الثقافة والأدب

“علينا أن ننسى أنه وُجِد إغريق ورومان”..
صورة الأدب العربي في ألمانيا

  • 70a
  • 70b
  • 72
  • 73
  • 75

على هامش استضافة الثقافة العربية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، تناولت مقالات ودراسات عديدة صورة الأدب العربي في الغرب عموماً وألمانيا بشكل خاص، مشيرة إلى العثرات الكثيرة التي تعترض تلقي الألمان الأدب العربي بالشكل الذي يتمناه العرب. ولكن الدكتور أحمد الحمو, أستاذ الأدب الألماني في جامعة الملك سعود, يؤكد أنه كان هناك عصر تلقى فيه الألمان الأدب العربي على أفضل وجه، وأوفوه حقه من الدراسة والتقدير والاعتراف بفضله على الآداب الأوروبية ككل.

عندما نتحدث عن تلقي الأدب العربي في الغرب عموماً، وفي ألمانيا بوجه خاص، لا نستطيع أن نغض الطرف عما يجري من أحداث في المنطقة العربية والإسلامية. إنها أحداث تثير مشاعر متناقضة لدى الطرفين، تجعل من الأحكام المسبقة سيدة الموقف والدفة التي توجه النظرة للآخر، فتقف حجر عثرة في طريق التفاهم بين الشعوب. من هنا تقفز إلى السطح عوامل كانت في الماضي لا تؤثر في انتقال الأدب ومسيرة التفاهم بين الأمم كالعامل الاقتصادي مثلاً.

في مقالة نشرها المستشرق الألماني ستيفان فايدنر في مجلة “فكر وفن” عزا ضعف انتشار الأدب العربي في ألمانيا إلى عوامل عديدة تقع جميعها على عاتق العرب، ووضع العامل الاقتصادي على رأس هذه العوامل، كما أن قلة إقبال القرّاء في ألمانيا على هذا النوع من الأدب، نظراً لما يجري من أحداث في المنطقة، يقف في طريق التعريف بالأدب العربي ويعيق انتشاره.

كنوز الشرق وروحه
لو عدنا إلى الماضي غير البعيد لوجدنا وضعاً مختلفاً تماماً. لقد وجد هناك عدد من الرواد في ألمانيا، الذين كانوا مدفوعين بفكرة الأدب العالمي ومنطلقين من وحدة المصير الإنساني. وقد قُـيّض لهؤلاء مترجمون عظام نقلوا إلى اللغة الألمانية عيون الأدب العربي. وكان على رأسهم المستشرق النمساوي يوزف فون هامر- بورغشتال (1774 – 1856م) الذي وضع في النصف الأول من القرن التاسع عشر كتباً عديدة، نذكر منها مجلة “كنوز الشرق” التي قصد بها، كما أوضح في مقدمته، أن تضم كل شيء “يأتي من الشرق أو له علاقة به. هنا يلتقي كل شيء في الشرق يرنو إلى الغرب وكل شيء في الغرب يرنو إلى الشرق”. وقد اختار لهذه المجلة شعاراً استمده من إحدى آيات القرآن الكريم: “قل لله المشرق والمغرب” (البقرة 142). وفي عمله هذا كان فون هامر – بورغشتال مدفوعاً بفكرة رومانسية عن الأدب؛ مفادها أن الأدب مرآة لما أسماه رواد الحركة الرومانسية “روح الشعب”. لذلك كتب في ختام كتابه “تاريخ الإمبراطورية العثمانية” بأن “أدب شعب من الشعوب هو أصدق مرآة لروحه ووجدانه وعبقريته وشخصيته وثقافته وأخلاقه ودينه…”. ومن هذا المنطلق بالذات اهتم الأدباء الرومانسيون بآداب الشعوب المختلفة وشعوب الشرق على وجه الخصوص. ومن أجمل ما ترجم فون هامر – بورغشتال عدد من الأدعية المشهورة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومنها دعاؤه حين عاد من الطائف بعد أن دعا أهلها إلى الدخول في دين الله: “اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري. إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.”

لقد كان أمراً طبيعياً أن تحظى هذه الترجمات باهتمام الأدباء والمفكرين في ألمانيا، وبرز منهم عدد من عظماء الفكر العالمي نذكر منهم هردر وغوته كما برز عدد كبير من شعراء وأدباء الحركة الرومانسية في ألمانيا نكتفي بذكر اسمين منهم، هما فريدريش روكرت والكونت اوغست فون بلاتن. لكننا نظراً لضيق المساحة سوف نتطرق فيما يلي إلى الاسمين الأهم، أعني هردر وغوته.

البناء القوطي ينقصه نور العرب
حاول هردر في كثير من كتاباته الوصول إلى جوهر الحضارة الإسلامية وكذلك جوهر الشعر العربي. وقد كان من أهم هذه المحاولات تلك التي قام بها في كتابه “أفكار حول فلسفة تاريخ الإنسانية”. لقد أراد في هذا الكتاب أن يكشف الأسس التي يقوم عليها تاريخ البشرية. وفي محاولته هذه كانت تلازمه فكرتان أساسيتان: الأولى أن التاريخ الإنساني عبارة عن سلسلة متصلة بمعنى أنه وحدة متكاملة. والثانية أن تاريخ كل أمة هو تعبير خاص عن ضمير هذه الأمة وأن حضارتها تعبير عن عبقريتها الخاصة بها. على أن كل الحضارات هي عبارة عن سلسلة متصلة تشد جميع الشعوب بعضها إلى بعض. لذلك تنعطف سلسلة الحضارة من أمة لأخرى في صعود وهبوط أبديين: “كما أن مشيتنا عبارة عن سقوط مستمر من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، ومع ذلك نتقدم إلى الأمام مع كل خطوة نخطوها، هكذا يسير تقدم الحضارة أيضاً عبر أجيال البشر ومختلف الشعوب”. وعندما ينـتقل هردر إلى تحليل الشروط التي أدت إلى نشوء ما يسميه هو “الجمهورية الأوروبية”، أي وحدة الثقافة والفكر والحياة عند مختلف شعوب أوروبا، يرى أن الحضارة الإسلامية هي من أهم التيارات التي رفدت الحضارة الأوروبية في ذلك العصر، التي قامت عليها في ما بعد حضارة أوروبا الحديثة: “باختصار، لقد قام كل ما يمكن قيامه تحت قبة الطبقية والإقطاعية وحكم السادة”. ويقصد هنا التراث الروماني والممالك الجرمانية والمسيحية. إلا أن العصر الوسيط، “ذلك البناء القوطي كان لا يزال ينقصه شيء واحد: النور”. ولهذا “النور” يفرز هردر فصلاً خاصاً بعنوان “ممالك العرب”، إذ إن العرب بالنسبة لهردر مصدر نور وإشعاع في العصر الوسيط، وهم في الوقت نفسه باعثو الحضارة الأوروبية ومنقذوها.

تعمقت فكرة هردر عن العرب إثر دراسته للشعر الإسباني. لقد وجد في هذا الشعر صورة مشرقة عن فروسية العرب وطباعهم النبيلة مما حدا به إلى دراسة فن الشعر العربي دراسة مستفيضة. فقد اكتشف أن “أول شرارة بالنسبة للحضارة الأوروبية الحديثة قد انبثقت من إسبانيا”. وهذه الشرارة كانت من صنع العرب، كما يقول هردر نفسه: “إن قيام أول وعي حضاري على تخوم الممالك العربية في إسبانيا وصقلية لظاهرة جديرة بالاعتبار خلّفت في مجملها آثاراً حاسمة”. ويصف هردر الروح الوطنية العربية فيذكر من أهم سماتها: حب الحرية، والشجاعة، والحساسية المتناهية لكل ما يتصل بمفهوم الشرف، وتنـزيه الدين والبعد عن الماديات وأخيراً حب المغامرة. هذه الروح كانت في نظر هردر متفوقة بدرجة كبيرة على أوروبا في العصور الوسطى. لذلك تركت وراءها في الحياة الأوروبية آثاراً عميقة. فالفروسية الأوروبية في العصور الوسطى ليست في جوهرها إلا نتيجة للتأثر بالعرب. أما منجزات العرب في مجال العلوم المختلفة فهي ذات أهمية كبرى بالنسبة لأوروبا: “لقد أصبح العرب أساتذة أوروبا بفضل تطويرهم لعلوم الرياضيات والكيمياء والطب”. لكن فضل العرب الأكبر والأهم يتجلى في حقل الشعر والأدب. فمنذ الجاهلية قطع العرب شوطاً بعيداً في فن الشعر، “لأن روح الأمة شاعرية وآلاف الأشياء كانت توقظ فيهم هذه الروح”. إن عنايتهم الكبيرة بلغتهم، كما يقول هردر، كانت من جملة العوامل التي ساعدت على تطوير الشعر العربي. كما أن هذه “اللغة الشاعرية الغنية” كانت من أهم المقومات التي مكنت العرب من القيام بذلك الدور الفريد في التاريخ الإنساني. وكذلك فإن الدين الإسلامي، الذي هو محور الحضارة الإسلامية وقوتها الدافعة “قد انتشر بواسطة لغة هي من أنقى لهجات شبه الجزيرة العربية وهي فخر الأمة بكاملها ومبعث سعادتها”.

شعر العرب يحرر لغات أوروبا من اللاتينية
من هذا المنطلق كان اهتمام هردر عظيماً بهذا الجانب من الحضارة العربية، خاصة أنه كان يرى في الشعر تعبيراً أصيلاً عن جوهر الإنسان وجوهر الشعوب، لا بل وجوهر الحقب التاريخية. وهكذا فقد قاده اهتمامه بالأدب العربي إلى دراسة الشعر البروفنسالي (نسبة إلى منطقة بروفانس الفرنسية) الذي ظهر في القرون الوسطى في جنوب فرنسا. لقد وجد هردر في هذا الشعر صورة رائعة عن التأثر بالفكر العربي: “إن أغاني (غايا سيينسيا) في الشعر البروفنسالي قد أخذها هؤلاء من جيرانهم العرب. وبفضلها بدأت أوروبا تتذوق فن الشعر الأصيل تدريجاً إنما ببطء شديد وبصورة أولية”. لذلك يرى أن الشعر البروفنسالي كان بمثابة المصب الذي تجمعت فيه مختلف التأثيرات العربية لتتوزع فيما بعد على روافد أساسية انصبت في مختلف الآداب القومية في أوروبا.

لقد اكتشف هردر من خلال دراسته للشعر البروفنسالي أن الوظيفة الأساسية لهذا الشعر تكمن في الترفيه وليس في الوعظ، وهذه الوظيفة تعلمها الشعراء البروفنساليون من الشعر العربي. فالشعر كما يقول هردر لم يكن يشكل عند العرب زاوية حضارية منفصلة وإنما كان بمثابة بريق تتألق به حياتهم بأكملها. لقد كان الشعر بالنسبة لهم تسلية يومية تغمر كيانهم بالسعادة. ومن خلال التأثر بالشعر العربي استطاع الشعر في أوروبا أن يصبح جزءاً أساسياً من حياة الفروسية. وهذا الشعر هو الذي شذّب اللغة والعادات. وبفضل تأثير “الغايا سيينسيا” في الآداب الأوروبية فقد تعلمت هذه الأخيرة كيف تكون أداة تسلية وترفيه وتتحرر بذلك من مهمة الوعظ التي أصبحت من اختصاص اللغة اللاتينية فقط. وهكذا وبفضل الشعر العربي تمكنت شعوب أوروبا من أن تتحرر من “استبداد اللغة اللاتينية” وتُطور بالتالي لغاتها القومية، وهذه هي النقطة الحاسمة: “إذا كان لشعوب أوروبا أن تتعلم كيف تفكر فقد كان عليها أن تطور لغاتها المحلية. لقد كان عليها أن تستمع بلغاتها المحلية إلى أشياء طريفة ذات مغزى لتشحذ بها فكرها”.

من خلال مقارنة الشعر البروفنسالي بالشعر العربي يستنتج هردر أن جميع أشكال الشعر البروفنسالي تتحدَّر بشكل مباشر أو غير مباشر من الشعر العربي. وهذه الأشكال هي التي انتقلت في ما بعد إلى آداب مجموعة اللغات اللاتينية. “وحتى الأوزان الشعرية صاغها البروفنساليون طبقا للأوزان الشعرية العربية التي تعتمد على السكون والحركة وتلعب فيها القافية دوراً أساسياً”. وهنا لا بد أن ننوه إلى أنه منذ أوائل القرن الثامن عشر كان هناك بين المفكرين خلاف حول منشأ القافية وأصلها. وقد انحاز هردر في هذا الخلاف إلى الطرف الذي كان يحبّذ النظرية العربية في أصل القافية: “إنني لا أعتقد بأن منشأ السونت والمدريغال عند البروفنساليين يحتاج إلى توضيح أكثر مما تقدمه النظرية العربية”. ثم ينهي تأملاته حول منشأ الشعر البروفنسالي بهذا التساؤل: “كم نحن مدينون بالفضل للبروفنساليين وموقظيهم العرب..!”

أخيراً يرى هردر أن للعرب فضلاً آخر على أوروبا في مجال الأدب مشيراً إلى قيامهم بجمع الحكايات القديمة وتقديمها في قالب شائق مثل حكايات “ألف ليلة وليلة” وغيرها: “لقد ولد تحت سماء الشرق أجمل نوع من أنواع الأدب: الحكاية. وللعرب أكبر الفضل في جمع هذه الحكايات. وهذا الشكل من أشكال الأدب أصبح بالنسبة لأوروبا نموذجاً جديداً تستتر به الحقيقة في رداء أسطوري من الأحداث الخارقة، حيث يروي لنا أفضل العبر بطريقة اختصار الوقت”.

