:
يا ســــناها وقد أضـــــاء ســــــــــــــــــنـاها فتجـــــلى ونـــــــــد عنه البيــــــــــــاض
جـــــاءها الغيث فاســـــــتجابت منـاه لمنـــــاها وهـــــــي الأمــــاني العراض
الريـــــاض الريـــاض تــــرقب غيـــثاً وأبــــــــونـــــــا غمـــــــامـــها الفيـــــــــــاض
وإذا الغــيـــــث داعــــب الأرض رابــت واســــتجابت وحــل فيها المخاض
في ســـــماء الريـــــاض غيم مطـــير مطر الحب ليس فيه انخفاض

ويقدِّم الشاعر عبدالرحمن العشماوي لهطول المطر بطاقة دعوة للانهمار في ربوع نجد في قصيدة عنونها بـ (أغنية على شفة الرياض) قائلاً:
اركضــــــــي يا غيوم ركـــض محــــــب يتـــمــــــــنــى ســـــــــــــــــعادة الأحــبـــــــــاب
نحن نهفــــو إلى ابتســـــامة ثغـــــــــــر وربـــــانا تهفــــــو لدمــــع الســــــــحاب
فدعـــيــــنا نشــــــم رائحـــــة الغيــــــــــــث إذا ما التــــــقى بشـــــــوق التـــــــــــراب

أضف تعليق

التعليقات