بعد خمس سنوات من إعلان رؤية 2030 في 25 أبريل 2016م، تشهد المملكة العربية السعودية نهضة اقتصادية وصناعية وعلمية وثقافية ومشاريع بناء واسعة ومتعدِّدة الأغراض فريدة من نوعها عالمياً من حيث النطاق والأهداف حسب وصف “أكسفورد بيزنس غروب”. فالجهود التي بُذلت خلال هذه السنوات القليلة، والبنية المعرفية المتكاملة التي تم تأسيسها، واستغلال الميزات التنافسية للمملكة على صعيد الجغرافية من حيث ساعات سطوع الشمس وغيرها، سمحت للمملكة بإقامة مشاريع ضخمة للطاقة البديلة ذات أبعادٍ عالمية. ومن هذه المشاريع الكبرى مشروع أنشأته مدينة “نيوم” بالاشتراك مع شركات عالمية، يتيح للمملكة بغضون سنواتٍ قليلة أن تصبح محوراً عالمياً لإنتاج الهيدروجين وتسويقه.
يستأثر الهيدروجين حالياً باهتمام عالمي متزايد نظراً للميّزات الفريدة التي يتمتع بها والتي تجعله منافساً للأنواع المختلفة من الوقود التقليدي سواء في مجال إنتاج الطاقة أو كوقود للسيارات والحافلات أو في المجالات الصناعية المختلفة، ما جعل قطاع إنتاج الهيدروجين من أكثر القطاعات نمواً في العالم.
سيكون بمقدرة الدول التي تتوفر فيها القدرة على إنتاج الطاقة المتجدِّدة بتكلفة قليلة نسبياً، استغلالها لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره للدول الأخرى التي تفتقر لمصادر الطاقة المتجدِّدة.
ومع التقدُّم المطَّرد في قطاع توليد الطاقة الكهربائية من مصادر غير تقليدية وأهمها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، أصبح ممكناً وبشكل تجاري إنتاج الهيدروجين عن طريق التحليل الكهربائي للماء، حيث يتم فصل الماء إلى عنصري الهيدروجين والأكسجين من دون أن يرافق ذلك أي نواتج ثانوية ضارة بالبيئة. ويطلق على هذا الهيدروجين الناتج اسم “الهيدروجين الأخضر”.
استخدمت سابقاً عدَّة طرق للحصول على غاز الهيدروجين، وأهمها إجراء التحليل الكهربائي للماء، غير أن التكلفة العالية لهذه الطريقة في السابق حدَّت من استخدامها على نطاق تجاري. لكن مع التقدُّم الذي تحقَّق مؤخراً في مجال تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية بواسطة الخلايا الكهروضوئية أو توربينات الرياح، جعلت هذه الطريقة هي الأفضل لإنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي أصبح محور اهتمام كبريات شركات صناعة الطاقة في العالم.
وتشير بيانات مجموعة “لجنة انتقال الطاقة” (Energy Transitions Commission) التي تضم عدداً من شركات الطاقة في العالم، إلى الأهمية البالغة للهيدروجين الأخضر لتخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة وفق اتفاقية باريس للمناخ، بنحو عشرة مليارات طن من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون سنوياً والناتجة عن بعض القطاعات الصناعية. حيث سيكون بمقدرة الدول التي تتوفر فيها القدرة على إنتاج الطاقة المتجدِّدة بتكلفة قليلة نسبياً، استغلالها لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره للدول الأخرى التي تفتقر لمصادر الطاقة المتجدِّدة.
