مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2021

أكثر من رسالة


اهتمامات متنوّعة.. حياة مزدهرة

تعقيباً على المقال المنشور في عدد “القافلة” السابق، الذي حمل عنوان “أزمة الراحة.. الاكتئاب والقلق في عصر الراحة”، للكاتبة مهى قمر الدين، فإنني أتفق معها في أن “الكرسي” كما قالت، صار عنواناً لعصر الراحة، وأصبح له تأثيراته السلبية على حياتنا، سواء أكان الهدف من الجلوس عليه ترفاً أم عملاً أم تعليماً.

فمن الجوانب السلبية لكرسي الراحة، أنه أحياناً يقيّد حركتنا ويجعلنا أسرى الخمول والكسل، ويعترينا بسببه عديد من الانتكاسات الصحية والنفسية والاجتماعية، في الوقت الذي يؤكد فيه كثير من الدراسات والأبحاث العلمية على تأثير نمط الحياة الحيوي والمرن والمتنوِّع في اكتساب الفرد حياة صحية في مختلف الجوانب، سواء علمياً أو اجتماعياً أو نفسياً، وكذلك جسدياً، وأن الجمود أو الاسترخاء الدائم، أو حتى التركيز والاجتهاد في العمل على جانب واحد فقط في الحياة، من شأنه أن يؤثر سلباً على تكامل وعي الإنسان وإدراكه في النواحي الأخرى.

سبب آخر للاكتئاب
وهنا أحبُّ أن أتحدث بتفصيل أكثر عن جانب آخر مهم، ربما يكون سبباً في القلق والاكتئاب، أشارت إليه الكاتبة في مقالها، وهو أهمية تنويع مجالات الاهتمام في حياتنا، دون أن نهمل تركيزنا على أعمالنا وتخصصاتنا، فقد بيَّنت نتائج دراسة حديثة، نُشرت في دورية الوعي والإدراك، كتبها الدكتور منغران تشو، من جامعة واترلو الكندية، أن التنبيه الذهني (اليقظة الذهنية الكاملة) وممارسة تمارين التأمل لمدة عشر دقائق يومياً، تحدّ من مشاعر القلق والتوتر، وتساعد على مضاعفة التركيز في الأعمال، وهذا كافٍ لأن يخرجنا من التركيز المطلق على أمر معيَّن، ويجدِّد فينا الأفكار والطاقات المختلفة ويشحنها.

مع ذلك نحن لا ننكر أن شحن الطاقة وتوجيهها للتركيز على جانب محدَّد، وتقويتها فيه، أمر جيد ويمدّنا بوفرة تخصصية هائلة ودقة ودراية تامة في موضوعات وعناوين هذا المجال، لكن في خضم كل ذلك لا ينبغي للفرد أن يتناسى النواحي الأخرى في حياته، فيتنبه متأخراً أنه كسب معرفة وخبرة كبيرة في جانب واحد، لكنه على الأرجح خسر نواحي عديدة في حياته.

وقاية من الأمراض
وقد أسفرت نتائج دراسة أجراها الدكتور دين أورنيش، من جامعة كاليفورنيا، عن أن الأشخاص الذين تمتعوا بتغييرات في أسلوب حياتهم ونمط معيشتهم في جوانب عديدة، سواء غذائية أم في أوجه النشاط المختلفة، أو حتى في نواحي الدعم الاجتماعي، كانوا أقل عُرضة للإصابة ببعض الأمراض، مثل سرطان البروستاتا.

ولعلنا نقف على تأثير سلبي آخر ينتج عن نمط الحياة الرتيب والمنغمس في التركيز على جانب واحد فقط، وهو الوحدة والانعزال الاجتماعي، الذي يتسبَّب بدوره في عتاب الأحبة والأصحاب، والحرمان من مسامرتهم والجلوس معهم والاستمتاع باللقاءات الحميمية مع من نحب.

الحاجة إلى المشاركة
قد ينغمس بعض منّا في العمل، أو في طلب العلم، ويتسابق في حقول المعرفة، لكنه ينسى أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وأنه يحتاج إلى مخالطة الناس، ومشاركتهم اهتماماتهم المختلفة، وفي خضم استغراقه في رحلته المضنية والشاقة، يدرك أنه فقد كثيراً من حيويته وعلاقاته، فتثبط همته وتفتر عزيمته، رغم أن أهدافه ربما كانت سامية وعظيمة.

لذلك أكدت الدراسات ودلَّلت التجارب والخبرات على أنه كلما كان الفرد مرناً في أهدافه وليناً في طباعه ومتنوِّعاً في مجالات اهتمامه، تغذى فكره ونما عقله وسمت روحه، وكانت حياته أكثر إشراقاً.

