هناك ألغاز عديدة كانت وما زالت تؤرِّق العقل البشري جيلاً بعد جيل. من أشهرها مسألة الوعي وبداية الكون وطبيعة الزمن. ولكن ربما كان لغز الزمن هو الأكثر إرباكاً على الإطلاق. ويبدو أيضاً أن حل لغز الزمن سيحلّ معه بقيّة الألغاز بطريقة ما. فالواضح أن مشكلة الوعي ترتبط بالذاكرة وغموضها؛ وهذه الأخيرة ترتبط بالزمن. ومسألة بداية الكون بالطبع لا حل لها إلَّا بفهم الزمن. ولكن طبيعة الزمن مثل السراب يحسبه الظمآن ماءً، فإذا جاءه لم يجده شيئاً!
حدثت ثلاث ثورات في الفيزياء غيّرت تماماً مفهومنا الساذج عن الزمن، الثورة الأولى كانت ثورة الديناميكا الحرارية في القرن التاسع عشر، ومن ثم حدثت ثورتان في بداية القرن العشرين شكَّلتا أُسس الفيزياء الحديثة كلها، وهما ثورتا النظرية النسبية وميكانيكا الكم. وكل واحدة من هذه الثورات الثلاث ضربت مفهومنا للزمن عرض الحائط.
مطلق أم نسبي؟
إذا لم تقرأ من قبل في الديناميكا الحرارية أو النظرية النسبية أو نظرية الكم، فعلى الأرجح أن تصوّرك للزمن عبارة عن كيان قائمٍ بذاته يُشبه النهر في جريانه يصبّ علينا كل يوم بحيث لا نعي إلا اللحظة الحاضرة، أما الماضي فقد ذهب وانتهى، والمستقبل غير موجود ولكنه سيأتي على أي حال. وساعة يدك سواء أكانت ميكانيكية أو رقمية تقيس ذلك الزمن النهري وتُشير إليه.
حسناً، الصورة السابقة للزمن كلها خاطئة، وناتجة من وهم عقولنا! هذه الصورة النمطية تنتج من انطباعنا الأوليّ للزمن، الذي غالباً ما يكون خاطئاً في كل شيء، لا في الزمن فقط. وقد ترسّخت صورة الزمن النمطية هذه أكثر في أعماقنا، بعدما نجح السير إسحاق نيوتن في بناء قوانين الحركة في القرن السابع عشر، حيث افترض أن الزمن بمثابة كيان مُطلَق يصب بكيفيّة واحدة في كل أرجاء الكون، فإذا وقعت حادثة ما في مكان ما في الكون، ورآها شخص، فبالتأكيد ستكون قد وقعت وانتهت بالنسبة لأي شخص آخر، مهما كان موقعه. أي إن هناك زمناً واحداً مطلقاً للجميع. ولنجاح قوانينه الباهر في وصف حركات الأجسام الأرضية والسماوية سيطرت صورة الزمن المطلَقة هذه طوال قرنين على فكر الجميع، ودُرِّسَت ورُسِّخَت في عقول كل الأجيال في المدارس في مختلف بلدان العالم، حتى أتى شاب وشكّ في صحة هذا الزمن المطلق. شاب اسمه ألبرت آينشتاين.
نسبية الزمن ومشكلته
مع مطلع القرن العشرين كانت هناك مشكلة تؤرِّق علماء الفيزياء النظرية، إذ لم تكن قوانين نيوتن التي تصف حركة الأجسام المادية متوافقة مع قوانين ماكسويل التي تصف الموجات الكهرومغناطيسية أو الضوء. بخياله الجامح، اكتشف آينشتاين أنه يستطيع حل هذه المشكلة، ولكن إذا تخلّينا عن فكرة الزمن المطلق التي قال بها نيوتن.
بيّن تحليله الحذر أنه ممكن أن تقع حادثتان يراهما شخص ما تحدثان في الوقت نفسه، بينما يراهما آخر لا تحدثان في الوقت نفسه! لقد وجد أن مفهوم الزمن لا يمكن فصله عن المكان ولا عن سرعة الضوء. إنه ليس كالنهر المطلق الذي يصبُّ على المكان صباً، بل هو ليس سوى شيء يشبه المكان، أو بكلمات أكثر دقة؛ ما هو إلا بُعد رابع منسوج مع نسيج المكان.
