خلال الربع الأول من القرن العشرين، كان الأديب البريطاني هول كين يتمتع بشهرة شعبية عالمية، جعلت منه سلطة أدبية في بريطانيا، وأيضاً في مصر التي زارها ثلاث مرات، حيث ترك بصمته على الحراك الأدبي فيها بشهادة معاصريه. وتجلَّت هذه البصمة بالتهافت على ترجمة أعماله ونشرها في الدوريات العديدة، واختلاف مواقف أدباء مصر منه، بدءاً بتأثر أحمد شوقي به، وصولاً إلى رد الروايات التاريخية التي كتبها نجيب محفوظ إلى تأثره بالأديب الإنجليزي.
في بداياته الأدبية، كتب نجيب محفوظ رواياته الثلاث الأولى: “رادوبيس”، “عبث الأقدار”، و “كفاح طيبة”. وصف النقَّاد هذه الأعمال بأنها تاريخية، فرعونية، رومانسية اجتماعية، تاريخية فرعونية، تاريخية رومانسية. وفي “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ” (1998م)، التي جمعها رجاء النقاش، يتحدث محفوظ عن تلك المرحلة والأدباء الذين تأثر بهم، فيقول: “كانت أعمالي الأولى عبارة عن روايات تاريخية كتبتها تأثراً بقراءاتي في التاريخ الفرعوني القديم، خاصة أعمال رايدر هاجارد صاحب الرواية المعروفة “هي” أو “عائشة”.. وأعمال هول كين الأديب الإنجليزي الذي اشتهر بالكتابة عن التاريخ الفرعوني، وزار مصر وأقيم له احتفال مشهور في دار الأوبرا، وكتب أحمد شوقي قصيدة له احتفاء به. إضافة إلى سلسلة الروايات التاريخية المعروفة لـ جرجي زيدان، التي أوحت إليّ كتابة تاريخ مصر كاملاً من خلال الأعمال الروائية، وهو المشروع الذي توقف ولم يتم”.
تحت عنوان “هول كين في مصر وأمير الشعراء” يوضح الدكتور محمد صبري السوربوني، في كتاب “الشوقيات المجهولة”، الذي جمع فيه آثار أحمد شوقي التي لم يسبق كشفها أو نشرها، بعض التفاصيل عن زيارات كين الثلاث لمصر.
كين قبل أن يطويه النسيان
كان هول كين (1853 – 1931م) كاتباً للقصة القصيرة والرواية والشعر والنقد الأدبي والمقال السياسي، وتمتع في حياته بشعبية لم يسبق لها مثيل عالمياً، وحقق نجاحاً مادياً ما زال يُعدُّ قياسياً، وتم تحويل عديد من رواياته إلى أفلام خلال عصر السينما الصامتة. فبين عامي 1911 و1929م تم اقتباس 18 فِلْماً عن رواياته. أما اليوم، فلا يُذكر كين كثيراً في الأندية الأدبية، لأنه ينتمي إلى مرحلة الانتقال من عصر أدبي إلى آخر، وتنظر الدراسات الأكاديمية والنقدية إلى أهميته الإبداعية بصرامة. إذ تُعدُّ رواياته مكتوبة بشكل سيئ، وتتشابه أعماله كلها. فهو كان يستوحي الفكرة والموضوع من التوراة العبرية، ثم يصوغها في قالب قصصي بسيط، في زمن حاضر (حديث). وتتمحور موضوعاته حول ثنائية الحب والواجب.
زياراته الثلاث لمصر
كان الظهور الأول لهول كين في الحياة السياسية والأدبية المصرية خلال تداعيات حادثة دنشواي (13 يونيو 1906م ) التي مثّلت نقطة تحوُّل في تاريخ الاحتلال البريطاني لمصر. فقد أشعلت أحكام المحكمة التي تشكلت لمحاكمة القرويين المتهمين بالتسبب في “قتل” ضابط بريطاني حالة من الغضب العارم. وبدأ صراع سياسي أفضى في نهايته إلى استقالة القنصل العام البريطاني في مصر اللورد كرومر، الذي كان يُنظر إليه باعتباره الحاكم الفعلي للبلاد. وفي تلك الأجواء ظهر اهتمام كين بمصر، فزارها برفقته زوجته ثلاث مرات في الأعوام 1907، 1908 و1909م.
في الزيارة الأولى، لم يتمكن كين من مقابلة كرومر. وحين عاد إلى بلاده كتب يحثه على “الوفاء السريع بوعد إنجلترا بالخروج من مصر بمجرد أن يكون ذلك آمناً”، و “الرضوخ للمطالبات المشروعة بالاستقلال الوطني”. ومن تلك الزيارة بدأ يكتب رواية “النبي الأبيض”، التي تتناول أحداث الاحتلال البريطاني لمصر والسودان وتوجه نقداً مبطناً لكرومر. ثم شرع بنشرها في عدد من الصحف والمجلات البريطانية والأمريكية خلال العامين التاليين، كما شرع في إعدادها لتقدّم على المسرح الملكي في لندن.
في الفصل الأول من كتابه “مذكرات الشباب”، يتطرَّق الأديب محمد حسين هيكل (1888 – 1956م)، لرواية “النبي الأبيض”، فيقول: “رام هول كين” في روايته هذه أن يرمي طائرين بحجر، فيرضي المصريين والإنجليز معاً، وأحسبه إلى حدٍّ ما قد وصل إلى ما أراد من غايته.
محمد حسين هيكل يحذّر..
في الفصل الأول من كتابه “مذكرات الشباب”، يتطرَّق الأديب محمد حسين هيكل (1888 – 1956م)، لرواية “النبي الأبيض”، فيقول: “رام هول كين في روايته هذه أن يرمي طائرين بحجر، فيرضي المصريين والإنجليز معاً، وأحسبه إلى حدٍّ ما قد وصل إلى ما أراد من غايته. ولا شيء أدل على ذلك من سرور طائفة كبيرة من المصريين بهذا الكاتب وكتابه مع أنه يمثلهم فيه تمثيلاً فظيعاً.. وفوق هذا كله فمع ما رمى به كثيرين من المصريين من النفاق والضعف والتعصب إلى آخر ما رماهم به، لم يقل عن إنجليزي في مصر إلا كلَّ الخير”. وخلص هيكل إلى: “إنني لأرى الرجل “هول كين” سيئ الظن بالأمة المصرية إلى حدٍّ ليس صغيراً”.
وأحمد شوقي يرحِّب..
تحت عنوان “هول كين في مصر وأمير الشعراء” يوضح الدكتور محمد صبري السوربوني، في كتاب “الشوقيات المجهولة”، الذي جمع فيه آثار أحمد شوقي التي لم يسبق كشفها أو نشرها، بعض التفاصيل عن زيارات كين الثلاث لمصر، فيذكر أن شوقي أعدَّ وليمة للأديب الإنجليزي في زيارته الأولى (1907م)، وأنه ألقى قصيدة بعنوان “مصر”، ثم يذكر أنه بعد عامين، كشفت (جريدة) “المؤيد” الستار عن بعض ما جرى في تلك المأدبة، وبعض ما قاله كين، فبعدما استمع لما يلقى من نقد للاحتلال، قال: “إن المصريين هم أطفال لا حول لهم تحت سلطة الحكومة الإنجليزية، وإن من الحماقة القول إن مصر تستطيع أن تحرِّك إصبعاً واحداً في مقاومة أساطيل إنجلترا وجيوشها”.
ثم يذكر “السوربوني” أن جريدة “المنبر” أعادت نشر قصيدة شوقي “مصر”، كما بدأت في الوقت نفسه في ترجمة بعض فصول الرواية ونشرها في ذيل الجريدة”، وبعدها بنحو شهر فقط ترجم سليم سركيس لجريدة “المؤيد” الرواية كلها، ونشرت تباعاً.
وأخيراً يذكر”السوربوني” أنه “في أثناء ذلك نشرت “المجلة المصرية” في عدد 25 أبريل من عام 1909م قصيدة أخرى لشوقي عنوانها “الربيع ووادي النيل” مهداة إلى “هول كين، كاتب قصة النبي الأبيض عن مصر”. احتفاء كبير، إذن، بـ هول كين وروايته؛ التي تتسابق الجرائد على ترجمتها، ويحيه شاعر الأمير (كما كان يدعي شوقي وقتها) بقصيدتين، لهما أهمية كبرى في سياقنا هذا، الأولى التي تحمل عنوان “مصر”، وهذان البيتان مطلعها:
“أيُّها الكاتبُ المصوِّرُ صوِّرْ
مصرَ بالمنظرِ الأنيقِ الخليقِ
إن مصراً روايةُ الدهرِ فاقرأ
عِبرةَ الدهرِ في الكتابِ العتيقِ”
ويختم القصيدة الثانية وهي بعنوان “الربيع ووادي النيل”، بدعوة هول كين لكتابة تاريخ مصر:
“هول كين مصرُ روايةٌ لا تنتهي
منها يدُ الكُتابِ والشُّراحِ
تلك الخلائقُ والدُّهورُ خِزانةٌ
فابعثْ خيالَكَ يأتِ بالمِفتاحِ”
هذا الإلحاح في الدعوة لكتابة تاريخ مصر، سيكتسب معنى إذا ما انتبهنا إلى أن أحمد شوقي كتب أربع روايات استلهم فيها التاريخ الفرعوني القديم، وهي: “عذراء الهند” 1897م، التي نشرها مسلسلة في جريدة “الأهرام”، و “لادياس” أو “آخر الفراعنة” 1898م، ثم “دل ويتمان” في العام نفسه، التي تُعدُّ الجزء الثاني لرواية “لادياس”، ثم “شيطان بنتاؤر” 1901م. وهناك رواية خامسة،، وهي “ورقة الآس” 1905م، وترجع أحداثها إلى العام 272، وقد أخذ موضوعها من التاريخ العربي قبل الإسلام. وتبدو ملاحظة شاعر القطرين خليل مطران في تقديمه لرواية “شيطان بنتاؤر” ذات دلالة لمعنى الدعوة والإلحاح: “أننا نرى الغربيين أكثر حنيناً إلى قدماء المصريين من أبنائهم وأشد ولوعاً بتعرف أسرارهم وتنسم أخبارهم، وذلك لأن حب البعيد لما يعلمه أصدق من حب القريب لما يجهله”.
شوقي أعدَّ وليمة للأديب الإنجليزي في زيارته الأولى (1907م)، وأنه ألقى قصيدة بعنوان “مصر”، ثم يذكر أنه
بعد عامين، كشفت (جريدة) “المؤيد” الستار عن بعض ما جرى في تلك المأدبة .
تهافت على ترجمة أعماله
تُرجمت رواية “النبي الأبيض” عدِّة مرات، أمكننا حصر ثلاث منها: الترجمتان الأولى والثانية كانتا في عام 1909م. ففي جريدة “المنبر”، ترجم أحمد حافظ عوض أجزاءً منها، تحت عنوان “رواية النبي الأبيض”، والثانية ترجمة كاملة أتمها الصحافي والأديب اللبناني المقيم وقتها في القاهرة سليم سركيس (1869- 1926م)، ونشرها في جريدة “المؤيد”. ثم ترجمها في عام 1935م الأديب السوري المهجري نظير زيتون (1896- 1967م) الذي قضى معظم حياته في البرازيل، وهو أحد مؤسسي العصبة الأندلسية، وهي رابطة أدبية عربية في البرازيل، جعل ترجمته هذه في خمسة أجزاء: الهلال الخصيب، في ظلال السيوف، نور العالم، اليوم المنشود، أذان السحر. وهناك ترجمات لأعمال أخرى لـ “هول كين”، أمكننا أن نحصر منها: عملان نشرتهما مطبعة “التقدم”، هما “فتاة نوكالو”، أو، ضحايا الإنسانية المعذبة” (1920م) ترجمة: محمد علي، و “حظي من النساء، أو، قسمتي ونصيبي” (1925م) من دون ذكر لاسم المترجم. وفي عام 1941م نشرت مجلة “روايات الجيب” أربعة أعمال لـ “هول كين”، من ترجمة: محمد بدر الدين خليل، هي: “التوبة: فاجعة إنسانية رائعة- قصة خطيئة وتوبة”، “فتاة إسرائيل”، “المدينة الخالدة: قصة حب وتضحية”، “السجين: قصة حب وتضحية”. ونشرت في العام التالي من ترجمة إسماعيل كامل “قابيل: قصة امرأة بين أخوين”، وفي عام 1945م نشرت “السلام” من ترجمة فهمي عطا الله.
