يبدو مفهوم أحادية اللغة، الذي يعني قدرة الفرد على التحدث بلغة واحدة، متعارضًا بداهةً مع مفهوم تعدّديّة اللغة، الذي يشير إلى أن الفرد يتحدث لغاتٍ متعدِّدة، إلا أنَّ بين “الأحادية” و“التعدّدية” هناك محطة وسطى: ثنائية اللغة.
في العقود الثلاثة الأخيرة أكدت كثير من الدراسات الإحصائية على مستوى العالم أن عدد متعدّدي اللغات أكثر من عدد أحاديي اللغة، حتى بات يعتقد على نطاق واسع أن التطور اللغوي يتجه إلى تنحي أحادي اللغة، لصالح التعددّية اللغوية. هذه الظاهرة تشكّل اليوم أهم التحديات الجديدة التي تواجهها اللغة العربية، التي تضاف إلى تحديات أخرى ما زالت تواجهها منذ زمن طويل نسبياً، لعلّ أبرزها مشكلة توزّعها بين لغة فصيحة غير محكية، تستخدم لغة للكتابة وكل ما يخرج عن المعاش والاستعمال اليومي، وعاميات كثيرة شائعة ولهجات دارجة ومحكية.
تضمّن تعريف الموقع الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة لليوم العالمي للاحتفاء باللغة العربية، الذي يجري يوم 18 ديسمبر من كل عام، منذ عام 2000م، تنفيذاً لقرار المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بالاحتفاء باليوم الدولي للغة الأم، تنويهاً إلى أن اللغة العربية “تُعدُّ ركناً من أركان التنوّع الثقافي للبشرية. وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم، إذ يتكلم بها يومياً ما يزيد على 400 مليون نسمة من سكان المعمورة”، وأنها تكتسب “أهمية قصوى لدى المسلمين، باعتبارها لغة مقدَّسة (لغة القرآن)، ولا تتم الصلاة (وعبادات أخرى) في الإسلام إلا بإتقان بعض من كلماتها. كما أن العربية هي كذلك لغة شعائرية رئيسة لدى عدد من الكنائس المسيحية في المنطقة العربية، حيث كُتب بها كثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى”.
وتضمَّن التعريف بموضوع الاحتفالية للعام 2021م، وهو “اللغة العربية والتواصل الحضاري” إشارة مهمة إلى أن هذا الموضوع يكتسي “أهمية بالغة في كنف المجتمعات التي تتعاظم فيها العولمة والرقمنة والتعددية اللغوية، إذ يُسلّم بالطبيعة المتغيّرة للعالم والحاجة الماسة لتعزيز الحوار بين الأمم والشعوب”.
الإشكال الذي يطرح الازدواج بين الفصحى والعاميات قديم، إذ برز مع بدايات القرن العشرين، لكن قرننا الحالي أضاف إليه تحدياً جديداً، هو مشكلة أحادية اللغة وتعدّديتها.
وهي إشارة إلى أهم التحديات الجديدة التي تواجهها العربية، التي تضاف إلى تحديات أخرى تواجهها منذ زمن طويل نسبياً، ويقع في القلب منها ما عبَّر عنه الكاتب والشاعر عباس بيضون، بقوله “المشكل الأساسي لهذه اللغة، والذي يطبع حضورها اليوم ويجعله شائكاً ومعقَّداً وبدون مخارج، مشكلة توزُّعها على لغة كتابية وعاميات كثيرة. لغة كتابية غير محكية، وتبقى مع ذلك اللغة الأم، ولغة الثقافة ولغة الأدب ولغة الجُمَع والمنصّات المشتركة، لغة الإذاعات والمحطات التلفزيونية والمؤتمرات والبيانات الرسمية. أي إنها في كل ما يخرج عن المعاش والاستعمال اليومي”.
تعبير عن عمق التحديّات
واللافت أن تعريف الأمم المتحدة بيوم العربية، تصدّره بيت أحمد شوقي الشهير:
إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُّغاتِ مَحاسِناً
جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضادِ
والبيت هو الأخير في قصيدة “على سفح الأهرام”، وقد أنشدها شوقي؛ كما يذكر ديوانه، حين وفد “أمين أفندي الريحاني، أحد من أدباء سوريا، على مصر، فأقام له بعض الأدباء حفلًا على سفح الأهرام، وشاطَرهم إيَّاه شوقي”، وفي الديوان هامش يوضِّح “سر الضاد” كون “الضاد تعني: اللغة العربية، وإنما سُمِّيت كذلك؛ لأن الضاد لا توجد في لغة سواها، ولا يقوى أهل اللغات الأخرى على النطق بها” وهذا تعبير عن عمق التحديات؛ قديمها وحديثها، التي تواجهها اللغة العربية، وقد خص، بيضون، مسألة الفصحى والعاميات (المحكية) ووصفها بأنها “المشكل الأساسي”، مشيراً إلى واقع أن الفصحى “ليست لغة الحياة والراهن واليوم.. إننا اليوم أمام لغة وسيطة، أمام فصحى محكية، أمام فصحى تتبسط وتقترب من المحكي. لكن إلى أين ينتهي ذلك؟ لسنا أمام أي مستقبل واضح”.
“مشكل” الفصحى والعاميات قديم، إذ برز مع بدايات القرن العشرين، لكن قرننا الحالي أضاف تحدي أحادية اللغة وتعدّديتها، كما أبرزها تنويه اليوم الدولي للغة العربية.
حرب اللغات.. والإرث اللساني
في تصدير لويس جان كالفي للترجمة العربية لكتابه “حرب اللغات والسياسات اللغوية” (ترجمة حسن حمزة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008م)، توضيح أنه لم يقصد المعنى الحرفي لكلمة “حرب”، لكنه يشدد على أننا “نستطيع أن نتتبَّع في العلاقات بين اللغات، أثر نزاعات أخرى؛ فقد خلفت الأمبراطوريات الاستعمارية إرثاً لسانياً شبيهاً بالإرث الذي خلَّفته الحروب والعلاقات الاقتصادية، وبالإرث الذي خلَّفته العولمة”، وأنه “ليس في اللغة شيء جامد، وليس فيها شيء نهائي؛ فكل ما في اللغة في حراك.. كل شيء حولنا يبيِّن لنا أن اللغة التي لا تتطوَّر فتتجمد تصبح أقرب إلى الموت”.
مظهر آخر لهذه “التحديات” نجده في تقديم كتاب “اللغة” (إعداد وترجمة: محمد سبيلا، وعبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال، الرباط، 2005م)، حيث أشارا إلى أن “الدراسات اللغوية الحديثة أبرزت أن للغة نفسها سُلطة على النفوس والعقول وأنها نفسها تتضمَّن رؤية للعالم، وأن تحليل لغة السلطة يتعيَّن أن يمر أولاً عبر سلطة اللغة نفسها، وخاصة في المجتمع الحديث المليء بالكلمات والرموز والعلامات التي تُداهِمُ الفرد بواسطة وسائل الإعلام أو وسائل المعرفة المختلفة”.
بين الأحادية والتعددية
المفهومان: أحادية اللغة وتعدّدها، متعارضان بالبداهة. وكل منهما يتضمَّن معاني متعدِّدة. فأحادية اللغة تعني في أبسط تعريف لها “قدرة الفرد على التحدث بلغة واحدة”، لكنها تكتسب معاني سياسية حين تعني “اللغة الرسمية، لغة القانون والتعليم”، ثم تكتسب معاني مضاعفة حين تكون “الرسمية” قيداً على جماعات وطنية تتحدث لغات أخرى، غير تلك اللغة الرسمية. بين “الأحادية” و”التعددية” هناك محطة وسطى: ثنائية اللغة.
في العقود الثلاثة الأخيرة أكدت العديد من الدراسات الإحصائية على مستوى العالم أن عدد المتحدثين متعددي اللغات أكثر من عدد أحاديي اللغة، حتى بات يعتقد على نطاق واسع أن التطوُّر اللغوي يتجه إلى تنحي أحادي اللغة.
يقدِّم فرانسوا جرجون في كتابه “ثنائيو اللغة” (ترجمة زينب عاطف، هنداوي للنشر، 2010م) تعريفاً بسيطاً، حيث “ثنائيو اللغة هم أناس يستخدمون لغتين (أو لهجتين) أو أكثر في حياتهم اليومية”، بهذا يكون ضمن الـ 400 مليون الذين يتحدثون العربية عدة ملايين من ثنائي اللغة، وبحسب صياغة جرجون، يمكن أن يُعدَّ هؤلاء أكثر من ذلك، إذ نقرأ في مفتتح الفصل الأول التالي: “من قبيل الفضول، بحثتُ في محرك البحث جوجل عن مصطلح “ثنائي اللغة”، وظهر لي عدد هائل من النتائج (ربما يكون هذا العدد قد زاد عند قراءتك لهذا الكتاب). بحثتُ بعد ذلك عن أساليب استخدام هذا المصطلح، ووجدتُه يُستخدَم في سياقات القواميس الثنائية اللغة، والمِهَن الثنائية اللغة، والأشخاص الثنائيي اللغة، والقوانين الثنائية اللغة، والدول الثنائية اللغة، والكتب الثنائية اللغة، والألعاب الثنائية اللغة، والدراسات الثنائية اللغة، والاقتراع الثنائي اللغة، وقواعد البيانات الثنائية اللغة، والمدارس الثنائية اللغة.. وما إلى ذلك”، وعلى سبيل الطرافة فإن موضوع “الألعاب الثنائية اللغة” بالغ الوضوح، فالعرب الذين يلعبون النرد “الطاولة” هم “ثنائيو اللغة”، حين يصيحون “دو يك”، أو غيرها من الأرقام، أما بعيداً عن الطرافة فتتبدى ثنائية اللغة في التخصصات الطبية وما يتصل بها امتداداً لواقع أن الثنائية اللغوية شرطٌ في الغالبية العظمى من المنشورات العلمية.
حتمية التطوُّر اللغوي
في العقود الثلاثة الأخيرة أكدت العديد من الدراسات الإحصائية على مستوى العالم أن عدد المتحدثين متعدِّدي اللغات أكثر من عدد أحاديي اللغة، حتى بات يعتقد على نطاق واسع أن التطوُّر اللغوي يتجه إلى تنحي أحادي اللغة.
وظهرت دراسات تفصيلية تُبرز المقارنة بين أحاديي اللغة ومتعدّديها، وكما أشار، جرجون، فإن “التعدُّد اللغوي يبدأ بدرجتها الأولى: الثنائية”، ومن ضمن تلك الدراسات كان هناك تركيز على أثر التعدُّد اللغوي على الصحة العقلية، وجرى التأكيد على أن التعدُّد اللغوي يسهم في تعزيز”الاحتياطي المعرفي”، حيث إن معرفة أكثر من لغة بمثابة تحفيز للنشاط العقلي، ومما يؤكد ذلك رصد سجلّات طبية تتبعتْ عدداً من البالغين أحاديي اللغة ومتعدِّدي اللغة، جميعهم يعانون الخرف، فوجد أن متعدِّدي اللغة شُخصوا على أنهم يعانون من الخرف بعد حوالي ثلاث إلى أربع سنوات مقارنة بالبالغين أحاديي اللغة، وجرى تفسير ذلك الرصد وفق التفسير الأكثر احتمالاً؛ وهو أن معرفة لغات متعدِّدة تحافظ على حالة تأهب الدماغ وبالتالي يكون هناك إدراك عقلي أكبر لفترة أطول من الزمن.
الدراسات المقارنة بين أحاديي اللغة ومتعدِّديها طالت مختلف مناحي الحياة: الصحة، في مختلف مظاهرها، والتعليم، والاقتصاد، والأمن القومي، والإعلام.
التعبير باللغة الأم
في رفع مكانة اللغة الأم (اللغة العربية) يبدو التعريف بكتاب عبدالفتاح كيليطو “أتكلم جميع اللغات.. لكن بالعربية” (ترجمة: عبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال، الرباط، 2013م) بالغ العمق، حيث يرى كيليطو “أننا لا نتحرّر من لغتنا التي تربّينا عليها في أسرتنا، والتي اعتدناها وألِفناها. فهي حتى إن كانت في حالة كمون، فإنها تظل متربصة في المناسبات جميعها. على هذا النحو فإن كل متكلم يعبِّر باللغات الأجنبية انطلاقاً من لغته التي يمكن التعرّف عليها عن طريق نبرة شاذة أو لفظ أو تركيب، وأيضاً عن طريق النظرة وسمات الوجه (أجل، لِلُغة وجه). مهما كانت الكلمات الأجنبية التي أتلفظها، تظل العربية مسموعة من خلالها كعلامة لا تَمّحي. أتكلم اللغات جميعها، لكن بالعربية بكل أسف، لست أنا صاحب هذه القولة الجميلة، لست صاحبها بالتمام. فهي اقتباس معدَّل لمقطع من يوميات كافكا الذي يورد هو بدوره قول فنانة من براغ: أترون.. إنني أتكلم اللغات جميعها، لكن بالييديش”.
وكيليطو يبدأ كتابه مستنداً إلى “حكاية” وردت في “رسالة الغفران” للمعري، فيورد ذلك المقطع الذي يخصصه المعري للحديث عن لغة الإنسان الأول “نعلم من خلاله أن سيدنا آدم – عليه السلام – كان يتكلم اللغة العربية في الجنة، كما نقرأ أنه عندما هبط من الفردوس، نسى العربية فأخذ يتكلم السريانية، وهكذا اقترن عنده تغيير المكان بفقدان لغة واكتساب أخرى، ندرك أن نسيان اللغة الأصلية يُعدُّ عقاباً. وبطبيعة الحال، بعد البعث والعودة للجنة، سينسى آدم السريانية ويستعيد العربية”.
يعرض كيليطو لتفاصيل من حياته الباكرة، فيذكر أنه حتى سن السابعة لم يكن يعرف إلَّا العربية “وبما أنني لا أذكر كيف اكتسبتُها (فمن منا يذكر كيف تعلم التكلم؟)، أميل إلى الاعتقاد أن هذه اللغة فطرية، وأني جئت إلى الدنيا معها”، ثم يطرح بعد صفحات هذا السؤال: كيف يمكن للمرء أن يكون وحيد اللغة؟، ويجيب: “منذ كنت طفلاً يافعاً، وحتى قبل أن أرتاد المدرسة، كنت أعلم أن هناك لغة أخرى غير العربية، هي الأمازيغية، التي كان يتكلمها صاحب دكان الحي الذي كنت أقطنه. إذا كانت اللغة الأمازيغية مرتبطة بالنسبة إليّ بالدكان (لم أكن بطبيعة الحال لأخمّن وقتئذ مدى غنى الثقافة الأمازيغية)، فإن الفرنسية كانت شديدة الارتباط بغذاء عجيب تتعذَّر تسميته: وهو عبارة عن قطعة خبز مقسومة شطرين، مع شيء مّا يوضع بينهما. في طريقي إلى المدرسة، كنت أمرّ على ثكنة عسكرية حيث غالباً ما كنت أرى عسكرياً يسير جيئة وذهاباً، وهو فرنسي طويل القامة قويّ الجسد، ذو سحنة وردية اللون، يحمل على كتفه بندقية ويعض بملء فيه ساندويتش. لم أكتشف هذه الكلمة ذات الأصل الإنجليزي، إلا سنوات فيما بعد، ومؤخراً علمت أنها مشتقة من اسم الكونت دو ساندويتش، الذي اكتشف طباخُه هذا النوع من الأكلات كي يُجنّبه مغادرة طاولة اللعب”.
عالم متعدِّد اللغات
واقع طفولة كيليطو الذي وصفه ببراعة مُظهراً أن التعدُّدية اللغوية كانت سمة حاكمة في مفردات العالم من حوله، حيث تتقاطع: العربية والأمازيغية والفرنسية والإنجليزية، تقاطعاً لن يعي مصادره إلّا بتقدمه في التعليم والتجربة، وقد كان وقوعه على “أصل” الساندويتش، كما أخبرنا قد حدث “مؤخراً”، هو الآن كما يخبرنا صاحب “حرب اللغات والسياسات اللغوية” واقع شامل، فالناس يعيشون “عالماً متعدِّد اللغات”، وفيه يجدون أنفسهم “في مواجهة اللغات، أينما كانوا، وأياً ما كانت اللغة الأم التي سمعوها، أو تعلموها، فإنهم يلقون لغات أخرى في كل يوم، فيفهمونها أو لا يفهمونها، ويتعرّفون عليها أو لا يتعرّفون، ويحبّونها أو لا يحبّون، وتحكمهم أو يحكمونها: فالعالم متعدّدُ اللغات. تلك حقيقة واقعة. والتاريخ اللغوي الذي هو مظهر من مظاهر تاريخ العالم، ليس في جزء كبير منه سوى إدارة لهذا التعدُّد اللغوي”.
