ينتمي فِلْم «حد الطار»، إلى الواقعية الكلاسيكية التي تلتقط مفارقات دقيقة من صلب الواقع. فقصة هذا الفلم مستوحاة من أحداث حقيقية جرت على مرأى من المخرج عبدالعزيز الشلاحي في أحد أحياء مدينة الرياض، فرواها للكاتب مفرج المجفل الذي كتبها لتصبح هذا الفلم الرائع، الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة «صلاح أبو سيف» في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2020م. وتسلم الجائزة، المخرج عبدالعزيز الشلاحي، كما حصل الممثل السعودي فيصل الدوخي على جائزة أفضل ممثل عن الفلم نفسه.
يصوّر فلم “حدّ الطار” قصة حُب بين ابن سيّاف ينفِّذ أحكام الإعدام، وابنة طقّاقة وهي مطربة أفراح شعبية تستخدم الطار أثناء غنائها، وهما شخصيتان مستوحيتان من الواقع، لأنه لا يمكن للخيال أن ينحتهما بهذه الدقة.
لامس المخرج الشاب هذا التناقض المحيّر في الواقع ليعبر به عن تحوّلات اجتماعية لا تخلو من المفارقات. وعنوان الفلم بحد ذاته يعبّر عن مفارقة ملحوظة بين تنفيذ حكم الإعدام (الحدّ) وروح الفرح المتمثل في الطبل (الطار).
الحُب والتقاليد
يطرح “حد الطار” في ساعة وثلث الساعة جدلية الاستسلام للحُب والتمسك بالتقاليد الموروثة، وما إذا كانت هذه التقاليد يجب أن تبقى سيدة الأحكام في عالم يتغيَّر ويتطوَّر ويتبدَّل باستمرار. وهي جدلية ناقشتها السينما المصرية منذ الأربعينيات وحتى الستينيات في أفلام كثيرة، نذكر منها “ليلى بنت الفقراء” على سبيل المثال، وغيره كثير من الأفلام التي ناقشت هذه المسألة وتأثيراتها في الحياة.
فالموروثات الاجتماعية والثقافية تفرض خضوعاً خاصاً يحيل إلى ثقافة المجتمع. وهنا تكمن الثنائية المتناقضة: بيع الفرح مقابل شراء الموت! هذه الازدواجية هي عمق آخر جدير بالحفر فيه، وهي ما يحرك عالم قصة فلم “حد الطار”، عالم الحبيبان (دايل وشامة): رجل أبيض وامرأة سمراء، وفي ذلك ما قد يستوقف البعض، إضافة إلى أنهما شخصان ينتميان إلى شريحتين اجتماعيتين مختلفتين. لكن الحب لا يبالي بالتصنيف الفئوي ولا الطبقية الاجتماعية، حسبما يظهر في القصة التي كتبها، أو انتشلها من الواقع، الكاتب مفرج المجفل (كاتب فلمي “المسافة صفر”، و “المغادرون”).
قصة حُب محفوفة بالصعاب
يروي هذا الفلم قصة حُب بين “دايل” و “شامة” ودايل هو ابن سيّاف، لا يرغب في أن يرث وظيفة والده الموظف في دائرة الحقوق والقصاص، حيث ينفِّذ أحكام القتل أو الحرابة بالسيف في حق مَن صدرت بحقهم الأحكام الشرعية.. وشامة هي ابنة طقاقة تغنِّي في الأفراح الشعبية. لكن عم دايل والمسؤول عنه بعد وفاة والده، يرفض هذا الحُب ويقف عائقاً أمام هذه الزيجة؛ لرغبته في تزويج دايل من ابنته، ويستخدم لهذه الغاية الضغوط المالية على دايل وحرمانه من ميراث جده بالشرع والقانون؛ نظراً لأن والد دايل توفي قبل جده؛ وبالتالي، لا يحق له شرعاً الحصول على ميراثه.
يطرح “حد الطار” في ساعة وثلث الساعة جدلية الاستسلام للحُب والتمسك بالتقاليد الموروثة، وما إذا كانت هذه التقاليد يجب أن تبقى سيدة الأحكام في عالم يتغيَّر ويتطوَّر ويتبدل باستمرار.
