«إن المؤلفين الذين يمكن أن يسمّوا «الكُتَّاب الحقيقيين للأطفال» هم أولئك الذين يتقنون معرفة الأطفال، ويعرفون كيف يفاجئونهم في لعبهم، ويصغون إليهم، ويراقبونهم عن كثب، من غير تدخّل أو طرح أسئلة»، ولكنّ منح الطفل الفرصة ليكتب لنفسه وما حوله بنفسه، ويقوم بتحريك كل ما تختزله ذاكرته من شخوص وأحداث جامدة على مسرح الواقع، لهو الكمال في التعاطي مع الطفولة، وإعادة الأدوات الفنية للطفل كي يعبِّر عن نفسه بدلاً من أن يقوم الآخرون بالتحدث نيابةً عنه.
ذلك ما لفت نظري في مهرجان «حكايا» الذي أقيم في الرياض مطلع شهر سبتمبر الماضي، ومنح زائريه الأطفال مجالاً واسعاً كي يجولوا بخيالهم الواسع ويبدعوا في صناعة القصة وتعلم كتابتها، ورسم لوحاتها، وتصور مشاهدها، والاستمتاع بمتابعتها.
واحتوى المهرجان أيضاً على أجنحة متنوعة للطفولة ضمت فعاليات ترفيهية تعليمية لمن تقل أعمارهم عن 6 سنوات، مثل «حكايا الأطفال»، التي تتيح للطفل صناعة قصته بالربط بين الصور والنصوص بطريقة مسلية وجذابة، باستخدام أجهزة الحاسب اللوحية. فيما أقيمت ورش تفاعلية لمن تتراوح أعمارهم بين 6 و13 عاماً تحت عنوان «مصنع الحكايا»، يتم فيها تعليم الطفل فن كتابة الحكاية في ورشة «نكتب»، وفن رسم شخصيات الحكاية في ورشة «نرسم»، ومهارة تحريك الحكاية في ورشة “نحرك”، وفن إلقاء الحكاية في ورشة «نروي».
إن هذا المهرجان، الذي يُعد الأول من نوعه في الشرق الأوسط ويسعى إلى ربط شرائح المجتمع كافةً بالقراءة، خصوصًا فئة الأطفال، بتحفيزها على التخيل والابتكار في صناعة القصة، وتعلم كتابتها، ورسم لوحاتها، وتصوُّر مشاهدها، والاستمتاع بمتابعتها، يستهدف اكتشاف المواهب ودعم الإبداع في الكتابة القصصية التفاعلية، وتنمية روح الحوار والتواصل، والتعريف بالتراث القصصي المحلي والعالمي، وتدريب الأطفال على التعبير عن أنفسهم من خلال كتابة القصص، والاستفادة من التقنية الحديثة في المزج بين الماضي والحاضر وإعداد القصص التفاعلية المفيدة وتطوير آليات عرضها.
ويُعد الدخول في تجربة ثقافية تربوية من هذا القبيل مغامرةً شيقة ومعلومة النتائج مسبقاً، إذ إن الغوص في عالم الطفولة، والتنقيب عن أسرارها الغائرة، وإفساح المجال لهذه المكنونات أن تظهر على السطح، لهي عملية حضارية نشأت في القرن السابع عشر في أوروبا، وأخذت تزدهر في منتصف القرن العشرين مع تحسين أنظمة التعليم في جميع أنحاء العالم، ما زاد من طلب المؤلفات المخصصة للأطفال بلغات مختلفة، ومع ظهور أدباء يكرسون معظم وقتهم لكتابة مؤلفات للأطفال.
وقد شهد القرن الثامن عشر اللحظات التي اعتُرف فيها للأولاد بحقهم في التسلية وفي التعلم معاً. وعرفت خصائص الطفولة الفردية، وأخذت قابليات الطفل واهتماماته بالحسبان. ولقي كتاب «إميل» الذي كتبه الفرنسي جان جاك روسو عن التربية اهتماماً واسعاً. وجاءت بعده عدة كتب أخرى. ثم بدأ الكتّاب يؤلفون قصصاً خاصة بالأطفال والفتيان ذات أهداف محددة مثل اكتساب المعارف وتعلم شؤون الحياة والمعيشة وتبني السلوك الحسن.
ومهما يكن من أمر أدب الأطفال، فإن الطفل أخذ يقرأ في السنوات الأخيرة قصصاً مترجمة وأخرى موضوعة، وإن كتب الأطفال بدأت تنتشر انتشاراً واسعاً في العالم. وهذه ظاهرة تلفت النظر، ولا سيما إذا أضيفت إلى كتب أدب الأطفال المجلات الجميلة الخاصة بالصغار، والزوايا التي تخصصها لهم صحافة الكبار، وركن الأطفال في الإذاعة والشاشة الصغيرة والأفلام السينمائية الكثيرة التي توجّه إليهم، ومسرح الأطفال، ومسرح العرائس والدمى المتحركة، والألعاب الكثيرة التي تصنع لهم، والأغاني والأناشيد التي تنظم وتلحن لهم.
وفي العالم العربي هناك رواد في مجال أدب الطفولة برزوا في هذا الفن واتجهوا بأدبهم إلى الطفل، مراعين حاجاتهم النفسية والفروق الفردية لكل مرحلة عمرية، ومن أبرزهم كامل كيلاني الكاتب والأديب المصري الذي اشتهر بأعماله الموجهة للأطفال وأطلق عليه النقاد «رائد أدب الطفل» وقد ترجمت قصصه إلى عدد من اللغات. وأيضاً من الرواد العرب في هذا المجال أحمد شفيق وأحمد نجيب ومحمود مفلح ويعقوب الشاروني ويحيى علوي فريد… وغيرهم كثير.
ولكن تبقى تجربة «حكايا» في الرياض فريدة من حيث إعطاء الطفل منصّة خاصة به، يكون هو الحاكي لا المستهدف من الحكاية، يحرك شخصياته كيفما شاء، ينتقل بين الأحداث بحرية كاملة، ويصعد بالأحداث وينزل بها وفق وتيرة تتلاءم مع عالمه الخاص.
ما صنعه مهرجان «حكايا» هو الاقتراب أكثر من الطفولة، أو بالأصح إعادة صياغة «أدب الأطفال» وفق معايير جديدة، أبرزها: إعادة الورقة والقلم للطفل ليكتب ما يحلو له، ويقوم بصناعة حكايته بنفسه وبأدواته الخاصة به