لقد اتضح بأن الزمن والمكان كميّتان نسبيّتان تتغيّران بحسب موقع الراصد وحركته. وهذا يعني أن عالمنا عالمٌ رباعيُّ الأبعاد وليس ثلاثيَّ الأبعاد. يمكنك أن تتحرَّك إلى الأمام / الخلف، ونسميه البُعد x، ويمكن أن تتحرَّك يميناً / يساراً ونسميه البُعد y، ويمكن أن تتحرّك للأعلى / للأسفل ونسميه البُعد z. ويدخل الآن بُعد الزمن t بصلابة في معادلات النظرية النسبية ولا يمكن فصله أبداً عن الأبعاد المكانية، بحيث يصبح العالَم الذي نعيش فيه عالماً رباعيَّ الأبعاد (x, y, z, t). وقد أيَّدت كل التجارب هذه النتيجة بدقّة لا مثيل لها.
وهنا تأتي الطامة الكُبرى؛ فبحسب نظرية آينشتاين هذه فإن الزمن موجود دائماً مثله مثل المكان! عندما تتحرّك بسيارتك على طول طريق ما فإنك تعلم أن امتداد هذا الطريق أمامك موجودٌ سواءٌ وصلت إليه أم لم تصل. وتعلم أيضاً أن الطريق الذي تركته خلفك لا يزال موجوداً.
والآن إذا كان الزمن بُعداً ويعامَل رياضياً مثلَه مثل بقية الأبعاد المكانيَّة، فهذا يعني أن الزمن بماضيه وحاضره ومستقبله موجودٌ كلُّه الآن دفعةً واحدة! الزمن بحسب النسبية لا يجري كالنهر، بل يمكن اعتباره نهراً متجمّداً. مثل شخصٍ ما يقود درّاجةً هوائيةً وينظر إلى الأرض ويحسب أن الأرض هي التي تتحرّك، ولكن في الواقع هو الذي يتحرَّك فوق الأرض الساكنة. بالمثل نحن نتحرَّك فوق الزمن الساكن بطريقة ما، ونعتقد أنه هو الذي يجري!
لا شك في أنك مصدوم الآن! إذا لم تكن مصدوماً، فربما لأنك تعوَّدت على صدمات الفيزياء من قبل. ولكن لنتمهل، لأن هذا الكلام خطير! هل يعني ذلك أن المستقبل مُحدَّدٌ سلفاً؟
في هذه الحالة سندخل ونصطدم بقوة بمسائل فلسفية وأخلاقية كثيرة مثل حرية الإرادة وغيرها. إذا كان المستقبل مُحدَّداً سلفاً فهل نستطيع أن نلوم قاتلاً على قتله؟ ربما المجرم يعرف النظرية النسبية ويجادل القاضي بأن كل الزمكان بماضيه وحاضره ومستقبله موجودٌ الآن وهو جزء منه، وبالتالي عملية القتل مُحدَّدة سلفاً، وهو لا حول له ولا قوة في ذلك، ويلتمس العفو من القاضي. وهذا العفو أيضاً سيكون مُحدَّداً سلفاً!
في الحقيقة هناك بعض الفيزيائيين من يعتقد أن كلّ شيءٍ بالفعل محدَّدٌ سلفاً في الزمكان، وذلك إذا ما أخذنا النسبيَّة بمعناها الحرفيّ! ولكن عليّ أن أقول إن هذه المشكلة جدليَّة جداً ولا يمكن حسمها ببساطة هكذا.
الزمن في الديناميكا الحرارية
هناك مكانٌ آخر يُعطي مفهوماً مختلفاً للزمان ربما مفهوماً منطقياً أكثر، وأعني مفهوم الزمن في الديناميكا الحرارية. رغم أن النسبية تُصوّر لنا الزمان على أنه نهرٌ متجمّد يحوي الماضي والحاضر والمستقبل معاً دفعة واحدة، إلا أننا جميعاً نشعر بأن الزمن يتقدَّم ويتغيَّر. جميعنا يشعر بأن هناك اختلافاً حاداً بين الماضي والمستقبل. إذا كان الماضي والحاضر والمستقبل موجودين الآن، فلماذا نتذكَّر الماضي فقط، ولا نتذكَّر المستقبل؟ النسبيَّة لا تقدّم إجابة عن هذا السؤال، لكن ذاك الفرع المسمَّى الديناميكا الحرارية يُقدِّم إجابة.
في الحقيقة إن قوانين الفيزياء عمياء، أعني أنها لا تُميِّز بين الماضي والحاضر والمستقبل. فلو أخذنا قوانين نيوتن التي تحكم ديناميكا الأجسام، أو قوانين ماكسويل التي تحكم الظواهر الكهرومغناطيسية، أو معادلة شرودينغر التي تصف تطوُّر الاحتمالات في عالم الذرَّات، سنجد أنها لا تُميّز ان كان الزمن يتحرَّك للأمام أو للخلف! هناك متغيّرات معيّنة تتغيّر في هذه المعادلات، ولكن يمكن أن نفهمها وكأنها تتقدّم ناحية المستقبل أو تعود إلى الماضي، الاثنان سواءٌ؛ لا شيء في هذه المعادلات يخبرنا عن اتجاه الزمن. لكن هناك قانوناً واحداً فقط يرتبط بعمق باتجاه معيَّن للزمن، وهو القانون الثاني للديناميكا الحراريَّة.
ينصُّ هذا القانون على أن فوضى الأشياء أو ما يسمى الإنتروبيا يزداد مع الزمن. تصوَّر كوباً من الشاي يسقط من أعلى منضدة، لو قمنا بتصوير فيديو لهذا السقوط، فسيمكننا بسهولة أن نعرف إذا ما كان الفيديو يُشغَّل إلى الأمام أو إلى الخلف. لو شغَّلناه إلى الخلف فسنرى قطع الكوب المكسورة تتجمَّع من تلقاء نفسها، وتقفز لأعلى الطاولة وتصنع الكوب من جديد. في الحقيقة لا شيء في قوانين الفيزياء يمنع أن يحدث ذلك، ولكن، بكل بساطة، هذا أمرٌ بعيد الاحتمال جداً! هذا ما نقصده عندما نقول إن الإنتروبيا تزداد مع الزمن. أي إن الذرّات لا تتَّخذ الاحتمالات المرتَّبة جداً.
الصورة السابقة للزمن كلها خاطئة، وناتجة من وهم عقولنا! هذه الصورة النمطيّة تنتج من انطباعنا الأوليّ للزمن، الذي غالباً ما يكون خاطئاً في كل شيء، لا في الزمن فقط.
لا شيء، على سبيل المثال، يمنع الآن أن تتجمَّع كل ذرَّات الهواء فجأة في زاوية الغرفة وتتركني أختنق وأنا أكتب هذه الكلمات عن الزمن! ولكن هذا أمرٌ بعيدُ الاحتمال إلى درجة العدم. والسبب ببساطة هو أن هناك احتمالات لا نهائية عشوائية لطرق تَوَزُّع ذرّات الهواء في الغرفة أو لطرق كسر الكوب وتفتّته، بينما لا يوجد سوى احتمال مرتَّب واحد أن تتجمَّع كل الذرَّات في زاوية الغرفة أو أن يعود الكوب من تلقاء نفسه إلى الطاولة.
إذن نسمّي الحالة عندما كان الكوب على الطاولة بـ الماضي، ونسمي حالة السقوط والكسر بـ المستقبل. وعليه نقول إن زيادة الفوضى أو الإنتروبيا مع الزمن هو ما يعطينا إيحاءً بوجود اتجاه للزمن يُميِّز الماضي عن المستقبل. والآن لماذا نتذكَّر الماضي فقط ولا نتذكَّر المستقبل؟
في الحقيقة لكي تُعاد قطع الكوب المكسور للطاولة، علينا أن نبذل شغلاً أو طاقة من الخارج، وكل عمليّة نقوم بها لتنظيم شيء ما، تَنتُج منها طاقة أو حرارة ضائعة ذات فوضى عالية لا يمكن الاستفادة منها. صحيح أن هناك أنظمةً كأنها تكسر القانون الثاني للديناميكا الحرارية مثل الثلاجة، حيث إن التبريد الذي يحدث داخل الثلاجة يعني حالة مرتَّبة محدَّدة للذرّات، ولكن مقابل هذا التبريد المنظَّم هناك حرارة أو فوضى لا بُد من أن تُطلَق للخارج وتكون أكبر من كميّة التبريد في الداخل. وهكذا كل فعل نقوم به لترتيب شيء ما، يستهلك طاقة تُطلَق على شكل حرارة ضائعة، ونقول عندها إن الفوضى الكليَّة قد ازدادت.
الآن ذاكرة دماغنا جزءٌ من الطبيعة ولا تُخالف هذا القانون، وعليه كلما حاولتَ تَذَكُّر شيءٍ ما فإنك تُرتِّب ذرات دماغك بطريقة ما، وهذه العمليَّة نفسها (محاولة التذكُّر) تستهلك طاقة وترفع الإنتروبيا من حولك، وبالتالي تُسهِم في زيادة الحرارة والفوضى بشكل عام. إن ذاكرتنا البشرية أيضاً خاضعة للقانون الثاني، وبالتالي لا أمل لرؤية الزمن من الخارج دون إحداث فوضى. أي إننا جزء من المشكلة التي نحاول حلّها!
الزمن ونظرية ميكانيكا الكم
والآن إذا كانت فوضى الأشياء تزداد، فهذا يعني أنها كانت مرتَّبة جداً لحظة بداية الكون بالانفجار العظيم، قبل ما يقارب 14 مليار عام. وهذا هو السبب في أن لغز بداية الكون مرتبطٌ بلغز اتجاه الزمن أو اتجاه زيادة الفوضى. لماذا كانت الإنتروبيا منخفضة جداً لحظة الانفجار العظيم؟ في الحقيقة لا يملك أيُّ أحد إجابة مقنِعة.
