لم يكن مفهوم الداخل والخارج، أي داخل الأماكن المقفلة وخارجها، قبل نمط الحياة العصرية واضحاً. كان الداخل قبل الثورة الصناعية، التي انطلقت في أواخر القرن الثامن عشر، يقتصر بمعظمه على المنازل أو بعض دور العبادة أحياناً. وحتى ذلك الحين، لم تتغيَّر وظيفة المنزل كثيراً بالنسبة لمعظم سكان الكرة الأرضية عن وظيفة الأكواخ الأولى التي بدأ يبنيها الإنسان في العصر الحجري الحديث قبل حوالي 9000 سنة؛ النوم والاحتماء من المخاطر. وكان الإنسان يقضي معظم أوقاته خارجاً في الطبيعية والحقول.
أما اليوم فقد أصبحنا ننظر إلى مفهومَي الخارج والداخل، على أنهما مفهومان مختلفان تماماً. فالداخل هو حيث نعيش، ونعمل، وندرس، وحيث نحصل على حاجياتنا من البقالة، وحيث نمضي أوقات التسلية. وبحسب الوكالة الأمريكية لحماية البيئة فإن الفرد هناك يقضي اليوم %87 من وقته في الداخل، و%6 داخل السيارات، ويبقى فقط %7 من وقته يقضيه خارجاً. والأرجح، عند إصدار تقرير الوكالة اللاحق، أن ينخفض أكثر هذا الوقت القليل الذي يقضيه الفرد خارجاً، بفعل الحجر أثناء وباء كوفيد19-، الذي جعل الداخل ينحصر بمعظمه في البيوت.
والخارج من جهة أخرى، هو حيث الطبيعة والأشياء التي نخلّفها فيها، مما ليس منها في الأساس، مثل النسب العالية من ثاني أكسيد الكربون، والمخلَّفات البلاستيكية وغيرها.
والتلوّث هو ذلك النوع من الخطر وتلك السمة الواقعيّة التي ينسبها معظم الناس إلى الخارج. غير أن بيوتنا في الداخل، تنطوي على مخاطر التلوّث من ذاتها. فأي شيء، من مواد التنظيف ومنتجات العناية بالبشرة، وما يَنتج من الطهو، يمكن أن يُصدِر ملوّثاتٍ وسموماً. وعلاوة على هذا، لا يمكننا أيضاً، ونحن في الداخل، أن نحتمي تماماً من مخاطر ملوثات الخارج، وهذا يجعل مكوثنا في الداخل يحتمل خطراً أكبر حتّى من الذهاب إلى الخارج؛ وعلى الخصوص، في ظروف جائحة كوفيد19-، التي تُفاقِم مخاطر الداخل.
مضار التلوث الداخلي
في التقرير الأخير الصادر عن الوكالة الأمريكية لحماية البيئة، يُمكن لنسبة تَرَكُّز الملوّثات في الداخل، أن تبلغ بين ضعفين وخمسة أضعاف نسبة تركّزها في الخارج وحتى أكثر من تلك النسبة في أثناء الحجر الصحيّ التي لم يشملها التقرير بعد. وهذا ينطوي على خطر جديّ للغاية. ويشير التقرير إلى مصادر عديدة للتلوّث الداخلي، لها آثار متفاوتة في الجسم البشري. فالمواد الجانبيّة الناتجة من الاحتراق، كالتدخين، وغاز المواقد، وحرق الخشب والفحم في أدوات التسخين والطهو، وكذلك المدافئ، يمكن أن تؤدّي إلى مجموعة كاملة من أمراض الرئة والقلب، وإلى السرطان أيضاً. ويمكن للعثّ والغبار ولقاح الزهر أثناء الربيع وفرو الحيوانات، أن تسبّب حساسيّات لدى بعض الأشخاص. أما المركّبات العضويّة المتطايرة من الدهان، والمبيدات الحشريّة، والخشب الاصطناعي المركّب، والعطور الاصطناعيّة، ومواد التنظيف، والغبار، ومنتجات الزينة، وغيرها، فيمكنها أن تسبّب تهيّجاً في العينين والأنف والبلعوم، وصداعاً، ودواراً وإعياء. والتراب الناتج من التسرّب، وسوء التهوية، والتركّز الناشئ من الغسل والتنظيف والطبخ، قد تؤدّي إلى تهييج الأنف والجلد.
وثَمَّة مصدر أساسيّ آخر للتلوّث الداخلي، هو مواد البناء، مثل ألياف الأسبستوس، التي يمكنها أن تسبّب أمراضاً تنفسيّة وفي حالات متقدِّمة قد تسبِّب السرطان، ومنتجات الخشب المضغوط التي تنتج غازات كيميائيّة (فورمالديهايد)، يمكنها أن تهيّج العينين والأنف والبلعوم.
المواد الجانبيّة الناتجة من الاحتراق، كالتدخين، وغاز المواقد، وحرق الخشب والفحم في أدوات التسخين والطهو، وكذلك المدافئ، يمكن أن تؤدّي إلى مجموعة كاملة من أمراض الرئة والقلب، وإلى السرطان أيضاً.
ما العمل؟
ثَمَّة بعض النصح في مقالة نشرتها “Cleveland Clinic” في مارس 2020م: عدم التدخين في الداخل؛ تهوية المنزل بانتظام؛ تنظيف الغبار؛ واستخدام الوسائل الطبيعيّة للتنظيف من حول المنزل؛ إزالة كومة التراب والغبار المتراكم؛ أيضاً تهوية شراشف الفراش وتبديلها بانتظام.
إن الجزيئات السامة للجلد، هي نوع من التلوّث الداخلي. فقد جاء في مقال نشرته مجلّة New Scientist، في يناير 2020م: “أن جزيئاً في الجلد قد يفسّر لماذا تُسبّب لنا بعضُ مستحضرات التجميل طفحاً جلديّاً”، وقد أُلقي الضوء على آليّة ردود الفعل التحسّسيّة التي يبديها بعض الأشخاص حيال مستحضراتٍ مثل معجون الأسنان، والعطور، ومراهم الجلد. فبعض الموادّ المُحَسِّسَة المستعمَلة في منتجات المراهم الجلديّة، تتّحد مع پروتين في جلدنا يُدعى CD1a، فتطلق ردّ فعلٍ مناعيّاً، يظهر كردّ فعل حساسيّ (allergic). إن هذا الكشف قد يكون الخطوة الأولى في اتجاه معالجة الحساسيّات الجلديّة. لكن في انتظار ذلك، إذا كان المرء ممّن يتحسّسون من مستحضرات التجميل، فالحل الوحيد هو تجنّبها، أو استخدام منشّطات لتلطيف رد الفعل المناعي.
الرادون القاتل المتخفّي
غير أن التلوّث يمكن أن يأتي من الخارج، عبر النوافذ والأبواب المفتوحة، ونُظم التهوية، وغيرها. أحد الملوّثات الخارجيّة هو غاز الرادون المشعّ، الذي هو غازٌ طبيعي نادر، ونتاجٌ جانبي مشعّ من اليورانيوم والثوريوم والراديوم البالية في التربة. فهو ينطلق من الأرض ويمكن أن يُحتبَس في جوارٍ مقفَل مثل المباني، أو التسرّب عبر الشقوق في الجدران والأساسات. وهو مادة شديدة الأذى، ولا يمكن للحواس البشريّة أن تلاحظ وجوده، إذ لا لون ولا طعم ولا رائحة له. وبحسب المركز الأمريكي للحماية والوقاية من الأمراض، الرادون هو ثاني أكبر سبب بعد التدخين، لمرض سرطان الرئة.
لقد ألقت دراسة عنوانها: “تأثير تركيز الرادون الداخلي في الرياض، المملكة العربيّة السعوديّة”، كَتَبَها الغامدي، أ. س.، ونشرتها مجلة “قياسات الإشعاع” (Radiation Measurements)، في المجلّد 62، عام 2014م، الضوء على الوضع في المملكة، في شأن مستويات الرادون في المباني السكنيّة. لقد قاس الباحثون مستويات الرادون في 786 منزلاً في الرياض، ووجدوا أن %98.5 من النتيجة جاءت دون المستوى المقبول من نسبة تركيز الرادون التي تقول بها منظمة الصحّة العالميّة (أي أفضل). وبحسب الدراسة “تبيّن أن النتائج متباينة تبايناً أساسيّاً بسبب أنواع المنازل والغرف، والتهوية، والمواسم ومواد البناء. فنسبة تركُّز الرادون أعلى في المنازل التي لم يتم تهويتها، ذات التكييف المركزي، وأما النسبة الأدنى بالمقارنة، فهي في المنازل الجيّدة التهوية، المبنيّة بالطوب الأحمر، وذات المكيّفات العاملة بالماء”.
وثَمَّة إجراءات عديدة ملطِّفة يمكن اعتمادها لدرء خطر غاز الرادون. أولاً، لا بد للمرء من أن يعرف إذا كان ثَمَّة مشكلة في الأساس، وهذا أمر ميسور بامتلاك طقم اختبار متوافر في الأسواق. فإذا كانت لدينا مشكلة، فلا بد من سدّ الشقوق والتفسّخ في الجدران، لمنع الرادون من دخول المبنى. ولا بد من التجهُّز بتهوية ملائمة لحفز دفق الهواء، إما بفتح النوافذ واستخدام المراوح، أو بتركيب وحدة تكييف. ولما كان التدخين، مع التعرّض المتواصل لتركيز رادون عالٍ في الهواء، يرفعان كثيراً نسبة احتمال خطر الإصابة بسرطان الرئة، فالصواب المستحسَن أن يتوقّف المدخّنون عن التدخين تماماً.
التلوّث الداخلي في البلدان النامية
مثل كثيرٍ من المشكلات العصريّة، تتعاظم مشكلة التلوّث الداخلي في بلدان العالم الثالث. ففي تقرير منظمة الصحّة العالميّة: التلوّث في المنازل والصحّة، مايو 2018م، يموت قبل الأوان 3,8 مليون شخص كل عام، بسبب أمراض تُعزَى إلى التلوّث الداخلي. ذلك سببه أن نحو 3 مليارات شخص في العالم، في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسّط، لا يزالون يطهون طعامهم في نار مكشوفة ومواقد بسيطة تستخدم الكيروسين أو الوقود الصلب، مثل الخشب، أو الفحم، أو روث الحيوان، أو نفايات المحاصيل. هذه الأدوات، عند استخدامها في أماكن سيئة التهوية، يمكنها أن تسبّب تَرَكُّز الدخان 100 مرّة أكثر من النسبة المقبولة. إن كثيراً من الوَفَيَات القابلة للاجتناب، بسبب أمراض الرئة والقلب، هي نتيجة مباشرة لأساليب الطهو غير الفعّالة هذه. فنحو نصف الوَفَيَات الناجمة من الالتهاب الرئوي لدى الأطفال تحت سنّ الخامسة، تُعزَى إلى تنشُّق السُّخام، وأكثر من ربع الوَفَيَات بالتهاب الرئة لدى البالغين، تُعزَى إلى السبب نفسه. ويسبّب تلوّث الهواء في الداخل، %25 من مجموع الوفَيَات بالانسداد الرئوي المزمن بين البالغين. و%12 من الجلطات الدمويّة القاتلة، و%11 من مرض القلب القاتل المسمّى نقص التروية (ischemia). كذلك تحتوي المنتجات الجانبيّة من الوقود الصلب والكيروسين، موادّ مسرطِنة، مسؤولة عن %17 من كل وفَيَات البالغين من جرّاء سرطان الرئة.
الوافدة والتلوُّث الداخلي
لقد دفعت وافدة كوڤيد19- الناس إلى الاحتماء ببيوتهم، وتحسّنت جودة الهواء في الخارج تحسّناً دراماتيكيّاً في كثير من البلدان. ففي ولايات الشمال الشرقي الأمريكي مثلاً، انخفضت نسبة تلوّث الهواء %30. لكن الاحتماء في البيوت ربما كانت له آثار معاكسة. ففي مارس 2020م، لاحظت شركة “Airthings” التي تصنع في أوسلو، النرويج، أجهزة ذكيّة لمراقبة جودة الهواء، أن الظروف بدأت تتفاقم في منازل كثير من زبائنها. ففيما بين أوائل مارس وأوائل مايو، زاد تركيز ثاني أكسيد الكربون والمكوّنات العضويّة في الغبار، بين 15 و%30، في أكثر من 1,000 منزل، في عدد من الدول الأوروبيَّة، كما تقول الشركة. ولما كان طهو الطعام يجري في المنازل أكثر ممّا في الأماكن الأخرى كالمطاعم والمقاهي والفنادق، فإن جودة الهواء في الداخل ساءت بشدّة. في دراسات نُشرت في أوائل عام 2020م، وذكرتها مجلّة “ساينتيفِك أميركان” في يونيو 2020م، وثّقَ فارمر ومارينا ڤانس، وهما مهندسا ميكانيكا وبيئة في جامعة كولورادو بولدر، وثّقا بعناية الملوّثات التي تَنتُج من الطهو، والتنظيف. إن بعض أنواع الطهو- مثل شيّ براعم براسلز (Brussels sprouts) في مقلاة، على فرن غاز، يمكن أن يُنتج 250 ميكروغراماً