وتتصاعد الأحداث. فصحيح أن شامة تُظهر مشاعر الود لدايل؛ لكنها لا تتوقف عن التفكير في من تحب، وهو ابن خالتها المتهم في قضية قتل. فعائلتها لا تستطيع دفع الدية اللازمة لإنقاذه. ويتواصل تصاعد الحبكة بصورة دراماتيكية محكمة؛ خصوصاً أن دايل يفترض حال موافقته على الوظيفة التي سيرثها عن والده، أن يكون هو المسؤول عن تنفيذ الإعدام على ابن خالة شامة.
وتحدث تطوُّرات متسارعة للأحداث ونهاية غير متوقعة، ولكنها معبِّرة عن جوهر قصة الفلم. فالأحداث قدَّمت صورة لما كان للمغالاة في التشدُّد من آثار على الحياة الاجتماعية خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، ليس أقله نظرة المجتمع الدونية إلى العاملين في مجال الموسيقى والغناء، بما في ذلك تقديم النساء موسيقاهن وأهازيجهن في المجالس النسائية المعزولة تماماً عن عالم الرجال، والمكرسة في الأفراح النسائية.
ومن ضمن القضايا التي ناقشها الفلم من دون إسهاب أو تطويل؛ ما يتعلق بمسألة “الثأر”. فالأسرة فقيرة، ولو كانت تحظى بوفرة المال لاستطاعت إنقاذ ابنها من الموت الديّة. كما يلقي الفلم بضوء خاطف على الاستغلال السيئ للتشرع والقانون سواء باستغلال العم مسألة الميراث للضغط على ابن شقيقه، أو احتمال أن يتحوَّل دايل إلى سيَّاف كي يقطع رأس مَن تحبه الفتاة التي أحبها.
طاقم ممثلين مختار بعناية
لا يولد عمل ناجح إلَّا بصعوبات يتخطاها القيمون عليه، لذلك مر فِلْم “حد الطار” ببعض الصعوبات التي يقول عنها الشلاحي إنها “كانت في وجود الممثلين المناسبين لهذه البيئة. إذ إن النص كان يحوي شخصيات كثيرة وبعضها معقَّد في التركيب. فتم اختيار الأبطال بناءً على تجارب سابقة لهم في أعمال أخرى”.
شارك في تمثيل الأدوار الرئيسة في الفلم الممثل فيصل الدوخي (دايل) وأضوى فهد (شامة)، وأدَّى الإثنان دوريهما باقتدار، وتلقائية تجعل من أدائهما تقمصاً بالغ الاحترافية، رغم أنهما يمثلان للمرَّة الأولى. وهذا ما يشي بالاستعداد الفطري وبتجويده عن طريق التدريب والاستعداد النفسي والتهيئة الأدائية المركزة. كما ساندهما بالقدر نفسه من حسن الأداء كل من سامر الخيال، ندى الشهري، هاشم هوساوي، عجيبة الدوسري، راوية أحمد والفنان القدير علي إبراهيم. وهذا الاختيار من الممثلين وحملهم على الأداء بهذه التلقائية والتقمص يخلق توازناً، ضمن للفلم صدقيته في أمانته الفنية للواقع.
الفلم هو التعاون الرابع بين الكاتب مفرج المجفل والمخرج عبدالعزيز الشلاحي، وأثمر هذا التعاون فلماً مُخرَجاً وممنتجاً ومنتجاً وممثلاً ومسروداً بشكل رصين في 80 دقيقة، تكاملت فيها حبكته لتصوغ من السيناريو الخاص به فِلماً جديراً بالمشاهدة والتقدير، أخلص له المنتج المصري أحمد موسى، واستعد له فريقه خلال ثلاث سنوات بما يكفل له التنفيذ المرموق.. إنه من دون شك فلم مغزول سينمائياً بشكل أخّاذ.
نال فلم “حد الطار” جائزة لجنة التحكيم الخاصة “صلاح أبو سيف” في حفل ختام فعاليات الدورة 42 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2020م.
وتسلَّم الجائزة، المخرج عبدالعزيز الشلاحي، كما حصل الممثل السعودي فيصل الدوخي على جائزة أفضل ممثل عن الفلم نفسه.
وكان الشلاحي نال “جائزة الفنان محمود عبدالعزيز لأفضل إنجاز فني” في الدورة 35 من مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، العام الماضي 2019م عن فِلْم “المسافة صفر”.
اترك تعليقاً