وفوق كل هذا الغموض أضافت ملكة الغموض، نظريّة ميكانيكا الكم، غموضاً إضافياً على مفهومنا للزمن. رغم وجود مفهوم الاحتمال من قبل في الفيزياء، وخاصّة في الديناميكا الحراريَّة، إلا أنه دخل دخولاً جوهرياً وخطيراً في صُلب قوانين ميكانيكا الكم.
فلو كان لدينا صندوقٌ يحوي بداخله مليارات المليارات من الجزيئات، فإننا لا نطبق قوانين الفيزياء لكل جزيء على حِدة، هذا أمرٌ محال. بل نقوم بتطبيق ما يسمَّى الميكانيكا الإحصائية، وهي التعامل على أساس إحصائي تام مع سرعات الجزيئات ومواقعها؛ كأن نقول مليار جزيء سيكون لها تقريباً هذه السرعة في هذه اللحظة. ومن هذا الإحصاء تنبثق مفاهيم عامة مثل الحرارة والضغط. لكن في ميكانيكا الكم الأمر مختلفٌ تماماً، فقد اتضح أن الجسيمات الذرية بحد ذاتها تتّبع احتمالاتٍ معيّنة في صُلبها قبل رصدها، وهذا سيؤثّر تأثيراً بالغاً على مفهومنا للزمن.
لفهم ذلك، تأمَّل كرة تنس تطير، إنك تعلم بأن هذه الكرة تسير على خط زمني معيَّن من الماضي إلى المستقبل، فإذا رصدتَ الكرة في اتجاه معيَّن ستكون لديك فكرة عن طول الطريق الذي سلكته، حتى لو لم تَرَه مباشرة. إنه أمر بديهي، لكن هذا لا يحدث في عالم الكم! فلو أبدلنا كرة التنس بإلكترون ذرّة فإنه لن يتّبع خطاً زمنياً معيَّناً قابلاً للتنبؤ!
تصوَّر أنك وضعت جهازاً قام برصد الإلكترون في لحظة معيَّنة في اتجاه معيَّن، هذا لا يعني أنك قادرٌ على رسم خط مساره مثلما ترسم مسار كرة التنس. في الحقيقة إن الإلكترون قادم من كل المواضي (جَمع الماضي) المحتملة! عندما تتحرّك كرة تنس يكون لديها مسارٌ واحدٌ أو خطٌ زمنيٌ واحدٌ قابلٌ للتنبّؤ، بينما سيكون للإلكترون عددٌ لا نهائيٌ من المسارات أو الخطوط الزمنيّة أو المواضي المحتمَلة، وعندما نرصده في لحظة ما فلا يعني ذلك أنه كان هناك قبل تلك اللحظة. ربما كان في كون آخر قبل رصده! لا مشكلة في ذلك طالما أن كل الاحتمالات مفتوحة! وليست المواضي الممكنة وحدها غير محدَّدة في ميكانيكا الكم، بل يقترح البعض أن المستقبل متعددٌ أيضاً!
تصوَّر أن هناك إلكتروناً قادماً من جهة ما واصطدم بذرّة معيَّنة، تخبرنا قوانين ميكانيكا الكم بأن هناك احتمالاً %50 أن يُرصَد في جهة اليمين و%50 في جهة اليسار. افرض أن الجهاز التقطه في جهة اليمين، فأين يذهب الاحتمال الآخر، أي اليسار؟ ربما تقول إنه ببساطة لم يحدث، وانتهى الأمر. لكن هناك عشرات التفسيرات لظواهر الاحتمالات في ميكانيكا الكم.
يقترح البعض أن في لحظة تصادم الذرّة بالإلكترون، ينشقُّ الكون بأكمله إلى احتمالين: يمين ويسار! أي قبل أن يصطدم الإلكترون بالذرة كان هناك عالمٌ واحدٌ، لكن له مستقبلان محتملان! أحدهما يتحرك فيه الإلكترون ناحية اليسار والآخر ناحية اليمين. وتسمَّى هذه النظرية بالأكوان المتوازية في ميكانيكا الكم. وهذا يضرب بعمق مفهومنا العادي للزمن!
لك الخيار في النهاية عزيزي القارئ في تخيُّلك لهذا الكيان الغامض الذي نسميه الزمن.
بالرغم من ان هذا المقال مستند على اسس علمية حديثة، الا ان ما انتابني عند قراءته الا الدهشة.
الاسلوب رائع.
شكراً جزيلاً علئ هذا البحث العلمي الرائع