من الجسيمات الدقيقة في هباء المتر المكعَّب من الهواء، وهذه نسبة استثنائية الارتفاع يمكن مقارنتها، كما قالا، بمستويات “أسوأ المدن الملوّثة في العالم”. والجسيمات الهبائيّة الدقيقة خطرٌ موثَّقٌ جيداً. تقول ڤانس: “الجسيمات بهذا الصِّغَر تخترق عميقاً الجهاز التنفّسي”. والدراسات عن الهواء في الخارج تشير إلى أن التعرّض لهذه الجسيمات يرفع كثيراً احتمالات الإصابة بمشكلات منوّعة في القلب والرئة، ويسبب الموت المبكّر. كلّما طهونا، أنتجنا مزيداً من الجسيمات. وفي تقرير حديث، قدّر العلماء في معهد لندن الملكي أن تمضية ساعة طهو إضافيّة في اليوم، يمكن أن تزيد التعرّض للجسيمات الدقيقة بنسبة %19. أما الأبحاث في شأن العواقب، فهي في البداية، “لذا لا يمكننا أن نقول ما تعنيه زيادة الـ19 في المئة هذه، من الناحية السريريّة”، كما قال مارتن وليامز، وهو عالم متخصّص في جودة الهواء، وواضع التقرير المذكور. إن مواقد الغاز تنتج غازات عديدة يمكن أن تكون سامّة، منها أول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد النيتروجين، وهذا الأخير معروف بأنه مهيّج للرئة ويمكن أن يسبّب مشكلات تنفسيّة، لا سيّما للأولاد. ويمكن للطهو على مواقد الغاز أن يُنتج من ثاني أكسيد النتروجين ما يزيد على نسبة المستويات الصحيّة في الهواء الطلق.
النبات الداخلي في مواجهة الجسيمات
المعروف أن النباتات تطهّر الهواء بامتصاصها السموم، مثل الفورمالديهايد، والبنزين، والأمونيا، وأول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكربون، وكثير غيرها. وثَمَّة دراسة يُستعاد ذكرها كثيراً، عند إجراء أبحاث عن تطهير الهواء، وهي تقرير وكالة الطيران والفضاء الأمريكية “ناسا”، عام 1989م، وعنوانه: “مزروعات الداخل من أجل تخفيض تلوّث الهواء الداخليّ”. لقد استُعيد ذكر التقرير عدة مرّات، على أنه المسوّغ لاستخدام النباتات من أجل تطهير الهواء في الداخل من المكوّنات العضويّة الدقيقة.
إلا أن الأبحاث اللاحقة ألقت ظلال شك على فكرة أن الاحتفاظ بنباتات في الداخل يكفي لتطهير هواء المنازل أو المكاتب. ويرى مقالٌ لـ”Time Magazine” وعنوانه: “هل تستطيع نباتات الداخل حقاً تطهير الهواء؟”، ونُشر عام 2018م، أن بحث “ناسا” أُجري في ظروف مختبَريّة، وأن بيئة الحياة الحقيقيّة مختلفة إلى حد يكفي لنفي خصائص تطهير الهواء لدى النباتات. ونادراً ما تحظى نباتات الداخل النموذجيّة، إن حظيت أصلاً، بما يكفي من الضوء، وبمخصّبٍ عالي الجودة، على غرار ما تحظى به النباتات الاختباريّة المماثلة. والتجارب في المختبرات تجري أيضاً في غرف مقفلة، حيث لا يوجد إلا القليل من دفق الهواء، وهذا خلافاً لمعظم منازل السكن أو مكاتب العمل. إن ثَمَّة أسباباً أخرى تحفز على استنبات الزرع من حولك، إلى جانب تطهير الهواء، لأن للنباتات أثراً مهدّئاً للناس، وهي تخفّف التوتّر وتحسّن المزاج. وعلى الرغم من أن الاحتفاظ بها من حولك أمر لطيف، إلا أنها غير فعّالة في تطهير الهواء الداخلي.
إذن والحال هذه، فالتلوّث الداخلي مشكلة خطيرة، وغالباً ما تمرّ دون أن تلاحَظ، وهي علاوة على ذلك، غير ميسورة العلاج. إنها مشكلة لا تحظى بما يحظى به الاحتباس الحراري في الإعلام، لكنها مع ذلك تشكّل خطراً مقنَّعاً على الصحّة والسلامة. إنها مشكلة مثل كثير من مشكلات العصر، فالوسيلة الكفيلة بمواجهتها هي القوانين، والابتكار، وتحسين وعي العامّة من الناس.
اترك تعليقاً