كان الأديب الفِرنسي فِيكتور هوغو يصف العمارة بِأَنّها المرآة التي تنعكس عَليها ثقافة الشعوب ونهضتها وتطوُّرها. وتتأكد صحة هذه النظرة بإسقاطها على ما يشهده فن العمارة اليوم بفعل التطوُّر التكنولوجي. إذ أصبح جهاز الكمبيوتر اليد اليمنى للمصمم المعماري، يتيح له إبداع تصاميم ما كانت لتبدو قابلة للتنفيذ قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن. فتسارعت وتيرة التحوُّلات التي طرأت على فن العمارة بفعل ما بات يُعرف باسم التصميم البارامتري الرقمي الذي فتح أمام المعماريين آفاقاً تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم.
ظهرت العمارة الحديثة في بداية القرن العشرين الميلادي، وشهدت تنوّعاً كبيراً في الطرز والأَساليب المعمارية، واتسمت بالبساطة في التعبير والبُعد عن التجميل ونبذ الزَخرفة والاعتماد على الأَشكال المجرَّدة. وينظر بعض المؤرِّخين إلى العمارة الحديثة بِاعتبارها نشاطاً اجتماعياً مرتبطاً بِالحداثة والتَنوير نتيجة للتغيُّر الاجتماعي والاقتصادي وما نتج عنه مِن تطوُّر تكنولوجي وهندسي كبير.
فقد أَحدثت الثورة الصناعية في أُوروبا طفرة كبيرة في مجال العمارة والتصميم الداخلي؛ لما صاحبه من توفر مواد بِناء حديثة مثل الحديد والخرسانة المسلَّحة والزجاج واللدائن المصنعة وغيرها التي أدت بِدورها إلى ابتكارات جَديدة في تكنولوجيا البناء. وقد أسهم ذلك في تغيير فكر المصمّم وتحرّره من قيود التِقنيات القَديمة التقليدية. واستلزم ذلك التحوُّل الكبير فكراً تكنولوجياً خاصاً للتعامل مع التغيُّرات الجديدة بأسلوب معاصر. ومن أَشهر رُوَّاد العمارة الحديثة المعماري السويسري لو كوربوزييه (1887/1965م) الذي أُعجب بِالأَشكال الهندسية البسيطة وبِالنِسب الرشيقة، ويُنسب إليه عديد مِن المعالم المعمارية الحديثة في كافة أَنحاء أوروبا.
اتجاهات العمارة الحديثة
تقوم العمارة الحديثة على اعتبار المباني أشكالاً أو كتلاً مجرَّدة وإِزالة كل الإِشارات التاريخية والزخرفية لصالح التفاصيل الوظيفية، وتظهر المباني هيكلها الإِنشائي من الحديد والأَسطح الخرسانية بدلاً مِن تخبئتها خلف أشكالٍ تقليدية. كما تتجه أيضاً إلى استخدام الخطوط الهندسية التي تتسم بِالبساطة. وتمثّلت اتجاهات العمارة الحديثة في عدة مدارس هي؛ مدرسة عمارة الحداثة المستقبلية، والتعبيرية، والتكعيبية. وظَهر خِلال هَذه الفَترة “الأُسلوب الدَولي” الذي يشمل عدَّة مدارس معمارية تتصف بالسمات نفسها تقريباً، وهي مدرسة “البَاوهاوس” التي ظهرت في ألمانيا التي تعكس مفهوم وحدة جميع الفنون؛ فهي تجمع ما بين المدرسة التكعيبية في الفن والعمارة التعبيرية، إضافة لتأثرها بفرضيات التيار الوظيفي ومدرسة العمارة الإنشائية، ومدرسة “دي شتيل” في هولندا وتعني كلمة دي شتيل أي بشكل مبسط أو مجرّد، التي تأثرت بالفن التكعيبي، فتتميز باستخدامها للأشكال الهندسية من الخطوط الأفقية والرأسية والأشكال المستطيلة على التوالي، و “المدرسة البنائية” في روسيا التي تجمع بين التكنولوجيا المتقدِّمة والهندسة.
خصائصها وسِماتها المميِّزة
من الخصائص العامة المميِّزة للعمارة الحديثة التخلُّص من القَوالب الزخرفية المتقنة أو تبسيطها إلى حدٍّ كبير، والتأكيد على استخدام الأَشكال المستطيلة والخطوط الأُفقية والعمودية، والتركيز على المساحات الداخلية المفتوحة والمتدفقة؛ حيث لم تعد مساحات المعيشة محدَّدة بِالجدران والأَبواب والممرات، بل تميل إلى التدفُّق معاً كجزءٍ من مساحة داخلية واحدة متجاورة، مما يعكس أُسلوب حياة أَكثر راحة واسترخاءً. كما تمتاز العمارة الحديثة بالاستخدام الكبيير للزجاج ومصادر الضوء الطبيعي، فلم تعد النَوافذ مجرد فتحات على الخارج، بل مساحات شاسعة مِن الزجاج ممتدة مِن الأَرض إلى السقف لتُوفر مناظر رائعة وتدخل الضوء الطبيعي إلى المنشآت.
من الخصائص العامة المميِّزة للعمارة الحديثة التخلُّص من القَوالب الزخرفية المتقنة أو تبسيطها إلى حدٍّ كبير.
العمارة الحديثة والحركة التفكيكية
ثُم بدأ الاتجاه المَعروف باسم “العمارة التَفكيكية أو التَهديمية” التي أَصبحت مركز نظريات الفَن والعمارة في أَمريكا في فترة الثمانينيات، وهو اتجاه ينطوي عَلى تعقيد عالٍ وهندسة غير مُنتظمة. ومن خَصائص التفكيكية المُميِّزة؛ أنّها تعتمد على أساليب التفكيك والتحوير والفصل، وتستخدم المواد الإنشائية الجَديدة في تصاميمها، وقد تميّزت بِشكلٍ خاص باستخدامها الحديد لما يَتميز به من تحمُّله لدرجات كبيرة من أحمال الشَدّ والضغط، وهذا ما مكَّنها من تنفيذ تشكيلات حرة وجريئة تتميّز بِالديناميكية العالية. وافق ذلك مع رغبة المهندسين المعماريين في عمل شيء جديد وفريد مواكب لمتطلبات العصر، ويلبِّي الاحتياجات الجمالية والعملية. وفي ذلك يَقول المِعماري الأمَريكي فرانك گيري، وهو أحد روَّاد العمارة التَفكيكية: “لقد وجدت فى الفن شَيئاً جديداً طالما بحثت عنه فى العمارة. لقد اكتشفت أَهمية مواد الإِنشاء الجديدة لمحاولة إِعطاء شعور وروح للتكوين، وحاولت إِيجاد كيان لمفهومي الخاص”. ومن خصائص العمارة التفكيكية أيضاً تحوّل المباني الملساء إلى تكويناتٍ مَعدنية لامعة، وبذلك أصبحت التفكيكية عمارة عالمية غير مرتبطة بِموقع أو بِتاريخ أو بِهوية.
وثَمَّة تطوُّر جديد في العمارة الحديثة خرج من رحم العمارة التفكيكية، وهو التصميم البارامتري الذي أصبح واحداً من أَحدث صيحات التصاميم المِعمارية، وجاء نَتيجة للتقنيات الحديثة وتطوُّر أَساليب التكنولوجيا الرقمية في البناء، ويعتمد في أُصوله المعمارية على الاستلهام مِن الطبيعة. ويعبِّر التصميم البارامتري عن مرحلة تطوّر الرسم الهندسي وتحوّله مِن النظام التناظري إلى النظام الرقمي.
مفهوم التصميم البارامتري
هو نهج جديد في العمارة والفنون نشأ مع النظام الرقمي وبرامجه التطبيقية المتنوِّعة، من أَجل التجديد في التصميم المعماري وفق نظام حسابي رقمي يقوم على مفهوم المعلومات. فهو يعتمد على إِدراج عديد من المحدِّدات الخاصة بِالمبنى المراد تصميمه من طول وعرض وارتفاع ووزن ومادة كل عنصر من عناصره بِهدف تَشكيل قاعدة معلومات يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ القرارات خلال جميع مراحل تنفيذ مجسّم التصميم، ولذا يُعرِّفه البعض بمصطلح (نمذجة التصميم)، أو التصميم المعياري أو المقياسي أو التصميم المُتغير.
الأُصول المِعمارية
للتَصميم البارامتري
يعتمد التصميم البارامتري على الأُسس الهندسية المعروفة بِالخوارزميات؛ وهي عبارة عن عدد مِن الخطوات الرِياضية المتسلسلة والمنطقية والتي تؤدّي إلى حل مسألةٍ ما. وبِعبارة أَبسط، هي مفتاح لـ أَية مَسألة وما يلزمها من خطوات إِدخال وإِخراج. وكانت لهذه الخوارزميات مكانةٌ فعّالة في عِلمِّ الحاسوب والرِياضيات، كما ساعدت على إِجراء العمليات الحسابية المختلفة بِأَجهزة الحاسوب. ويعتمد التصميم البارامتري أيضاً على استعارة تفاصيل الطبيعة وقياساتها وإِعادة تمثيلها. لذا، فهو يِرتبط ارتباطاً وثيقاً بِعلم المورفولوجيا الذي يدرس هيئات الأَشكال ووظائفها في النباتات والكائنات الحيّة والموجودات غير الحيّة المتمثلة بِالصخور التي تحمل تصميماً هندسياً رائعاً يُعدُّ مصدراً مُهماً من مصادر الإِبداع في التصميم المِعماري. فلقد حبانا الله طبيعةً خلاّبة، وكل ما فيها كان مصدر الإِلهام والإِبداع لِلإِنسان في التشكيل والتصميم، وحاول الاستفادة منها في تصميمات جمالية ونفعية للبِيئة مُنذ العُصور القديمة. فالتصميم البارامتري بِمثابة أداة حديثة تُمكّن المصمِّم من فهم التشكيلات المعقّدة في الطبيعة وتناولها بِصورةٍ مبسّطة في إِطار مقنّن ضمن نظرياتٍ مختلفة، ومن خلال أَدوات وبرامج الحاسب الآلي المختلفة، التي يَتَحقّق التَصميم البَارامتري مِن خِلالها مِثل بَرامج (Autodesk Inventor) و(3DMax) ولغة البَرمجة المُختلفة مِثل (Scripting, Grasshopper). ترجع نشأة استخدام مصطلح التصميم البارامتري إلى المِعماري الإيطالي لُويجي مُوريتي (1907-1973م)؛ الذي كتب عن العمارة البارامترية في أُطروحته للدكتوراة عام 1940م، حيث ذكر فيها أن تحديد العلاقات بين الشكل وأَبعاده يَتوقف على مجموعة مِن البارامترات، وِهي ليست فقط أَرقاماً، بل يمكن أن تكون أَشكالاً وسُطوحاً وزوايا ومنحنيات.
كانت لهذه الخوارزميات مكانةٌ فعّالة في عِلمِّ الحاسوب والرِياضيات، وساعدت على إِجراء العمليات الحسابية المختلفة بِأَجهزة الحاسوب.
أما البارامترية كحركة تصميم فقد ظهرت في ستينيات القرن الماضي. ومن أَوائل المعماريين الذين طبقوها الإسباني أنطونيو جاودي (1858-1926م)، والمعماري الألماني فري أوتو (1925-2015م). وقد حاول هذان إيجاد طريقة كالطرق الموجودة في الطبيعة تُمكّن من الحُصول على أَشكالٍ منحنية، يُستعان بِها في بِناء الشَكل الأَمثل للقِباب والأَسطح المنحنية.
وتُعدُّ المهندسة المِعمارية العراقية الأَصل زَها حديد (1950-2016م) من مؤسسي هذا الاتجاه في العمارة والفنون. وسطع نجمها في أَوائل الثمانينيات، ولها بصمات بارزة في عالم الهَندسة. كما تُعدُّ حديد مِن روَّاد العمارة التَفكيكية، ولطالما عرفت بِوصفها معمارية تَتخطّى الحواجز المسبقة على العمارة؛ فتميّزت بقدرتها عَلى التجديد والظهور بِأَشكال أَكثر حريّة وجرأة؛ مرسخةً المفهوم التجريدي والدِيناميكي للكُتلة بأبعادها الثلاثة. فابتعدت عن الخطوط المعمارية المستقيمة والزوايا القَائمة، واتسمت تصميماتها بالمنحنيات والخطوط المائلة. واستطاعت بِذلك إِدخال الأَشكال المائلة والمنحدرة في معجم التَصميم المعماري ولذلك عُرفت بِلقب (ملكة المنحنيات)، وكذلك بِلقب (المرأة التجريدية)، ولقد سار على نهجها زميلها المعماري الأَلماني باتريك شوماخر الذي يرى أن العمارة البارامترية استطاعت دمج كل العناصر المعمارية وحوّلتها إلى عناصر أو مُحدِّدات لوغارتيمية سهلة التحويل والتشكيل، الأمر الذي يساعد على تقوية العلاقات بين مكوِّنات وأشكال المشروع وعلاقة المبنى بِمحيطه. وتميَّزت أَعماله بانسيابية مفرطة في الأشكال أتت نتيجة لتطوّر الرسم والتصميم الرقمي، ونتيجة لاختلاط مفاهيم الفن المعماري بالفن الميكانيكي والفنون الأخرى وخصوصاً الفن التجريدي.
خصائص التَصميم
البارامتري ومميزاته
يتسم التصميم البارامتري بِعدَّة مميزات، لَعل أهمها اعتماده بشكل أَساسي على الخطوط المتدفّقة والمنحنية التي تشبه النسيج وتمتاز بالإنسيابية والحركة، وهذا ما يعطي التصميم الشكل الفريد الذي يجذب إليه الأَنظار. كما يَتميز هذا النوع من التصميم باعتماده على الكيانات الهندسية الحيّة بدلاً مِن استخدام الأَشكال الهندسية الكلاسيكية كَالمكعب أو الأُسطوانة والهرم وغيرها. ومن أهم المبادئ والأَولويات الأساسية للبارامترية (الديناميكية والملاءمة والتكيّف).
ويتميز بسهولة التنفيذ والتصنيع نظراً لاستخدامه وحدات تكرارية، كما أنّه قابلٌ للتعديل والتغيير في أي وقت؛ وعند القيام بأي تعديل في أيّ جزء من أجزاء التصميم يظهر آلياً في باقي الأجزاء، فهو بذلك يختصر الوقت والجهد الكبيرين الذي يتطلّبهما تنفيذ وتجربة هذه التعديلات يدوياً،
تكمن أَهمية هذا الطراز الجديد من التصميم في كونه يفتح آفاقاً شاسعة ومتنوِّعة في العمارة والفنون، ويعزِّز الإِبداعية لدى المصممين في إنتاج آلاف التصميمات.
وتتنوّع المواد والخامات المنفذ بها التصميم البارامتري؛ حيث يمكن استخدام الحديد أو الخشب أو الزجاج والورق والقماش والمطاط واللدائن وغيرها، التي تساعد على إنتاج تشكيلات متنوِّعة تتميز بمحاكاتها الكبيرة للطبيعة، ومن مميزات التصميم البارامتري أن جميع عناصره متكيفة ومترابطة بطريقة سلسة وليِّنة، وإذا نظرت لهذه الأشكال من أي جهة ستجدها متناغمة مع بعضها على الرغم من اختلاف أشكالها والتأثير على أحدها يؤثِّر على كامل التصميم، كما أنّ التَصميم البارامتري ويحقِّق الاستدامة من خلال إعادة الاستخدام والتدوير لمكوِّناته وخاماته المختلفة.
لقد استطاع التصميم البارامتري أن يوجد حلولاً مرنة للمشكلات التصميمية داخل الفراغات. فهو يساعد في إِعطاء إِيحاء بِالحركة واتساع المكان نتيجة للتكرار والامتداد. ويمكن استخدامه كنوعٍ مِن التكسية للمناطق القديمة والمتضررة من دون إِعادة تشطيبها من جديد، إضافة إلى إِعطائها قيماً وظيفية ولونية جديدة عن طريق اندماج وتداخل الخامة واللّون بشكل متكامل ومنسجم. فهو يصلح للاستخدام في التصميمات الداخلية والخارجية وحتى في تصميم قطع الأَثاث المختلفة وغيرها، ويمزج العمارة بالنحت.
فتح الباب لأشكال غير تقليدية
تكمن أَهمية هذا الطراز الجديد من التصميم في كونه يفتح آفاقاً شاسعة ومتنوِّعة في العمارة والفنون، ويعزِّز الإِبداعية لدى المصممين في إنتاج آلاف التصميمات؛ كما يتيح لِلمصمم استكشاف أَشكال غير تقليدية لم يستطع تخيلها بِمفرده، وكانت تبدو في الماضي غير واقعية غير قابلة للتحقيق، ويعمل على رفع القيمة الجمالية من خلال استلهام أشكال المنتجات المتنوِّعة لما يوفره مِن إمكانات تساعد في تشكيل خطوط أَكثر انسيابية وتحقق المعايير الجمالية بسهولة.
وأخيراً، فإن استخدام الحاسب الآلي في التصميم ساعد المصممين والمعماريين في أن يقدِّموا لنا تصاميم رائعة ومبتكرة مفعمة بِالدِيناميكة والحركة، استطاعوا من خلالها التعبير عن أفكارهم وتجسيدها في تصاميم جذَّابة تتميز بِالمرونة والانسيابية، وتحقق القيم الجمالية.
شكرا جزيلا لمجلتنا المتميزة مجلة القافلة دائما تتمتعنا بالمقالات المتخصصة والمتميزة، مقال أكثر من رائع عن اتجاه جديد في التصميم المعماري، واسلوب الكاتب متميز في تسلسل الأفكار وعرضها وتحليلها بأسلوب سهل وممتع، كل الشكر للمجلة الموقرة وللكاتب
خالص تحياتي وتمنياتي بدوام التميز
نشكر إدارة المجلة على هذه المقالات المتميزة والمتنوعة، مقال رائع عن نوع معين واتجاه جديدة في العمارة، مقال متخصص وهذه من ميزات مجلتكم الراقية، وأسلوب الكاتب متميز في الكتابة وتسلسل الأفكار ، كل الشكر لحضراتكم وللكاتب
تحياتي وتمنياتي لكم بدوام التوفيق