العالم متعدّدُ اللغات. تلك حقيقة واقعة. والتاريخ اللغوي الذي هو مظهر من مظاهر تاريخ العالم، ليس في جزء كبير منه سوى إدارة لهذا التعدُّد اللغوي.
ثم يقدِّم تعريفاً متصلاً باللغة العربية، والمشكل الأساس الذي أبرزه عباس بيضون في تناوله لـ “معضلة” الفصحى والعاميّات المحكية، حيث يذكر أن “مصطلح “الازدواجية اللغوية” (Diglossie) لم يظهر في أدبيات اللسانيات إلا في عام 1959م حين استخدم اللساني الأمريكي شارل فرغيسون هذا المصطلح المأخوذ من اللغة الإغريقية. ولئن كان هذا المصطلح لا يعني في اللغة الإغريقية سوى الثنائية اللغوية، فإنه يكتسب عند فرغيسون معنًى أدق من ذلك، فقد حدَّد الكاتب الازدواجية اللغوية انطلاقاً من أربعة أحوال يعدُّها مثالية (وهي المنطقة الألمانية في سويسرا، ومصر، وهاييتي، واليونان)، على أنها العلاقة الثابتة بين ضربين لغويين بديلين ينتميان إلى أصل جيني واحد: أحدهما راق والآخر وضيع (كالعربية الفصحى والعاميات، والإغريقية الشعبية الحديثة والإغريقية “المهذَّبة الصافية”…إلخ)”، ثم يضع لهذين الضربين في الاستعمال جدولاً يظهر توزيع الاستعمال الوظيفي بمظاهره المختلفة، حيث يقع في خانة “الراقي” الاستعمالات التالية: المواعظ والعبادة، والرسائل الخاصة، والخطب السياسية والجمعيات، والدروس الجامعية، ومعلومات عن وسائل الإعلام، والشعر، وفي خانة “الوضيع” تقع الاستعمالات التالية: الأوامر للعمال والخدم، والمناقشات الخاصة، والمسلسلات، والأدب الشعبي.
الدراسات المقارنة بين أحاديي اللغة ومتعدِّديها طالت مختلف مناحي الحياة: الصحة، في مختلف مظاهرها، التعليم، الاقتصاد، الأمن القومي، الإعلام.
منذ وضع فرغيسون تصوّره هذا مضت الأبحاث اللسانية إلى بحوث متباينة الاتجاهات، حتى أفضت في العقود الثلاثة الأخيرة إلى المنحى الإحصائي التفصيلي، لتبيان الفروق بين أحادية اللغة وتعدديتها، في مختلف مناحي الحياة، ومعها ظهرت مداخل أكثر إثارة، أشار صاحب “ثنائيو اللغة” إلى أحدها، ضمن حديثه عن قدرة ثنائيي اللغة على التحكُّم في اللغة التي يتحدثون بها، وكيف يُقْصُون لغاتهم الأخرى، فذكر أن “أطباء الأعصاب وعلماء اللغويات العصبية أجروا مؤخراً دراسات تقوم على تصوير الدماغ، في محاولةٍ منهم لتحسين فهمنا للبُنى التي تتحكم في اختيار اللغة. استعرض جوبن أبو طالبي وديفيد جرين الدراسات في هذا الموضوع، وقالا إن ثمة بنًى عصبية كثيرة تلعب دورًا في هذا الشأن؛ يبدو أن الجزء الأيسر من النواة الذنبية في المنطقة تحت القشرية من الدماغ يشرف على الاختيار الصحيح للغات، والجزء الأيسر من القشرة أمام الجبهية يُحَدِّث اللغةَ المناسبة ويحافظ على استمرار العمل بها، بالإضافة إلى أنه يكبح اللغات غير المستخدمة، وترسل القشرة الحزامية الأمامية إشاراتٍ إلى القشرة أمام الجبهية بالأخطاء المحتملة في اختيار اللغة، ويوجّه الجزءان الأيمن والأيسر من القشرة الجدارية الخلفية الاختيارَ نحو اللغة المستخدمة”.
اترك تعليقاً