عائق أمام الإبداع
إن التركيز الشديد على مهمة معيَّنة قد يؤثر سلباً على طاقتنا الإبداعية، وفي المقابل قد يعزِّز الالتفات إلى مثيرات أخرى من فرصتنا في ابتكار حلول جديدة لمشكلاتنا، بل ويرى كثير من علماء النفس أن التفكير على موضوع واحد هو العائق الرئيس أمام الإبداع، وقد أجرى الباحث جاكسون لو، من جامعة كولومبيا، دراسة للكشف عن مزايا القيام بمهام متعدِّدة في آنٍ واحدٍ بدلاً من الانغماس في مهمة أو عمل أو دراسة معيَّنة، وبعد أن أخضع مجموعتين للدراسة، إحداهما تتولى مهمة محدَّدة فقط، بينما الأخرى تتولى عدَّة مهام مختلفة ومتباينة في الوقت نفسه، وخلص إلى أن أداء إحدى المجموعتين المدروسة كان أفضل من الأخرى، وهي المجموعة التي عملت على مهام متعدِّدة ومتنوِّعة، وتوصل إلى أنه لولا توقف هذه المجموعة من وقت إلى آخر لتحويل انتباهها بين المهام المختلفة لكانوا أحرزوا تقدماً محدوداً فقط.

علينا أن نكون متعمقين في تخصصاتنا، منشغلين بأعمالنا وإنجازاتنا، مجتهدين في تحصيلنا وتعليمنا، ولكن في الوقت نفسه، علينا أن نرفق بأنفسنا ونمنحها أوقاتاً للخروج من كل تلك الضغوط ونمارس أدواراً مختلفة وهوايات محبَّبة وننوّع في مجالات اهتمامنا، وأن نجتمع بأحبائنا وأصدقائنا ونشاركهم اهتماماتهم.

هند القحطاني
عضو هيئة التدريس في
جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل


سلوك الإنسان.. وصورة
المكان الذهنية

في العدد السابق من المجلة، لفت انتباهي في باب أدب وفنون، موضوع: (لندن.. تتسلَّل إلى وجدان الشعر العربي) للكاتب “ميثم ضياء الموسوي”، الذي تطرَّق بعد مدخل مقتضب سلّطه على حضور المدينة في الشعر الإنجليزي، إلى أسباب منطقية لبدايات القطيعة التي كانت قائمة بين رموز الشعر العربي ولندن، وعوامل التحوُّلات في النظرة الشعرية العربية إليها: من “لندن” العاصمة التي تختزل بسمعتها تاريخاً عريضاً وقاتماً لأعتى قوى الاستعمار الغربي، إلى “لندن” المكان الإنساني الذي أخذ مكانه الطبيعي واللائق في وجدان الشعر العربي.

التسلّل إلى الأدب
وإذا ما تحدثنا عن التسلل بمفهومه الجبري القائم على الاحتيال غير المقبول بالنسبة لقيم الروح القابلة لكل ما ينسجم معها، فإن لندن قد دخلت إلى فضاءات الأدب العربي تسلّلاً، من وجهة نظر صادرة من مثالب السياسة الاستعمارية التي انتهجها الإنجليز في المنطقة العربية، وقد أثرى الكاتب هذه الزاوية بإشارات رائعة أصّلت أسباب القطيعة من قبل رموز شعرية عربية كبيرة كشوقي والرصافي وغيرهم، ممن عرف لندن وهو في بلده يعيش بيئة اجتماعية وجماهيرية تموج بالسخط الشعبي والمطالب التحررية الرافضة لممارسات جند بريطانيا الشداد الذين استعمروا الأرض بالحدود، فكانت “لندن” مركزاً يدير منه النظام البريطاني سياساته الاستعمارية، ومصدراً تتفشى منه ثقافة الغلظة.
ما لم يأخذه الكاتب بعين الاعتبار، من عوامل الحسم الواقعية لنظرة الشعراء إزاء الصورة الذهنية للمدينة، هو طبيعة الحالة النفسية والعمرية، والمزاج الفكري والإبداعي والعاطفي للشاعر أو الأديب الذي وفد إلى لندن، فأقام فيها زمناً تآلف فيه مع تفاصيل حجرها وشجرها وبشرها، أو عَبَر منها لأول مرَّة، فصدمه مشهدها العمراني وحركتها البشرية ومركزيتها المالية والاقتصادية، أو نزل فيها مريضاً يريد الشفاء، فخرج حاملاً لعلله المتفاقمة.

