الحياة اليومية

بيولوجية الاشمئزاز!

  • 6ZC67K~A
  • 64a-(cockroach)
  • 65

أدى تطور علوم الأعصاب والدماغ في السنوات القليلة الماضية إلى ربط الكثير من المشاعر الإنسانية والحالات النفسية بجوانب فيزيولوجية في مناطق محددة من الدماغ البشري أو بجينة محددة من جينات الإنسان. وآخر ما توصل إليه العلم في هذا المجال، وربما أكثره إثارة للدهشة، هو أن الشعور بالاشمئزاز ليس مجرد ردة فعل نفسية، بل هو أيضاً دفاع عضوي المنشأ للحماية من مسببات الأمراض كما يظهر في هذا التقرير الذي أعدته تمار يكنيان.

هنالك طرق عديدة للتعبير عن القرف، لكنها جميعها لا تقارن بنظرة الاشمئزاز والازدراء التي تجمّد محيا الوجه برعب رهيب عندما يثب فجأة صرصور على أرض المطبخ. فضلا عن ذلك، فإن إدراك أي شخص لهذه النظرة أو هذا التعبير، سواء أكان الصرصور على مرأى منه أم لا، يتخذ وجهه نفس الهيئة من دون قصد… ماذا… أين، وعلى الوجه تعبير الاشمئزاز ولا يحتاج المرء إلى خيال خصب ليتصور الفوضى الشديدة التي يسببها صرصور في مطعم مكتظ بالرواد.

القرف شعور معدٍ غريزياً. ما من شعور غيره ينتشر ويعدي بهذه السرعة. وكم من الأشخاص يستطيعون مشاركة الآخرين جدياً بأفراحهم أو يتفهمون مخاوفهم! ولكن بالمقابل، إروِ قصة واحدة عن مرحاض قذر وستلاحظ بأن الوجوه قد اتخذت التعبير ذاته تلقائياً.

صحيح, يبدو أن شعور الاشمئزاز معدٍ أكثر من عدوى التثاؤب، إلى حد أن العلماء يدرسونه بتعمق. واستخلص هؤلاء، نتيجة دراساتهم، بأن الدماغ الإنساني شديد القدرة على التقاط المشاعر.

دعك من الحب والخوف والغضب. علم الأعصاب يؤسّس درباً جديداً, وأحياناً قد يكون درباً غير سار. فمنذ عهد بعيد تجاهل الأكاديميون والعلماء شعور الاشمئزاز لصالح المشاعر الشكسبيرية. وأخيراً احتل الاشمئزاز مكانته تحت الأضواء. وألقت الدراسات والاستنتاجات الضوء على مشاعر إنسانية مختلفة. وبعد الكثير من البحث والتدقيق تبين أن الاشمئزاز مفيد لصاحبه، ولكل البشرية.

هنالك سبب وجيه جدا للاشمئزاز من الصراصير, الفئران واليرقات. وتبيّن الدلائل أن الاشمئزاز هو آلية بقاء, أداء غامض يحمي من المرض والملوثات. إذ يشير الدكتور فال كورتيس من كلية لندن لعلم الصحة والطب الاستوائي إلى أشياء تقزز وتثير الاشمئزاز عموماً ومدى علاقتها بالمرض. “البراز يحمل على الأقل 20 نوعاً من الفيروسات, كائن ممرض بكتيري وبرزوي, من شلل الأطفال إلى جرثومة السلمونيلا. اللعّاب قد ينقل القوباء والزهري. المادة المخاطية الأنفية تأوي السعال الديكي والسل. البرغوث ينقل الطاعون, القمل ينقل التيفوس والذباب الحثار, بينما تحمل الحيوانات مجموعة من الكائنات الممرضة متنوعة العناصر من الدودة الشريطية وحتى الجمرة الخبيثة.

“جميع الحيوانات تتفادى أو تخاف هذه الأشياء التي تحمل أوبئة كالدم, البراز والقيء”. كما يقول العالم النفسي لانس وركمن من جامعة كارديف، ومع ذلك، يتقدم الاشمئزاز على الخوف عند الإنسان.

تثير مسببات المرض وعوامله اشمئزازاً غريزياً. مع ذلك, ما زال الجدال قائماً حول طبيعة هذه الآلية. وعند دراسة السلوك, نجدنا نتساءل هل هي الطبيعة أم التنشئة؟ الأطفال عامة أقل شعوراً بالاشمئزاز من أهلهم، الأمر الذي يؤدي إلى الاعتقاد أن هذا السلوك مكتسب. ولكن من ناحية أخرى يضيف د.كورتيس: “لدينا ميل تلقائي إلى الاشمئزاز من البراز, لكننا لا نستطيع أن نلقّن طفلاً أن يكره الفاكهة أو الحلويات”.

إذا كان القرف فعلاً آلية تكيّفية, فهذا يستتبع أن يكون الأمر متعلقاً بجينة مسؤولة في مكان ما، وهذا الأمر لا يزال يحتاج إلى الإثبات. وبقدر ما أن الشعور بالاشمئزاز هو عام، فليس مفاجئاً أن يحتل هذا الشعور منطقة من الدماغ مكوّنة من قسمين: أحدهما السترياتوم مرتبط بالحركة, الإدراك والمكافأة، الثاني هو الانسولا، الذي يلعب دوراً أساسياً في قدرتنا على التذوق. هذا ما اكتشفته طبيبة علم النفس ماري فيليبس من معهد الطب النفسي في لندن وعالم الأمراض العصبية والنفسية أندي كالدر من جامعة كمبردج.

إن التعقيدات التابعة لهذين القسمين غير مفهومة كلياً، ومن الممكن أن تكون مناطق مختلفة مرتبطة بتعبير الاشمئزاز في الدماغ. ولكن ماذا يحصل عندما يتضرر هذا القسم؟

لقد تبين أن إثارة الانسولا أثناء عملية جراحية في الدماغ يسبب شعوراً بالغثيان وطعماً كريهاً في فاه المريض. وإضافة إلى ذلك، فإن إتلاف الانسولا يمكن أن يزيل الإحساس كلية. إنها حالة مثيرة جداً كما ذكر كالدر.

لقد تضررت الانسولا الخاصة بأحد الشبان، ونتيجة ذلك، كان هذا الشاب مستعداً لشرب حساء حُرِّك بـ “أداة قتل الذباب” بعد غسلها، وشوكولاته على شكل براز الكلاب, كما أنه لم يمانع من النوم على سرير كان قد توفي عليه شخص في الليلة السابقة. مما يوضح بشكل كامل مصدر كلمة اشمئزاز.

وكانت النتائج مضاعفة، إذ لم يعد بمستطاع الشاب أن يدرك أو يختبر الاشمئزاز، ولا حتى عبر تفاعل الآخرين. وعندما عرضت عليه ست صور مختلفة لتعابير وجوه، لم يعد يستطع أن يميّز نظرة الاشمئزاز، بل فهمها كغضب أو حزن. وأظهرت الدراسة بوضوح أن المنطقة المسؤولة عن قراءة إشارات الاشمئزاز لدى الآخرين (في الدماغ) هي بالفعل المسؤول الأول عن إحداث هذا الشعور.

ساهم استطلاع “مسح الاشمئزاز” في بريطانيا بالتحري عن طبيعة الاشمئزاز من خلال اشتراك أربعين ألف شخص، وأكد المسح عكس ما اعتقده سابقاً معظم علماء الاشمئزاز, وهو أن شعور القرف ليس ببساطة طريقة لتجنب مواد حاملة للأمراض، بل هو بالفعل آلية فطرية لضبط الأمراض المعدية. فقد طلب من المشاركين زيارة موقع على شبكة الإنترنت، وتصنيف 20 صورة من 1 إلى 5 (الأكثر قرفاً) وعرضت عليهم لائحة مرشحين ليختاروا من بينهم الأبعد عن احتمال مشاركتهم فرشاة أسنانهم. ومن بين اللائحة، الزوج، أقرب صديق، ساعي البريد، شخص غريب، مدير العمل. فتبيّن أن ساعي البريد هو آخر المرشحين، وحلّ مدير العمل في المرتبة الثانية.

وعندما طلب منهم مقارنة الصور أزواجاً وتحديد الأكثر إثارة للاشمئزاز رأى المشاركون أن عربة قطار مزدحمة أكثر إثارة للاشمئزاز من الخالية, وأن القمل أكثر من الدبور.

وأظهرت نتائج أخرى أن صغار السن أكثر ميلاً إلى الشعور بالاشمئزاز من الكبار. وأن ميل النساء إلى هذا الشعور أكثر من الرجال. وتضمحل تجربة الاشمئزاز مع المهارة المكتسبة التي تجعل الحواس مهيّئة. فعلى صغار السن أن يكونوا أكثر انتقاء لما يلمسون ويأكلون كي لا يسببوا الأذى لإمكانية تناسلهم. ومن الطبيعي أن تكون النساء أكثر حذراً بحكم مسؤوليتهن، لأن الأطفال يضعون أي شيء في أفواههم!

يرى البعض أن الشعور بالاشمئزاز يلعب أيضاً دوراً مهماً غير مهمة البقاء الجسدي البسيط. ومن هؤلاء باحثون وكتّاب من أمثال وليام ميلر الذي يؤكد أن الاشمئزاز يندرج بعمق في بناء المبادئ الأخلاقية، وأيضاً في عقيدة المجتمع الأكثر تعقيداً من حيث الطبقية والتراتبية الاجتماعية. وفي كتابه علم الاشمئزاز “Anatomy of Disgust” يقر بأن الأخلاقيات هي بشكل ما، متصلة بأحكام باشمئزازنا من الشر, الغش, الخبث والوحشية. ويقول أيضاً إن إدراكنا للشيء الخيّر أو الصحيح مرتبط باشمئزازنا مما هو نقيضه. وإذا صح ذلك فإن الاشمئزاز يزودنا بإدراك حدودنا لسلامة البقاء الإنساني ككل.

———————————————————————

اقرأ عن الاشمئزاز

تشريح الاشمئزاز
“هذا الكتاب هو أكثر من تشريح لكلمة “اشمئزاز” بمعناها المباشر. فقد استعملت هذه الكلمة للإشارة إلى مجموعة معقدة من المشاعر يُعبَّر عنها لغوياً بمفردات مختلفة تصنف الأشياء أو الأفعال على أنها منفرة، كريهة، قميئة، مقرفة.. أو مثيرة لردود فعل نجمعها تحت عنوان الاشمئزاز. فالاشمئزاز إذن هو العارض الذي تلعب في تشكيله كل واحدة من هذه المفردات دوراً مختلفاً”. بهذه الكلمات عرَّف الكاتب وليم إيان ميلر كتابه الصادر عن دار هارفرد بعنوان تشريح الاشمئزاز.

والكتاب الذي يقع في 336 صفحة هو الثاني بعد “سحر الشجاعة” لمؤلفه ميلر الحائز جائزة “جمعية الناشرين الأمريكيين”. ويتناول فيه الدور الذي يلعبه الاشمئزاز على مختلف الصعد انطلاقاً من كونه دعوة للذات إلى الابتعاد عن السيئ المؤذي. وقد يكون هذا السيئ المؤذي عضوياً كالحشرات الكريهة أو الأشياء الناقلة للجراثيم مثل القيء أو البراز، والاشمئزاز يلعب هنا دوراً واقياً للإنسان. وقد يكون هذا السيئ المؤذي فعلاً أو سلوكاً أو موقفاً، وهنا يلعب الاشمئزاز دوراً في رسم المفاهيم الأخلاقية الحميدة.

ولعل القيمة الكبرى للكتاب تكمن في تناوله الاشمئزاز كمحطة في العلاقات الاجتماعية والإنسانية. فيقول مثلاً إن الحب لا يمكن أن يتوافر إلا إذا تجاوز حاجر الاشمئزاز، مثل حب الأم لطفلها وما تتطلبه عنايتها به من تغييب لمشاعر الاشمئزاز التي كانت ستشعر بها تجاه أي شخص آخر. وإلى ذلك ينسب الكتاب إلى الاشمئزاز دوراً في حفظ التراتبية الاجتماعية، ويحذر من مخاطره على الديمقراطية ومفاهيم العدالة. ويخلص الكتاب إلى أن الاشمئزاز بفوائده ومضاره باقٍ في حياتنا، يضفي حيوية على حركتنا، ويجعل العالم خطراً، ساحراً ومثيراً.

أضف تعليق

التعليقات

sarah

معلومات في قمة الروعة

وسام قحطان

السلام عليكم ….
محتاج هذا الكتاب لمؤلفه ميلر الذي يتكلم عن الاشمئزاز .ومستعد شراء بالسعر المطلوب

وسام قحطان

هذا رقمي للتواصل معاي حول كناب الاشمئزاز 07702875638 العراق