الرحلة معا

تغريدات «تويتر» وأسئلة الحرية

جملة من التغريدات التي تبادلها الملايين على موقع «تويتر» ألقت أمامنا بأسئلة شائكة استثارت المتلقين وصنَّاع الخدمة ومسؤولي الدولة. أكثر تلك التغريدات سخونة -فيما تابعت- ثلاث:

تغريدة الكاتب السعودي صالح الشيحي التي انتقدت مشاهد تجمع عدداً من المثقفين والمثقفات في بهو الفندق، وتظهر عدداً من السيدات وقد انحسرت أغطيتهن عن رؤوسهن. وجدل آخر على تويتر رافق قرار وزارة الإعلام بتغريم الشيخ عائض القرني مبلغاً يصل إلى 300 ألف ريال لصالح الأستاذة سلوى العضيدان التي اتهمته بسرقة كتابها «هكذا هزموا اليأس» وتضمينه كتاب الشيخ القرني المعروف (لا تيأس).

وثالثها: التغريدة الأكثر قسوة ومرارة، وفيها يبعث المدوِّن حمزة كاشغري برسائل تسيء إلى مقام الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتنزل بلغة التخاطب مع آخر الرسل إلى منزلة غير لائقة، وهي رسائل أثارت الرأي العام وأدت إلى اعتقاله.

لقد حدثت تلك المواجهات خلال أسابيع محدودة وخاض فيها سلباً وإيجاباً أغلب شرائحنا الاجتماعية، وهو أمرٌ يخرجها من دائرة الرغبات الفردية ويحيلها إلى شأن عام. والسؤال المُلح الذي أفرزته تلك التغريدات هو ما العمل؟ وكيف يمكن التحكم في تدفق المعلومات الهائل وما يترتب عليها من حريات لا نهائية على مستوى الرأي والمعلومة وحجم التأثير.

أول ما يلفت انتباهنا أن جدلنا الاجتماعي حول الانترنت ومفاعيلها ينحصر في دائرة المسموح والممنوع، فالرأي العام يطالب بتوسيع رقعة المسموح، فيما تحاول السلطات المعنية أن تحجب وتراقب، لكننا -في كل الأحوال- نخشى الجدل حول وضع أطر قانونية وتنظيمية وقضائية تنظِّم مسالك الناس وحقوقهم والعقوبات التي يمكن أن يواجهونها وسط هذا الخضم. وفي حين تنتشر هذه الخدمات المعلوماتية في الغرب قبلنا بسنوات ويكون أغلب محتواها الضخم منشوراً ومتداولاً باللغة الإنجليزية (نسبة المحتوى العربي على الشبكة لا تزيد على %3)، فإن القوانين الصارمة والتشريعات والضوابط المرعية والجزاءات تحيط بكل تلك الخدمات، فيما تتوسَّع لدينا وتنتشر دون أية ضوابط أو إجراءات مرئية يفهمها الناس ويمارسونها في حياتهم اليومية ويربون أبناءهم وبناتهم على الالتزام بها.

ولكيلا نبسِّط ما يحدث من صراعات داخل المحيط العنكبوتي، فإننا نجني اليوم بعض قطاف مفهوم «العولمة» الذي لمع في أوائل الألفية الجديدة، أحبه البعض وأنكره آخرون، لكنه استنفر طاقات الباحثين والاستراتيجيين لدراسة ظاهرة العولمة وتحليلها، وكنا نظن أنها أخذت تختفي في السنوات الأخيرة من خارطة الفكر العالمي، لكنها في الحقيقة تراجعت من واجهة العناوين لتتحرَّك بخفية وراء كل ما يحدث الآن في حقول المعرفة والسياسة والاقتصاد والتقنية.

لنتذكر أن ظاهرة العولمة قد ارتكزت على عدة عناصر هي: الحراك الديمقراطي، والثورة التكنولوجية الثالثة، وتوليد التكتلات الاقتصادية العملاقة، ونشر فكرتي الإصلاح والتغيير. ولكي تتمكن الدول الكبرى من تفعيل وتسويق هذه العناصر إعلامياً فقد كانت بحاجة إلى إعلام جديد وضارب، يفلت من سيطرة الحكومات التقليدية ويخترق وعي المجاميع السكانية ويؤثر على المؤسسات مباشرة. ملامح هذا الإعلام الجديد يلخصها الباحث أدهم طبيل بقوله: «إنه سلطة تكنولوجية لا تلتزم بالحدود الوطنية للدول ترسمها شبكات اتصالية ومعلوماتية على أسس اقتصادية وثقافية وفكرية لتقيم عالماً من دون دولة ولا أمة ولا وطن، وهو عالم المؤسسات والشبكات التي تديرها شركات متعددة الجنسيات وتخاطب مستهلكين متعددي المشارب والعقائد».

ما يحدث عملياً هو أن سمات العولمة تتحقق تقنياً وثقافياً واقتصادياً كما أن الأدوات الاتصالية المتفوقة قد ساعدتها على تحقيق رسالتها وأهدافها.

ولكن لنعد مرة أخرى للحديث عن واقعنا المحلي .. لقد أصبحت شبكات الإعلام الجديد هي المؤسسة التعليمية والتربوية التي تصنع ثقافة الجيل، وتراجع موقع الأسرة والمدرسة وتأثيرهما عليهم، كما تراجعت منظومة القيم والتقاليد في الهيمنة على عقول الناشئة وسلوكهم، ما يجعلنا أمام مهمة خطيرة:

من يربي أبناءنا إذن؟ وضمن أية قيم وعادات وسلوكيات ينبغي أن يعيشوا: ما نعتقده الآن: هو أن على وزارتي التربية والتعليم والثقافة والإعلام ومدينة الملك عبد العزيز للتقنية أن تعمل كجهات صانعة لتوجهات التلاميذ والشباب والكبار على بناء أرضية قانونية وحقوقية تضيء لكل الأطراف مجال حدودها في القول والتعبير والنقد، وفي الوقت نفسه تضيء أمامه الخطوط الحمراء لكيلا يقع في المحرمات الدينية والاجتماعية والشخصية، أو يعتدي على حقوق الآخرين عالماً أو جاهلاً بها.

حين نصبح جميعاً في دائرة تأثير أيديولوجيا الإنترنت، كما يسميها الباحث الفرنسي «برنار بوليه» فإن الأفراد يصبحون فاعلين في نشر الأخبار والمعلومات وفي استقبالها في وقت واحد، وهذه الإيديولوجيا تشكل وعداً كبيراً بالمساواة وجنة التعبير دون هيئة رقابة وهي تؤسس ليوتوبيا سياسية متكاملة تصنع ديمقراطية بأنقى الأشكال الممكنة. والجميع في عالم هذه الأيديولوجيا متساوٍ، إنه عالم تذوب فيه الانتماءات القديمة وتختفي المراتب ليحل محلها أداء شبكي الطابع. ولنأخذ مثالاً من تويتر، فاللغة المشتركة لمستخدمي الموقع تركِّز على عدد المتابعين والمتداولين أكثر مما يحمله الموقع من أفكار جدية أو تعليقات أو معارف مبتكرة.

وإجمالاً فإن غضب الحكومات أو المجتمعات بشتى مشاربها الفكرية من تجاوزات الأفراد أو أخطائهم أو تعرضهم للسلم الاجتماعي سيبقى قائماً، ألم يثر رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون ضد وسائل الاتصال الاجتماعي لأنه اعتبرها وقوداً شجَّع على وقوع الصدامات في لندن وطالب بحظرها ما هيّج عليه الرأي العام البريطاني، وقبله ألم تستثار الحكومات غرباً وشرقاً على تسريبات ويكليكيس التي فضحت أسراراً سياسية وعسكرية وأمنية أسهمت في سقوط رؤوس كثيرة؟

حدث هذا وسيحدث، وفي ظل الوسائط الإعلامية الجديدة ستصبح الحريات الفردية بلا حدود، وستنهار الأسوار، وتتسع الشفافية، وستدفع الشعوب التي لم تتشبع بفكرة القانون والحقوق ولم تعش عملياً في بيئة التشريعات والأنظمة ثمن نموّها العشوائي وتعيش الصدمة على نحو مؤلم.

لسوء الحظ لا توجد برامج أو أقراص ممغنطة نضعها داخل أجهزتنا فتكشف لنا ما يحلّ لنا وما يحرّم علينا قوله أو تدوينه على خط المعلومات الهائل السرعة، علينا أن نعود إلى أبسط الحلول مصداقية وفاعلية وهي صنع روح المسؤولية الذاتية ونشر التوعية المنظمة للأفراد سواء في المدارس أو الحياة العامة أو في المؤسسات ومواقع الأعمال وتحقيق اندماجهم الآمن مع هذا الفضاء الجديد والشائك بكل المقاييس.

أضف تعليق

التعليقات