سوق الهيدروجين
على هذا الأساس، وضعت دول كثيرة خططها الطموحة للاعتماد على الهيدروجين خلال النصف الأول من هذا القرن. إذ تعتزم الصين حالياً تسيير مليون مركبة تعمل على خلايا الوقود الهيدروجينية بحلول عام 2030م. وفي الولايات المتحدة، أعلن حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم، في سبتمبر 2020م، في أمر تنفيذي، بأن تكون جميع السيارات الجديدة وشاحنات الركاب المبيعة في كاليفورنيا مركبات عديمة الانبعاثات بحلول عام 2035م. وتخطط اليابان لاستخدام غاز الهيدروجين في صناعة الصلب وغيرها من الصناعات الثقيلة في البلاد. ولتحقيق ذلك دشَّنت اليابان بالقرب من مدينة “فوكوشيما” وحدة خاصة لإنتاج الهيدروجين الأخضر الذي سوف يستخدم لتشغيل وسائل النقل المزوَّدة بخلايا الوقود الهيدروجينية. كما أعدت المفوضية الأوروبية خطتها لزيادة قدرة إنتاج الهيدروجين للطاقة الكهربائية من 0.1 جيجاوات إلى 500 جيجاوات بحلول عام 2050م، وهو العام الذي يتوقَّع خبراء الاقتصاد فيه أن تبلغ قيمة سوق الهيدروجين نحو 700 مليار دولار.
ويتوقع خبراء الطاقة أن تستحوذ المركبات العاملة على خلايا الوقود الهيدروجينية على ما يصل إلى %30 من حجم أسطول وسائل النقل على مستوى العالم وذلك بحلول عام 2050م، وهذه الزيادة ستكون في الصين والاتحاد الأوروبي، علماً بأنه ومنذ عام 2015م صنعت شركة تويوتا سيارتها “تويوتا ميراي” كأول سيارة هيدروجينية تنتج على نطاق واسع وتستطيع قطع نحو 500 كيلومتر بخزان واحد من الهيدروجين المضغوط، وتتم تعبئتها خلال 5 دقائق ولا ينبعث منها سوى بخار الماء.
أعلنت المملكة في شهر أبريل عام 2016م عن رؤيتها المستقبلية 2030، تضم من بين مشروعات متنوِّعة كبيرة، خطة مشروع “نيوم”، في الطرف الشمالي الغربي للبلاد، وهو الأضخم من نوعه على مستوى العالم.
ريادة سعودية
بتاريخ 31 أغسطس 2020م، عنون “سورن أميلنغ” مقالته على موقع “energypost.eu” الأوروبي: من سيكون القوة العظمى للهيدروجين؟ الاتحاد الأوروبي أو الصين. قبل ذلك بقليل، وفي عدد نوفمبر/ديسمبر 2019م نشرت “القافلة” مقالة طارق شاتيلا التي كانت بعنوان: “تصدير أشعة الشمس”، وتمحورت حول مشروعات إنتاج الهيدروجين بين أستراليا واليابان، وتم إيراد المعلومات المتوفرة في ذلك الوقت عن بعض المشروعات المتفرقة في المملكة العربية السعودية. لم يدر في خلد أحد، قبل عام واحد، أن بين ظهرانينا يجري التحضير لأكبر مشروع لتصدير أشعة الشمس في العالم. وقد عكس ذلك بوضوح عنوان مقالة “فيريتيراتكليف” في مجلة بلومبيرغ في 7 مارس 2021م: الخطة الجريئة للمملكة العربية السعودية للسيطرة على سوق الهيدروجين الذي يبلغ حجمه 700 مليار دولار.
كانت المملكة قد أعلنت في شهر أبريل 2016م عن رؤيتها المستقبلية 2030، التي استدعت تنفيذ مشروعات متنوِّعة وعملاقة، ومن بينها مشروع “نيوم”، في الطرف الشمالي الغربي للبلاد، وهو الأضخم من نوعه على مستوى العالم، ويهدف، من بين أشياء أخرى، إلى بناء مدن مستقبلية ذكية، ومجمع ضخم للطاقة الشمسية، حيث سيكون مركزاً عالمياً لإنتاج الهيدروجين الأخضر بتكلفة تبلغ 5 مليارات دولار. وسوف يعمل هذا المجمع بالكامل بواسطة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ومن المخطط أن يتم افتتاحه في عام 2025م.
ولتحقيق هذا المشروع الطموح، وقَّعت “نيوم”، في يوليو 2020م اتفاقية شراكة مع شركة “إير بروداكتس آند كيميكالز إنك” وشركة “أكواباور” لبناء المنشآت الضخمة لإنتاج الهيدروجين في مصنع “هيليوس للوقود الأخضر” بطريقة تراعي كافة الاشتراطات البيئية.
ومن المقرر أن يُستخدم قسمٌ من الهيدروجين المنتج في المنشآت المحلية لتلبية نصف احتياجاتها من الطاقة من هذه المصادر المتجدِّدة بحلول عام 2030م وفق رؤية المملكة لهذا التاريخ. وسيصدر القسم الآخر إلى الأسواق العالمية، مما يوفِّر حلولاً مستدامة لقطاع النقل في العالم، ويسهم بشكل فعَّال وعملي في تخفيض الانبعاثات الكربونية الضارة بالبيئة على صعيد الكرة الأرضية.
تتطلَّع أرامكو السعودية إلى ما هو أبعد من مجرد تصدير الغاز الطبيعي، إذ تسعى حالياً إلى إنتاج الهيدروجين الأزرق والأمونيا الزرقاء مع تقليل الانبعاثات الغازية الضارة بالبيئة من خلال استخدام تقنيات التقاط ثاني أكسيد الكربون واستخدامه لتعزيز إنتاج النفط وتخزينه في باطن الأرض، وكذلك استخدام الغاز الكربوني لإنتاج الميثانول في منشأة ابن سينا التابعة للشركة السعودية للصناعات الأساسية “سابك“.
ميزات المملكة التنافسية
تمتلك المملكة العربية السعودية ميزات تنافسية مهمة على هذا الصعيد. فلديها ساعات سطوع شمسي طويلة خلال العام، ورياح مناسبة لتوليد الطاقة في عدة أماكن في البلاد، ومساحات شاسعة من الأراضي غير المستغلة، مما يجعلها منتجاً عالمياً للطاقة البديلة يصعب منافسته في أي مكان آخر.
وستساعد هذه الميزات على تخفيض تكلفة الإنتاج إلى حدٍّ كبير. فبحسب مؤسسة “بلومبيرغ لأبحاث الطاقة”، يمكن أن ينخفض سعر الكيلوغرام الواحد من الهيدروجين الأخضر ليصل في عام 2030م إلى 1.5 دولار أمريكي. وسيكون هذا السعر منافساً لأسعار معظم منتجي الهيدروجين الأخضر في العالم. علماً بأن التكلفة الحالية لإنتاج كيلوغرام واحد منه تقدَّر بنحو 5 دولارات، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة المتجدِّدة.
ومع ذلك، ربما يبدو هذا التقدير متفائلاً، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بعض العقبات التقنية التي تتطلَّب إيجاد حلول هندسية فنية لها. من أهمها معضلة تخزين الهيدروجين في خزانات وصهاريج وأسطوانات خاصة، تكون ذات تصميم كفيل بحماية هذا الغاز من التسرب للخارج وتجنب خطورة اشتعاله وانفجاره. وهذا ينعكس، في نهاية المطاف، على تكلفة الإنتاج وبالتالي على الأسعار. لكن ذلك ينطبق على كافة المنتجين مما لن يؤثر على قدرة المملكة التنافسية.
من جهة أخرى، تسعى المملكة العربية السعودية حالياً ضمن مشروع “نيوم” إلى إنتاج النيتروجين من الهواء ومفاعلته مع الهيدروجين للحصول على الأمونيا الخضراء المهمة جداً في كثير من الصناعات الكيميائية، التي تستخدم أيضاً كوسيط آمن لنقل الهيدروجين الأخضر لمسافات طويلة بين الدول والقارات.
وعن أهمية هذا المشروع صرَّح المهندس نظمي النصر الرئيس التنفيذي لـ “نيوم” لجريدة “الشرق الأوسط” في 7 يوليو 2020م: “إن هذا المشروع الضخم يحقق للمملكة الريادة عالمياً في إنتاج الوقود الأخضر، حيث ستستقطب “نيوم” الاستثمارات الدولية، وأفضل العقول في العالم لتقديم الحلول المستدامة وتسريع التقدم البشري”. وللتعبير عن فرادة هذا المشروع صرَّح “بيتر تيريوم”، مدير الطاقة والمياه والغذاء في “نيوم” لـ “العربية نت” في 7 مارس 2021م: “لا يوجد شيء رأيته أو سمعته من قبل بهذا البُعد أو التحدي”.