ما الذي أثّر في نجيب محفوظ
أبيــات شوقي أم كين نفسه؟
مثلما قادنا البحث عن تأثير هول كين إلى أبيات شوقي ورواياته الفرعونية؛ التي يستوجب النظر فيها إعادة قراءة للتاريخ “المعتمد” لبدايات الرواية العربية، فإن بعض اللمحات عن المترجم الأول لرواية هول كين “النبي الأبيض”؛ الصحافي والأديب والمترجم والسياسي أحمد حافظ عوض (-1874 1950م)، قد يزيد من مبررات تلك العودة.
لم يكتب كين شيئاً يذكر عن التاريخ الفرعوني، وحضوره في الحياة الأدبية المصرية جرى قبل أن يولد نجيب محفوظ،. وقد خفت ببطء، ثم تلاشى بينما كان محفوظ يبدأ طريقه الأدبي المجيد.
نشر “عوض” روايته الأولى “اليتيم” في عام 1898م. وفي تقريضه لها في مجلة “المنار”، يقدِّم الشيخ محمد رشيد رضا تصوره لأفضل موضوع تؤلف فيه الروايات: “هو ما ينبه الشبان عموماً- وتلامذة المدارس بوجه خاص- على حب بلادهم وأوطانهم، وجعل غرضهم من حياتهم خدمة مِلَّتهم”. فروايات ومعربات عوض وترجماته ذات أهمية فائقة في إعادة تأريخ أصداء البدايات. أما كتابه “من والد إلى ولده” (1923م)، الذي يتضمَّن مجموعة من الرسائل التي كتبها “عوض”، وأرسلها إلى ولده جمال الدين، الذي كان يدرس في الكلية الأمريكية ببيروت (1892- 1899م)، فيصفه تيموني ميتشل في كتابه “استعمار مصر” بأنه “الكتاب الواسع التأثير”، ويعده؛ كما مجوعة أخرى من الكتب، يمثل انعكاساً غير مباشر لما سعى الاحتلال البريطاني إلى ترسيخه في وعي المصريين المتعلمين، من أن سبب استمرار الاحتلال راجع إلى عيوب في أخلاق المصريين، وأن مهمة المصريين السياسية هي علاج تلك العيوب قبل المطالبة بالاستقلال. وفي هذا صدى صارخ لكلمات هول كين على مأدبة أمير الشعراء. لم يكتب كين شيئاً يذكر عن التاريخ الفرعوني، وحضوره في الحياة الأدبية المصرية جرى قبل أن يولد نجيب محفوظ،. وقد خفت ببطء، ثم تلاشى بينما كان محفوظ يبدأ طريقه الأدبي المجيد. لكن شوقي، بأبياته الأربعة تلك، دعاه إلى تلك المهمة. وربما تكون أبيات شوقي قد رسخت عمياً في لاوعي محفوظ وتلازمت تلك الدعوة مع الاسم مع ذكريات الطفولة الغائرة بدورها في لاوعيه.
اترك تعليقاً