بعد سنوات قليلة على إنشاء مركز أبحاث الحج، نشرت القافلة في عددها لشهر ذي الحجة 1408هـ (يوليو/ أغسطس 1988م)، استطلاعاً أجراه سليمان نصرالله حول هذا المركز والأهداف من إنشائه، تحت عنوان “مركز أبحاث الحج لخدمة الحجيج والحفاظ على التراث الحضاري لمكة المكرمة والمدينة المنورة”. وفي ما يأتي بعض أبرز ما جاء فيه:
كل من يفِد إلى المملكة حاجاً، أو معتمراً أو زائراً، يلمس منذ الوهلة الأولى التي تطأ فيها أقدامه الأرض المقدسة، الجهود المخلصة التي تبذلها حكومة المملكة، في سبيل أمن وراحة ضيوف الرحمن. إن الشواهد الحية في أرجاء مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، لتؤكد صدق التفاني في تهيئة الظروف المريحة لكل حاج.
وإذا كنا نعرف أن مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، مِنى وعرفات ومزدلفة، تستقبل حالياً نحو ثلاثة ملايين حاج في موسم الحج، وما يشكِّله هذا العدد الضخم من الحجيج في أيام معدودات لا تتجاوز أصابع اليدين، من ضغط هائل على الخدمات العامة، يدرك أهمية مركز أبحاث الحج وجسامة الأعباء الملقاة على كاهل القائمين عليه من إداريين، وباحثين، ومهندسين، وفنيين.
يضطلع هذا المركز المتخصص بدراسات ميدانية وأبحاث علمية هادفة، تتعلَّق بمشاعر الحج والحجيج بمكة المكرمة، والمدينة المنورة، وتُقدِّمها للجهات الحكومية المعنية بهذا الأمر، كوزارة الداخلية، ووزارة الحج والأوقاف، وإمارة منطقة مكة المكرمة، وبعض المؤسسات الأهلية والهيئات والجمعيات ذات العلاقة بالحج ونشاطاته. وتسهم هذه الدراسات الميدانية إلى حدٍّ كبير في معالجة قضايا الحج المختلفة، من نقل، وإيواء، ونظافة، إلى توفير الخدمات البريدية، والهاتفية، والعلاجية، وغير ذلك من الخدمات. فمكة المكرمة تُعدُّ خلال موسم الحج نموذجاً فريداً بين مدن العالم من حيث وظيفتها، إذ تكتظ بالحجيج من جميع أقطار العالم لفترة قصيرة جداً، يغدو معها توفير الخدمات العامة أمراً بالغ الأهمية، توليه الحكومة السعودية جُلَّ اهتمامها، وذلك نابع من حرصها على توفير أرفع مستوى ممكن من الخدمات العامة لضيوف الرحمن. ويضم المركز قدرات علمية متميِّزة، ذات تخصصات مختلفة، تعكف على إعداد الدراسات الميدانية والأبحاث التطبيقية، التي تتناول جوانب كثيرة من نشاطات الحج، فضلاً عن تلمّس أنجع السبل والأساليب المتطورة للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي والأنماط المعمارية لكل من مكة المكرمة والمدينة المنورة.
فكرة إنشاء مركز أبحاث الحج
التقينا المهندس المعماري سامي محسن العنقاوي، مدير عام المركز، والدكتور عدنان عبدالبديع اليافي، نائب المدير العام. وقمنا بجولة شملت جميع أقسام المركز ومرافقه، بمصاحبة الدكتور اليافي، الذي حدثنا عن المهام المنوطة بكل قسم، وعن التجهيزات والمعدات المتطوِّرة التي زُوِّد بها المركز، لتكون عوناً للباحثين.
الجدير بالذكر أن هذا المركز أنشئ رسمياً عقب صدور قرار مجلس الوزراء عام 1401هـ، انطلاقاً من اهتمام الحكومة بتقديم أفضل الخدمات لضيوف الرحمن… وقد شكَّلت لجنة عليا للإشراف على برامج هذا المركز ونشاطاته برئاسة سمو وزير الداخلية. وكان هذا المركز تابعاً لجامعة الملك عبدالعزيز عند إنشائه. وفي عام 1403هـ صدر أمر سامٍ بنقل تبعية المركز إلى جامعة أم القرى.
كما حدثنا الأستاذ سامي محسن عنقاوي، مدير عام المركز، عن أهداف المركز وأهميته والمشروعات التي يتولاها، فقال: “تنبع أهمية المركز من اهتمام الحكومة بالحجيج ومكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة. ففي هذه البقعة الطاهرة يلتقي الحجاج على صعيد إسلامي فريد، ليتعارفوا وليذكروا اسم الله في أيام معدودات. إنه لقاء يؤلِّف بين قلوب المسلمين ويوحِّد أهدافهم رغم تباين الجنس واللغة واللون. هذا الحشد الهائل من الحجاج الذي تستقبله مكة المكرمة كل عام يتطلب من الجهات الحكومية المعنية بشؤون الحج تخطيطاً وتنسيقاً وتحضيراً متكاملاً دقيقاً، كي يؤدي ضيوف الرحمن نسك الحج بسهولة ويسر. وهذا في حد ذاته يحتاج إلى دراسات مستفيضة تتناول كل ما تنطوي عليه مناسك الحج من نقل، وخدمات عامة، وإيواء، وطواف، وسعي، ورمي الجمرات، وفق ما شرع الله. وهذه ليست عملية سهلة، إنها عملية مستمرة استمرار الحج. وليس بخافٍ على أحد أن الإعداد لمثل هذا الحدث السنوي الجلل ينطوي على متغيرات ومستجدات كثيرة، أدركها ولاة الأمر في هذا البلد الكريم، وارتأوا إقامة مركز دائم يتولى دراسة أمور الحج بكل دقائقها، ويجمع المعلومات ويقوم بتنسيقها وتحليلها وتقديمها إلى الجهات المسؤولة. ومن هنا بدأت انطلاقة المركز الفعلية عام 1395هـ. ويسرني أن أقول إن المركز بمؤازرة ودعم أولي الأمر في المملكة، استطاع أن يحقق إنجازات كبيرة وراح يعطي ثماره الطيبة كجهة استشارية علمية، يساعد جميع الجهات الحكومية وكل جهة لها علاقة بالحج، وعلى رأسها لجنة الحج العليا، ولجنة الحج المركزية، واللجان المتفرعة عنها، بالإضافة إلى وزارة الداخلية، ووزارة الحج والأوقاف، وإمارة منطقة مكة المكرمة، وغيرها. والمركز يستعين بالخبرات والتخصصات المتنوِّعة المتوفرة في جامعات المملكة كلها.
ثم تطرَّق الأستاذ عنقاوي إلى أهداف المركز قائلاً: للمركز ثلاثة أهداف، أولها تأسيس بنك للمعلومات عن الحج يضم مختلف الإحصاءات والبيانات والحقائق لتساعد في تخطيط مرافق وخدمات الحج.. وثانيها توثيق سجل تاريخي متكامل عن الحج ومكة المكرمة والمدينة المنورة يضم الوثائق والصور والخرائط وغيرها، وثالثها المحافظة على البيئة الإسلامية والطبيعية لمكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة. وقد مررنا في بادئ الأمر بمرحلة جمع المعلومات وتصنيفها وتنسيقها وتحليلها، ثم تجاوزناها لنصبح جهة استشارية فنية علمية. حيث راح المركز يقترب من الجوانب التنفيذية، وذلك بالاستفادة من المعلومات التي تم جمعها عبر سني المركز الأولى، بتطبيقها علمياً في مسائل متعلقة بالحج. والناحية التطبيقية هي الهدف الرئيس للمركز في الوقت الحاضر…”.
ولكي يحقق المركز أهدافه فقد كوَّن هيكلاً تنظيمياً يتألف من ست إدارات رئيسة هي: إدارة البحوث، وإدارة الشؤون الأكاديمية، وإدارة المركز، ومركز المعلومات، وخدمات المركز، ومكتب المدير العام ونائبه. أما الأقسام البحثية فتشمل الدراسات العمرانية والبيئية والحضارية. ويضم المركز أيضاً مكتبة ومعملاً للتصوير الملون وحاسباً آلياً، ويوجد لديه أرشيف من شرائح الصور الملوَّنة يضم عشرات الآلاف من الشرائح التي التقطت بالمشاعر المقدسة منذ بداية العمل بالمركز وحتى الآن، كما يوجد به أرشيف ضخم من الأفلام السينمائية وآخر من أفلام الفيديو ومن التسجيلات الصوتية والصور الجوية، وكلها عن الحج ومكة المكرمة والمدينة المنورة. ويعتمد المركز على الوسائل التعليمية المتقدِّمة في إجراء الدراسات وجمع المعلومات، ويتضمَّن ذلك المسوحات الإحصائية والتصوير الجوي والأجهزة وأجهزة القياس المتطوِّرة وغيرها.
وتصدر الدراسات التي يضطلع بها المركز في ثلاثة أنواع من التقارير: أولها التقرير السنوي لأعمال مركز أبحاث الحج، ويضم دراسات تتعلَّق بموسم حج ذلك العام، بالإضافة إلى ما تم إنجازه في المركز طوال العام. وثانيها تقرير خاص بموسم الحج، يتضمَّن نبذة مختصرة عما تم عمله من تجارب وحلول في ذلك الموسم فقط. ولعل من المفيد أن المركز قد درج على تجميع هذا النوع من الدراسات منذ عام 1400هـ. ومن هذا المختصر يمكن للباحث أو المهتم بمسائل الحج الرجوع إلى التقارير التفصيلية لكل موضوع. وهذه التقارير التفصيلية تُعدُّ النوع الثالث من التقارير التي يعدها المركز، وفيها تفصيل لكل مسألة من مسائل الحج وتشخيص طرق علاجها التدريجي.
ويصدر المركز كل عام صورة جوية إرشادية لمنطقة منى للاستفادة منها في إرشاد الحجاج التائهين، وفي تحديد مواقع مخيمات المطوفين والجهات والهيئات والمؤسسات وغيرها. فالمعروف أن معالم منطقة منى تتغير من عام إلى آخر، إذ إن توزيع المخيمات والخدمات المختلفة يبدأ مباشرة قبل موسم الحج من كل عام، مما يجعل استخدام الخرائط المساحية العادية أو إعداد خرائط تقليدية في هذه الفترة الزمنية القصيرة أمراً صعباً… وقد توصل مركز أبحاث الحج إلى وسيلة جديدة لتحقيق هذا الهدف عن طريق إعداد خريطة خاصة تجمع ما بين الصورة الحيوية والخريطة الإرشادية أطلق عليها اسم “الصورة الإرشادية السنوية لمِنى”، هي عبارة عن الصورة الجوية لمنطقة منى قبل الحج بأيام قليلة، حيث تظهر عليها مختلف الاستعلامات في مواقعها الطبيعية الفعلية. وهذه الصورة الإرشادية تمثل جهداً كبيراً وعملاً متشابكاً تشترك في تنفيذه سنوياً جهات عديدة بإمكاناتها المختلفة، حتى يمكن إخراجها بالجودة والدقة المطلوبتين وفي الزمن القصير المتاح.
اترك تعليقاً