الغاز الطبيعي السعودي ينمو بشكل كبير نظراً لمميزاته الكثيرة ومن أهمها بصمته الكربونية المنخفضة، وتوفر البنية التحية والتشغيلية والإنتاجية لدى الشركة، مع قدرة أرامكو على احتجاز الكربون على نطاق واسع وبأسعار تنافسية.
أرامكو السعودية وإنتاج الهيدروجين
وعلى النهج نفسه، تتطلع أرامكو السعودية إلى ما هو أبعد من تصدير الغاز الطبيعي، إذ تسعى حالياً إلى إنتاج الهيدروجين الأزرق والأمونيا الزرقاء منه مع تقليل الانبعاثات الغازية الضارة بالبيئة من خلال استخدام تقنيات التقاط ثاني أكسيد الكربون واستخدامه لتعزيز إنتاج النفط وتخزينه في باطن الأرض، وكذلك استخدام الغاز الكربوني لإنتاج الميثانول في منشأة ابن سينا التابعة للشركة السعودية للصناعات الأساسية “سابك”.
هذه الإمكانات الواعدة لأرامكو السعودية جعلت شركة التكرير اليابانية “إينيوس” توقِّع مذكرة تفاهم معها لبحث إمكانات توريد الهيدروجين الأزرق لها، وتقييم ناقلات الهيدروجين الكيميائية مثل الأمونيا وسيكلوهكسان، وذلك بهدف نقل الهيدروجين من السعودية إلى اليابان. وبالفعل تم في شهر سبتمبر لعام 2020م نقل أول شحنة أمونيا زرقاء من السعودية إلى اليابان بلغت 40 طناً، واستُخدمت لتوليد الطاقة الكهربائية ضمن استراتيجية اليابان للنمو الأخضر، ولتحقيق هدف الحياد الكربوني الذي أعلنت عنه في شهر أكتوبر أول العام الماضي. علماً بأن اليابان تستورد من السعودية أكثر من ثلث استهلاكها السنوي من النفط الخام.
من جهته قال النائب الأعلى للرئيس للمالية والاستراتيجية والتطوير في أرامكو السعودية خالد الدباغ نقلته عنه مجلة “ناتشيرال غاز انتليجينس” في 22 مارس 2021م: “إن الغاز الطبيعي السعودي ينمو بشكل كبير نظراً لمميزاته الكثيرة ومن أهمها بصمته الكربونية المنخفضة، وتوفر البنية التحية والتشغيلية والإنتاجية لدى الشركة، مع قدرة أرامكو على احتجاز الكربون على نطاق واسع وبأسعار تنافسية”.
يذكر أن شركة “هيونداي” وقَّعت مطلع شهر مارس للعام الحالي اتفاقية مع أرامكو السعودية للحصول على غاز النفط المسال الذي يتم الحصول عليه خلال تكرير النفط الخام أو يستخلص من آبار النفط عند خروجه من باطن الأرض. وسوف تحصل الشركة الكورية الجنوبية على هذا الغاز ليتم تحويله إلى هيدروجين أزرق وأمونيا زرقاء. ويتضمَّن هذا الاتفاق تعزيز التعاون لبناء سفن قادرة على نقل شحنات الغاز البترولي المسال وناقلات للأمونيا.
إن المميزات الفريدة للمملكة العربية السعودية من حيث موقعها الجغرافي وتوفر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وكذلك مميزات الغاز الطبيعي السعودي من ناحية بصمته الكربونية المنخفضة وتحويله إلى هيدروجين أزرق بتكلفة تنافسية، وبالإضافة إلى توفر الخبرات والكوادر العلمية والتقنية ذات المستويات العالمية، يؤهلها لأن تصبح محوراً عالمياً لإنتاج وتسويق الطاقة النظيفة والهيدروجين في العالم. مما سيقلل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لأكثر من ثلاثة ملايين طن سنوياً، وينعكس إيجاباً على مناخ كوكب الأرض بشكل عام، وعلى جودة حياة الإنسان بكافة جوانبها من خلال التوظيف الأمثل لتقنيات المستقبل الآمنة.
اترك تعليقاً