معايير وصفية
فمثلاً، حالة الشاعر نزار قباني وحضوره الشعري ورؤيته التفاؤلية للحياة وأناه العَصِيَّة على الانكسار أمام جمود المدينة، ففي مخياله من مدن النرجسية العاطفية ما يحيل لندن إلى عشيقة تشاطره مناجاة القمر، ومع ذلك ليس معياراً وصفياً واقعياً لجوهر المدينة، كما لم تكن حالة السياب المرضية معياراً للحُكم على مدينة الضباب بتلك الكآبة والقتامة المنبعثة من معاناة روحه المنكسرة، وجسده الذاوي بين ثياب السقم، ونفسيته التي ازدادت غربة وضيقاً مغايراً لاتساع المدينة، ومشهدها المادي “المخرسن” والقاسي على شاعر قروي عاش ساعات الليل البهيج، مستمتعاً بمناجاة نخيل جيكور العراق، ومساءاتها المترعة بالمتعة المتفتقة من أسى اليتم، والألم، والشقاء، وهو بعزّ شبابه، فكيف به وهو بمشاعره اليائسة، وقلبه المحطَّم يشارف على الموت في عالم “لندن” المادي الذي لا يرحم.
الموضوع أحالنا أيضاً إلى حضور المشهد المدني الأوروبي، ممثّلاً بلندن، في الأدب الروائي العربي، وتحديداً في “موسم الهجرة إلى الشمال”، للطيب صالح، حيث بدت كمكان حضري حافل بالبشر والمعرفة والعلم والسياسة والفن حد الإغواء، فبطل الرواية مصطفى سعيد، الذي هاجر شمالاً إلى القاهرة، ثم إلى مدينة الضباب بتسهيلات من الإنجليز الذين اكتشفوا ذكاءہ الخارق، فاحتفوا به من المدرسة حتى أوصلوه لندن، حيث يقول مصطفى: “… وبعد ثلاثة أعوام، قال لي ناظر المدرسة، وكان إنجليزياً: هذا البلد لا يتسع لذهنك، فسافر. اذهب إلى مصر أو لبنان أو إنجلترا”.. ثم يواصل في مقام آخر: “وصلت القاهرة، فوجدت مستر روبنسن وزوجته في انتظاري، فقد أخبرهما مستر ستكول بقدومي. صافحني الرجل وقال لي: كيف أنت يا مستر سعيد…؟”.

مفارقات حضارية
وعبْر إشارات خاطفة تعكس مفارقات الحضارة بين القاهرة ولندن من حيث الثراء المالي والنشاط الثقافي والاقتصادي، وغيرها من المفارقات التي قدَّمها الطيب صالح على لسان مصطفى الذي درس في لندن ولمع في سمائها وأصبح أستاذاً في إحدى كلياتها الجامعية بين عامي 1916 و1929م، حيث يقول: “كانت لندن خارجة من الحرب، ومن وطأة العهد الفكتوري. عرفت حانات تشلسي، وأندية هامبستد، ومنتديات بلومزبري….”.
لقد تعامل الطيب صالح مع الاستعمار الإنجليزي كفكرة ظنية أرَّقت الشعوب بالحروب وحركات الاستقطاب الحميد لنخب المجتمعات المُسْتَعْمَرة، معالجاً مشكلات إنسانية وسلطوية واجتماعية ومعيشية، أبرزها هجرة العقول الإفريقية والعربية، والشرقية بشكل عام، من نبعها وموطنها، إلى المهجر البريطاني الذي تحرص سلطاته دوماً على وضع اليد على أرض مجتمعاتها المطحونة بالشتات والصراعات والجهل، فيما ذكاء تلك العقول اللازم لخدمة بلدانها يتلاشى تحت منشار الزمن وسنواته المقرونة بالمغامرات والضياع خارج قيم العقيدة، وعبر تداعٍ سردي أفضى إلى سؤال مصادر الثروات التي عَمَّرت “لندن” بدفق روافدها من مستعمرات بريطانيا في إفريقيا وعدن والهند، وغيرها من المناطق التي تقع غالباً جنوباً في جغرافيا الأرض.
خلاصة القول: إن الموضوع المشار إليه آنفاً أحالنا لقضية أكثر أهمية من رمزية ودلالات المكان في أجناس الأدب الإنساني عامة، والعربي خاصة، هو سلوك الإنسان المُعمِّر لمدن الغرب، وصِلَتُه بصورتها الذهنية، التي تتجلَّى في تضاعيف الأدب ومسارح الفن العربيين، شعراً ونثراً، تجريداً وتجسيداً، فالمكان هو المكان، بينما سلوك البشر هو الأمر الحاسم في نظرة الأدباء والشعراء والفنانين للمكان، سواء المنتمين له، أو العابرين منه، فهم الأعين الناقدة للخلل، والمرايا العاكسة للحقيقة عبر مناطق الزمن.

محمد محمد إبراهيم
كاتب يمني


مقالات ذات صلة

رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.

يقول أبو العلاء المعري في واحدة من قراءاته لمستقبل الطفولة: لا تَزدَرُنَّ صِغــارًا في ملاعبِـهِم فجائزٌ أَن يُرَوا ساداتِ أَقوامِ وأَكرِمـوا الطِّفلَ عن نُكـرٍ يُقـالُ لهُ فـإِن يَعِـشْ يُدعَ كَهـلًا بعـدَ أَعــوامِ المعري وهو الذي لم يُنجبْ أطفالًا؛ لأنَّه امتنع عن الزواج طوال عمره، يؤكد من خلال خبرة معرفية أهمية التربية في البناء النفسي للأطفال، […]


0 تعليقات على “أكثر من رسالة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *