مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2021

الابتسامة:
تأثير التواصل غير اللفظي


رئيس التحرير

في مقابلة تلفزيونية قبل بضع سنوات، ذكر حفيد مهندس ومصمِّم صواريخ الفضاء البارز في القرن العشرين، سيرجي كوروليوف، وهو العالِم الذي يُنسب له الفضل في وصول البشر إلى الفضاء، أنَّ لجدِّه الفضل أيضاً في اختيار يوري جاجارين؛ أول إنسان يتمكَّن من الطيران إلى الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض. لقد ذكر أن قرار جدِّه كان قائماً على معايير موضوعية متعلِّقة بقدرات جاجارين العلمية والجسدية، حيث كان الأنسب بين زملائه المرشحين التسعة عشر، إضافة إلى سمة أخرى كانت حاسمة في الاختيار، وهي ابتسامته الجميلة!

لقد علَّل الحفيد البروفيسور أندريه كوروليوف ذلك بقوله: إن الجميع وقتئذٍ كانوا يدركون أنَّ من سيحلِّق في الفضاء سيكون بمثابة بطاقة للتعريف بسكّان البلد بأسره، ويتواصل نيابة عنهم مع مختلف الشعوب، لذا كان على هذا الشخص أن يكون مبتسماً دائماً.

منذ بداية القرن العشرين، حظيت دراسات الاتصال ومنها التواصل الإنساني غير اللفظي؛ المجال الذي يشمل الإيماءات ولغة الجسد وتعابير الوجه وغيرها، باهتمام كبير من الباحثين في مجالات علمية عديدة، كونه يُعدُّ من أهم أوجه النشاط في التواصل الاجتماعي الفعّال، ويمثل وجوده ضرورة في فهم الرسائل والسياقات.

حسناً، ماذا نقول في عصر التواصل الرقميّ الذي يقوم في الأغلب على الكلمات، منطوقة ومكتوبة، ويفتقد كثيراً من الإشارات الاجتماعية التي يقدِّمها التواصل الإنساني غير اللفظي؟ ثَمَّة صعوبة بلا شك، فالتواصل الرقميّ على الرغم من كونه سريعاً ومريحاً يفتقد إلى كثير من هذه الإشارات غير اللفظية المعزِّزة لفعالية التواصل وفهم سياقاته. وبسبب هذا الافتقاد، سعى مطوّرو وسائل التواصل الرقمي إلى تقديم حلول، وابتكار عناصر تواصل غير لفظية مثل الرموز التعبيرية، في محاولة لتعزيز التواصل وفهم سياقه، وحتى يكون التواصل حميمياً وأكثر وداً. لقد أضفت الرموز التعبيرية بُعداً جديداً في هذا التواصل، حين تضمَّنت طيفاً من الصور تعبّر عن مجموعة من المشاعر الإنسانية، كالوجه المبتسم، والحزين، والعابس، والضاحك، وغيرها.

ولكن، في حين يسعى هؤلاء المطوِّرون إلى تطوير وسائلهم الرقمية هذه للتعبير عن العواطف والأفكار والمشاعر، فإنها تظل حتى اليوم محاولات غير مكتملة، ولم تحقِّق هدفها في تعويض غياب إيماءات وتعبيرات الوجه البشري. لقد أظهرت نتائج دراسة للمجلة الدولية للاتصالات والدراسات الإعلامية (2018م)، أن دوافع أغلب مستخدمي الرموز التعبيرية في التواصل تنحصر في مجموعة أهداف محدَّدة: أن تكون رسائلهم جاذبة، أو لاختصار الوقت أو المساحة.

تقودنا هذه الحقائق إلى استنتاج مفاده أن التواصل الفعّال والمكتمل مع الآخرين يتطلَّب استثمار قوة الإشارات الاجتماعية والمشاعر الإنسانية، تلك التي تُعدُّ أقوى تأثيراً من الكلمات. فمثلاً، تعبيرات وجه الإنسان الصادقة قد لا تُمحى من ذاكرة الآخر مستقبِل الرسالة.

حينما هبطت كبسولة جاجارين واقتربت من الأرض بعد 108 دقائق من دورانها في الفضاء، قفز منها ليقع فوق حقل تعمل فيه امرأة وحفيدتها روميا كوداشيفا ذات الخمسة أعوام، حيث شعرتا في بداية الأمر بالخوف من لباسه وطريقة ظهوره، وظنتا أنه كائن غير بشري!

بعد أكثر من ستين سنة من هذه الواقعة، أجرى مراسل قناة “بي بي سي” لقاءً مصوراً مع روميا، وسألها: ما أكثر شيء تتذكريه عن الشخص الذي هبط عليكما في المزرعة؟ أجابت مباشرة: “ابتسامته بالطبع”! 


مقالات ذات صلة

رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.

يقول أبو العلاء المعري في واحدة من قراءاته لمستقبل الطفولة: لا تَزدَرُنَّ صِغــارًا في ملاعبِـهِم فجائزٌ أَن يُرَوا ساداتِ أَقوامِ وأَكرِمـوا الطِّفلَ عن نُكـرٍ يُقـالُ لهُ فـإِن يَعِـشْ يُدعَ كَهـلًا بعـدَ أَعــوامِ المعري وهو الذي لم يُنجبْ أطفالًا؛ لأنَّه امتنع عن الزواج طوال عمره، يؤكد من خلال خبرة معرفية أهمية التربية في البناء النفسي للأطفال، […]


0 تعليقات على “الابتسامة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *