“حبة الهال” هو عنوان مجموعة قصصية جديدة للكاتبة السعودية بدرية البشر، يتناولها هنا الزميل عبده وازن بقراءة تُسلط الضوء على ما يميزها عن الشائع في الأدب النسائي الذي ألِفناه منصباً على واقع المرأة العربية ومعاناتها. ويقترح قراءة لواحدة من قصص المجموعة بعنوان “الشاعرة”.
لئن كانت الشخصيات الرئيسة في مجموعة “حبة الهال” من النساء في معظمها، فهذا لا يعني أن الكاتبة تنتمي إلى الحركة النسوية أو أن قصصها تندرج في سياق “أدب المرأة”. لكنها في الحين نفسه لا تخفي انحيازها إلى المرأة في همومها ومشكلاتها، لكنه انحياز انساني لا يميّز بين المرأة والرجل. ولا غرابة في أن يكون بطل إحدى القصص رجلاً أو لنقل شاباً وقع ضحية الحب على غرار الشعراء العذريين الذين يفيض بهم التراث العربي. وهو البطل – الذكر الوحيد بين البطلات اللواتي احتللن القصص الأخرى وهي لم تخلُ أساساً من الشخصيات الذكورية في مواقع ثانوية أو هامشية. لكن “البطولة” الأنثوية يجب ألا تفهم هنا إلا في معناها السلبي، كون البطلات هن من فئة الضحايا، ضحايا المجتمع أم العائلة أم السلطة الذكورية.
اختارت الكاتبة بدرية البشر المنحى الواقعي لتعبّر عن الأزمات المتعددة التي تعانيها المرأة والتي تعجز عن تخطيها لا لضعفها الذاتي وإنما لاستسلامها لواقعها وقبولها الحالة التي تعيش فيها وابتعادها عن فكرة التغيير.
في قصة “البنات اللواتي لا يرغبن في الزواج” نرى منيرة، الطالبة المهذبة والمختلفة عن بنات خالتها ورفيقاتها، تغادر المدرسة لتتزوج، آخذة بنصيحة جدتها التي تردد دوماً على مسمعها أن المدرسة لا تعلم البنات سوى طول اللسان ووضع الأصباغ على وجوههن. وعندما تركت المدرسة لم ينتبه أحد في عائلتها إلى الأمر ولم يعره أحد أي اهتمام. فقط أمها ألقت عليها بعض الأعباء المنزلية. لكن خيبتها ستكبر في الختام عندما تعلم أن زوجها كان يفضل أن يتزوج إحدى بنات خالتها اللواتي أصبحن أشبه بـ “العوانس” ولكن مع وظيفة وراتب يقارب الثمانية آلاف ريال. فبنات خالتها أكملن دراستهن وتخرّجن ونلن وظائف راقية من غير أن يغريهن الزواج.
تتشابه الشخصيات النسائية في قصص بدرية البشر وتختلف بعضها عن بعض في وقت واحد. ويمكن التمييز بين نوعين من الشخصيات: شخصيات خائبة ومنكفئة على نفسها وذات معاناة بيّنة كشخصية سحر في قصة “المكنسة السحرية” ورفعة في قصة “البئر” أو أمينة في قصة “الشاعرة” وسواها … وهناك شخصيات متكيفة مع واقعها على رغم سلبية هذا الواقع، وهي بالتالي لا تحلم بتغييره أو تخطيه، ومن هذه الشخصيات: سلمى في قصة “حبة الهال”، منيرة في قصة “المطوّع” وحصّة في قصة “بائع الغاز”. لكن هذه الشخصيات تعيش لحظات من الحنين، المضمر أو المعلن، وتتسلح بمشاعرها لمواجهة العالم والآخر (الذي هو الرجل) والبيئة … وقد تبدو الحياة الداخلية لهذه الشخصيات هي المرجع أو المصدر الذي ترجع إليه، خصوصاً عندما تكتشف وحدتها أو خيبتها في الحياة الخارجية أو العامة. ها هي أمينة في قصة “الشاعرة” تنكفئ على نفسها عندما تعجز عن الاتصال بالشاعر الذي أدمنت قراءته في إحدى المجلات، وحاولت أن تراسله منتظرة منه ولو رسالة واحدة. لكن هذا الحب المثالي جداً سينتهي بها شاعرة ذات صباح فتنكّب على الكتابة بعدما يئست من هذا الحب: “هربت إلى أحلامها والشعر، وصارت كل يوم تفتح دفترها وتكتب، حتى صارت قصائدها تحلم معها وترقص لها …”.
“البئر”
وفي قصة “البئر” تتوفّى رفعة وفاة غامضة بعدما اتُّهمت بالصرع والجنون. هي المرأة الجميلة التي أثارت غيرة نساء القرية وقد انتقلت للعيش فيها بعد زواجها أو تزويجها من عبد الله، هي التي كانت تحبّ بالسر – على ما يبدو لاحقاً – قريبها سلمان الذي يعمل في المدينة. وهذه الحقيقة سيكتشفها زوجها لاحقاً، إذ يضبطها ذات مساء خارج البيت مع قريبها سلمان. وفي اليوم التالي وُجد جسد رفعة طافياً على وجه ماء البئر وقيل إن الجنّي الذي كان يستولي عليها كسر رقبتها ورمى بها في البئر. وتوضح الكاتبة سرّ هذا الموت المفاجئ قائلة: “إن الجني الذي اختبأ عند السدرة لم يكن غير عبد الله، لقد رآها وهي تقابل سلمان، وعندما رأت عبد الله واقفاً عند قربة الماء، شعرت أنه عرف كل شيء …”. لم تكن إذاً أحوال الاضطراب والقلق التي سيطرت على رفعة قبل وفاتها ناجمة عن تلبّس الجن روحها، بل عن حبها المضطرم في داخلها لا لزوجها وإنما لحبيبها الأول سلمان. وإذا بها تقع ضحية الحب الذي مهما كان بريئاً وصافياً، يظل مشوباً بالخيانة.
حبة الهال
أمّا قصة “حبة الهال” التي تحمل المجموعة عنوانها فهي من أقلّ القصص مأسوية، لا بل تحوي بعضاً من الطرافة. فحبة الهال هي كناية عن سلمى “المرأة الطويلة” – كما تقول الكاتبة – التي قادت محسن إليها رائحة القهوة، وكان يمرّ بجانب بيتها أو بيت أبيها الذي يدعى ابن ضلعان. وعندما يزور محسن العائلة، يبصر سلمى تقدّم الهال لأبيها: “جاءت سلمى كحبة هال طويلة ونحيلة وضامرة … وجهها يغطيه برقع أسود …”. وعندما يطلب يدها من والدها من غير أن يعرفها تمام المعرفة، يوافق الوالد فيتزوج محسن منها، لكن مصادفة، أو كما تقول الكاتبة “من دون رغبة منه”. غير أنه لن يلبث أن يحبها بعد الزواج لا سيما بعدما أنجبت له ولدين: “حتى ما عاد يرى في العالم كله غير سلمى وقهوتها التي تصنعها بيديها الرهيفتين”. لكن سلمى لن تلبث أن تبدّل رأيها بالصدفة مفاجئة محسن نفسه. فهو عندما عاد من أحد أسفاره الداخلية، دفع باب البيت سائلاً للفور أهله عنها قائلاً: أين سلمى؟ فأجابوه: “سلمى تطلبك الحل يا محسن. سلمى رحلت”.
أجمل ما في هذه القصة أنها قائمة على المصادفات أو المفارقات التي تنتقل بالسرد من موقع إلى موقع آخر، مختلف أو مناقض. أراد محسن أن يتزوج سلمى بالصدفة بعدما شمّ رائحة القهوة قرب بيتها ثم تردّد حيال هذا الزواج الذي حلّ من غير توقع ثم ما لبث أن وقع في حبها عقب الزواج. لكن سلمى لم تستطع أن تواصل العيش معه فرحلت خلال غيابه. إنها المفارقات التي تدل على أن الحياة ليست إلا سلسلة من الوقائع التي تفرض نفسها على الانسان من غير أن يختارها الإنسان بنفسه.
المكنسة السحرية
قد تكون قصة “المكنسة السحرية” من أشد القصص تعبيراً عن الخيبة التي تحياها المرأة، أياً كانت هذه المرأة. فما واجهته البطلة سحر تواجهه فتيات ونسوة كثيرات في العالم العربي وربما العالم أجمع. تقدمت سحر إلى إحدى الوظائف المعلن عنها في الصحف ولم تكن وحدها في بهو الانتظار، بل كان ثمة نسوة ينتظرن مثلها. وعندما حان دورها لمقابلة المسؤولين الثلاثة شعرت بالفخر، وبعدما عُرضت الوظيفة عليها سألها أحد المسؤولين إن كانت تملك سيارة فتلعثمت ظناً منها أنها فقدت الوظيفة لأنها لا تملك سيارة. لكن الجواب كان: “حسناً انتظري اتصالاً منا”. إلا أن مشكلة سحر لا تكمن هنا، بل عندما جاءها الاتصال معلناً قبولها. وبعد انطلاقها في العمل وهو عبارة عن بيع متجوّل تعرض خلاله مكنسة كهربائية ذات خصائص “سحرية” (ثمنها: خمسة آلاف ريال) تكتشف أن لا أحد يبالي بهذه الآلة، لا الأثرياء ولا الفقراء. ويمضي أكثر من شهر وهي لم تبع أية مكنسة مكتفية براتبها القليل جداً (ألف وخمسمئة ريال)، إلى أن وقعت في فخ “صاحب الصوت الذهبي” (كما تسميه الكاتبة) والذي عرض عليها أن يحرر “الشيك” باسمها وليس باسم الشركة. وسألها لماذا لا تعمل لحسابها الخاص، ثم: “وضع الرجل أصابعه الذهبية على أصابعها التي رقدت على طاولة المكتب بحنان، فسحبتها بسرعة، اصطدمت بدفتر الشيكات فسقط الدفتر في قاع الدرج …”. وتختتم الكاتبة القصة بمشهد آسر: السائق الزنجي يفتح للسيدة سحر باب سيارة الفورد، وفي حقيبتها يرن جهاز الموبايل وعندما تجيب تسمع صاحب الصوت الذهبي يمازحها: “هل المكنسة السحرية تطير أم لا تطير؟”. هكذا تغدو سحر “ضحية” بامتياز: ضحية نفسها وضحية فقرها وضحية حلمها بالخروج من الفقر، وضحية “صاحب الصوت الذهبي” الذي عرف كيف يوقعها في شباكه ويقضي على قلبها وربما على مستقبلها الذي لا يدري أحد كيف سيكون!
لم تخلُ بعض قصص مجموعة “حبة الهال” من الطابع الإنشائي، وهو عادةً يسيء إلى فن القصة الذي يتميز بتقنية خاصة ذات عناصر محددة: الإيجاز، اللقطة السريعة، الحبكة الكثيفة، المباشرة في السرد وسواها. إلا أن الإنشائية لم تطغ على القصص كافة ولم تؤثر سلباً في مسار السرد وبناء القصة. فقصص بدرية البشر حملت في خاتماتها مفاجآت عدة وبدت في أحيان كأنها لوحات مرسومة بدقة وشاعرية. ورغم أن القصص تنحو منحى واقعياً محاولةً إلقاء الضوء على المشكلات والهموم التي تشغل المرأة العربية المعاصرة، فإن الكاتبة استطاعت أن تضفي على الواقعية نزعة وجدانية، أليفة ورقيقة، ساعيةً إلى بسط جوّ إنساني على سائر القصص.
——————————————————
بدرية البشر
• كاتبة وقاصة سعودية، من مواليد مدينة الرياض.
• لديها اشتغال بالدراسات الاجتماعية والفلكلور، وقد خصصت أطروحتها في الماجستير التي حصلت عليها من جامعة الملك سعود في “دراسة الحياة الاجتماعية في نجد”. وعملت محاضرة في تخصصها بين عامي 1997 و 2000م، ثم تفرّغت لتحضير أطروحة الدكتوراه.
• مارست الكتابة الصحافية عبر عدد من المطبوعات السعودية، من بينها “اليوم” و “اليمامة”، وحالياً تكتب زاوية “ربما” في صحيفة “الرياض”.
• لها مشاركات منبرية في أمسيات محلية وخليجية.
• صدر لها، حتى الآن، ثلاث مجموعات قصصية:
1 نهاية اللعبة – دار الأرض – الرياض 1993م.
2 مساء الأربعاء – دار الآداب – بيروت 1994م
3 حبة الهال – دار الآداب – 2004م.
• تعتبر نفسها متورطة في الشكل الواقعي، وترى هذا الشكل مُعبّراً عن قضيتها العامة “الإنسان”، وقضيتها الخاصة “المرأة”، بكثافة ووضوح.
نهاية اللعبة
هي أولى مجموعاتها المطبوعة، وتضم إحدى عشرة قصة تستلهم معظمها من أحداث كانت المرأة بطلتها. وترسم الشخصيات بتأنٍّ وتخترقها حدّ الكآبة. ويتبدّى ذلك، بصورة أوضح، من خلال عناوين القصص التي تقدّم أسماء نساء، مثل: اليوم العالمي لزهرة، خديجة، رفعة. ناهيك عن الإيحاءات الشفافة التي تتكشف بمجرد قراءة العنوان.
مساء الأربعاء
والهاجس الاجتماعي نفسه موجود في مجموعتها الثانية، ذات الإحدى عشرة قصة أيضاً. فالمرأة موجودة بكثافة ووضوح. وتتركز حكاياها على قراءة النمطية الاجتماعية المتوارثة إزاء المرأة. كما تعتني بدرية البشر بصورة الرجل في شكلها الاجتماعي الذي صنعته الحياة الحديثة، وتستكشف ملامح التغيرات الطارئة، وكأن القصة، عند البشر، إنما هي دراسة اجتماعية منحوتة في قالب قصصي جميل.
—————————————————
مقتطفات
“الشاعرة”..
قصة قصيرة من مجموعة “حبة الهال”..
في البدء… كانت فسحة الشعر في المجلاّت تمطر وقتها بأحلى الأغنيات، تغربها الكلمات. وتصنع لها في اللّيل أرجوحة لا يجاورها فيها سوى القمر.
رأت صورته للمرّة الأولى، حين فتحت المجلّة في ملل وقتها المتسرّب بهدوء تعلّق قلبها. صارت صورته صديقتها الجديدة، تقرأ شعره، ثمّ تغفو على حافّة الحرف تنام وتكبر. تفتح المجلّة لترسم ملامحه في ذاكرتها كلّ يوم خوفاً من أن تبهت ألوانها، ويخبو بهاؤه الأزلي عن مساءاتها، تقتنص اللّحظات لتحدّق في وجهه طويلاً، وتشرب من صفاء نهر عينيه.. تخاف أن تشحب ألوان الصورة، وتتحوّل إلى ماض زائل، تجلو الغموض عن تاريخها، وتؤلّف ما يتسنّى لها من الشعر لتملأ به فراغ ذاكرتها. تعرف أنّ الذاكرة خيال، تُلمِّع كلّ ما هو متألق وتمحو ما هو مظلم وكئيب، تحيك من ذاكرتها سجّادة لحياتها القصيرة الغرّة، تتغظّى بها وهي تتمدّد على سطح منزلها تحدّق في قطيفة السماء المرصّعة بفصوص من فضّة وتحلم. أصبح وجهه بديلاً للقمر، وملامحه ضياء ليلها المستتر، أورقت في ذاكرتها كلّ قصائده كما يورق الزهر الأبيض، يسقيه الغيم كلّ ليلة فوق مخدّتها، نبت وجهه على جدران البيت، وعلى سبّورة فصلها المراهق، وعلى طفولة الإناث اليانعات وهنّ يسعدن لأنّهنّ يصبحن أكبر. في المدرسة قرأته في قطع النصوص..، وفي قامة الأرقام..، وفي ترتيل الحروف المجوّدة..، وفي الطريق إلى البيت تغنّي قصائده فيصير الطريق أقلّ برداً وأقلّ وقاحة، وحين تدخل البيت..، تتخيّل أنّه يجلس في ركن فيه.. يتلقّف حقيبتها، ويرتّب عنها دروسها، ويحثّها كي تجيب أمّها وهي تزعق فيها:
– “جهير” أركضي أطفئي نار الموقد حتّى لا يحترق الرزّ. وحده من زرع تحت قدميها ساحة ياسمين رطب، يصمد فيها تعبها وجوعها للنوم، عندما يحين وقت غسيل الصحون، ومسح أوجه بلاط المطبخ بعد وجبة العشاء.
حين يصيح أخوها “أحمد” لتحضر الشاي لأصدقائه للمرّة الثالثة، وتتعطّل واجباتها المدرسيّة لا تتذمّر! لأنّ شعره يعبِّئ الوقت الهارب منها، ويجعل منه فسحة لجمع باقات الزهر في سلة القصائد، التي صارت تهبط من ذاكرتها كرشّ المطر. تشاطرت وصديقاتها متعتها السِّريَّة بقراءة قصائده ليخفّ ذنبها الذي بدا لها جسوراً وغريباً، كوجه لصّ يختبئ في ثياب أهل البيت، لكنّ الصديقات بعد الثانوية، تركنها وتفرّقن في بيوت الأزواج وفي ضجيج الأطفال .. فصار وحده لها، كذكرى قديمة لشهادة تلميذ يفاخر بها ويعلّقها على جدار مجلس الرّجال. تغيّرت الأشياء .. أمّها صارت أكثر شيخوخة، وعمل البيت الثقيل يزيد من وجع مفاصلها. فأصبحت هي أمّ صغيرة لإخوة كبار، لا تجيد معهم سوى الشجار، بينما بقي هو وسيماً لا يتغيّر، ورسمهُ في صورة المجلّة، يحرّك حباً في قلبها كما يحرّك الهواء أوراق الشجر. في فراغ الوقت المتأخّر بلا صحبة، تساءلت: إلى متى يظلّ صورة في مجلاّتها، وقصائده غناء في سطوحها، وقمراً يطلّ على شرفتها، إلى متى يظلّ بعيداً؟ .. حلمت ليلتها أنّها تقف على شاطئ أخضر، تنظر منه بعيدة ووحيدة، كتبت بقلم مرتجف .. “تعال!”
رمت الورقة وانتظرت، سمعت بعدها صافرة مركبة قادمة، وقبل أن تظهر لها المركبة، استيقظت، فإذا بصافرة إبريق الماء، تزعق في صباحها، بانتظار وجبة من حليب وخبز للصغار. عبّأ الحلم صباحها بشجاعة نادرة وجعل نهارها أقل وحشة.
كتبت له ذلك الصباح كما تكتب لصديقة:
“أحلم بك منذ زمن بعيد، إن جئتني سأجعل بين يديك خبزاً.. وقمراً أبيض مستديراً ..، تبخّره الشمس في حريق الضحى، منذ زمن طويل أحلم بك، منذ كنت أسبح في دروسي المراهقة، وكبرت معي حتّى صرت أَكبرَ من أن تحتملك ذاكرة .. فامنحني ولو مرّة بعضاً من صوتك أو رسمك أو عشقك، أو حتّى أكتب لي ولو مرّة، لتثقل غيماتي بالمطر .. ملاحظة سأستلم بريدك على عنوان بقالة حارتنا .. باسم بائع البقالة (أصغر خان) .. واكتب آخر العنوان .. إشارة واحدة لي باسم أمينة”.
تتذرّع لأمّها في كلّ صباح لتمرّ على البقّالة، بخبز ناقص للفطور، ومرّة بجبنة “كرافت” لساندويشات المدرسة، ويوماً بصابون للثياب، ويوماً بزهرة غسيل ..، وفي كلّ مرّة ترشو “أصغر خان” بريالات قليلة، ليخبِّئ سرّها المحتمل، في انتظار رسالة لا تجيء. في المرّة الأولى اعتقد “أًصغر خان” أنّ لهفتها السافرة لرسالة تحمل خبر وظيفة، أو إشعار مدرسة، وفي المرّة الثانية سألها، إن كان أحد أخوتها سافر من دون علم عائلتها، وتجيبه بانكسار: لا، يا أصغر خان، إنّه شيء أهم!
أشعلت الصباحات الفارغة من البريد يأس غاضب في صدرها، أطلقت ناره في وجه أصغر خان، فقالت له:
هل يسرق أحد بريدك يا “خان”، أم أنّ عنوانك لا يصله البريد أصلاً.
ردّ عليها بغضب مماثل:
“أنا فيه بريد .. بسّ “أمينة” ما فيه!”.
عادت للبيت تجرّ خيبتها مثل طفل ضيّع في الطريق لعبته، تسأل نفسها:
كما صار عمر رسالتي عنده؟ هل قرأها… ومتى سيكتب لي؟ عادت تتملّى قصائده حرفاً حرفاً، وتسأل: تراه ضلّ الطريق إليّ؟
ظلّ كما تعرفه .. صورة لا تجفّ. وبهاء حروفه يضيء عينيها، لكنّها – كما تقول – تكبر. عاد حلم رسالتها التائهة تعتلي موجة وتغرق في أخرى، وأصبحت صافرة السفينة القادمة موعداً ليقظتها .. فلا تدرك من جاء بالسفينة، لكنّها دائماً تهجس به.
ثار “أصغر خان” ذات مرّة بعناد، قال لها: لا تعودي لإزعاجي، لأنّ رسالتك لم تجئ ولن تجيء! دعتها أمّها في المساء لتنظر من شق الباب لشاب يجلس في ركن مجلس الرّجال، على يمين والدها. ارتبك المساء يومها، وخلت أرجوحة اللّيل من الشعر ومن القمر، وطعم أحلامها كان مالحاً باليأس، فقامت وحلقها قد جفّ وحروفها متعبة. في اللّيلة التالية عاد الحلم، وظهر وجه غريب التقط رسالتها من فوق موجة ضاجّة، كان الوجه لرجل ذي عين واحدة، وعينه الأخرى مغطّاة بقطعة قماش سوداء، كأنّ وجه هذا الغريب يصيح بها في وحشة اللّيل: “لا أحد هنا!”.
ظلّت ترى صورة القرصان في أحلامها كلّما زارهم الشاب في مجلس والدها، وأظافر أمّها تنغرس في زندها بحزم لتنظر من شقّ الباب، وتتأكّد أنّ النصيب يتوزّع في أوراق الغيب الغامضة، وعليها أن تأخذه من دون تردّد، وكلمات أبيها التي تنتظر جواباً تعلن أمامها أنّ عريسها لا يضاهيه أحد!
حين صارت لا تنام إلاَّ على قصص القسمة والنصيب، هربت إلى أحلامها والشعر، صارت كلّ يوم تفتح دفترها وتكتب، حتّى صارت قصائدها تحلم معها وترقص لها، تؤنسها وتوبّخها، وتفرح لها .. وفي ليلة رأت فيها عرائس من نور، وأشعاراً تشعل اللّيل، كتبتها هي، تتقدّمها عروس شعر تشبهها. ظهرت في حلم ذات يوم، ووضعت على رأسها شعلة بيضاء، وتاجاً يلمع بالحروف، حين استيقظت عرفت ذلك الصباح أنّها من أصبح الشاعرة!.