غوته و”الديوان الغربي الشرقي”
يرى كثير من مؤرخي الأدب الألماني أن شاعر ألمانيا الأول يوهان وولفغانغ فون غوته قد تحول اعتباراً من عام 1805م من مرحلة الأدب الإتباعي (الكلاسيكي) إلى مرحلة الأدب الإبداعي (الرومانتيكي). ويعود هذا التحول في كثير من جوانبه إلى لقائه مع الأدب العربي والأدب الفارسي ممثلاً ببعض شعراء الجاهلية من أمثال تأبط شراً، وببعض شعراء العصر العباسي أمثال المتنبي وأخيراً لقاؤه مع شاعر إيران الكبير محمد شمس الدين حافظ الشيرازي. وقد أسفر هذا اللقاء عن واحد من أعظم الأعمال الأدبية في الأدب العالمي، ألا وهو “الديوان الغربي الشرقي” كما أسماه غوته.

يتألف هذا العمل الأدبي من جزءين: الجزء الأول وهو القسم الشعري من الديوان، والجزء الثاني وهو القسم النثري الذي اشتمل على آراء غوته في الأدب العربي وملاحظاته حوله. وما يهمنا في هذا البحث القصير هو الجزء الثاني من الديوان الذي وضع في مطلعه قصيدة تأبط شراً التي يقسم فيها الشاعر على الأخذ بثأر خاله المغدور:
إن في الشعب الذي دون سلع
لقتيل دمه ما يطلّ
خلّف العبء عليّ وولّى
أنا بالعبء له مستقلّ

وكان غوته قد قرأ هذه القصيدة في ترجمة ألمانية لها، فأعجب بالمعاني التي تضمنتها القصيدة. لذلك قرر أن يعيد نظمها شعراً باللغة الألمانية، ونجح في ذلك نجاحاً كبيراً. وقد أسمى غوته الجزء الثاني من الديوان “ملاحظات ودراسات في سبيل فهم أفضل للديوان”. لقد سخّر غوته هذا الجزء للبحث عن “جوهر” الأدب العربي والظروف التي قام في ظلها. ورأى أن الأدب العربي قام على عناصر ثلاثة هي: الطبيعة الصحراوية، النظام السياسي والاجتماعي وأخيراً الثقافة الإسلامية الواحدة.

ويعتقد غوته أن الشرق هو “أرض الشعر” الحقيقية. لذلك افتتح “ملاحظاته” بهذا الشعار:
“من أراد أن يفهم الشعر
فليذهب إلى أرض الشعر”…

إن الشاعر بنظر غوته بحاجة إلى الجمال، سواء في ما يحيط به من أناس أو في ما يجده حوله من العالم الذي يعيش فيه. وهذا الجمال يتوفر في الشرق بقدر كبير: “إن خصب وغنى الشعراء العرب ينبع من الاتساع اللامتناهي للعالم المحيط بهم ومن غناه اللا محدود”. وما يجول هنا في ذهن غوته هو عالم البدو في الصحراء وحياتهم بما فيها من بساطة وحرية. لذلك نراه يقارن والحسرة تملأ قلبه بين هذا العالم وبين أوروبا، حيث يعيش الأوروبي “في عالم منمق معقد متشابك”. وبينما يستطيع الشاعر العربي أن يستمد مواضيعه وتراكيبه اللغوية من واقع الحياة مباشرة فإن زميله في الغرب مضطر دائماً إلى أن يرجع إلى الكتب والمعاجم. ومعلوم أن شعراء العصر الأموي وبعض شعراء العصر العباسي كانوا يذهبون إلى الصحراء لفترات طويلة في سبيل تهذيب الموهبة وجلاء الذهن. ويرى غوته أن هذا العالم الجميل والغني الذي يحيط بالشاعر العربي يتصف بميزة فريدة هي “استمراريته” حيث يتحدث عن “الشرق اللا متحول”. لذلك يقارن بين قصائد من حقب تاريخية مختلفة مؤكداً أنها تحمل السمات ذاتها على الرغم من التباعد الزمني فيما بينها. وأكد كذلك هذه الفكرة بطريقته الشعرية الخاصة عندما وضع في نهاية فصل “معذرة” من أواخر الجزء الثاني من الديوان الأبيات نفسها التي بدأ بها ذلك الجزء، لكن مع شيء من التغيير:
“من أراد أن يفهم الشاعر
فليذهب إلى أرض الشعراء
سيسره في الشرق
أن القديم هو الجديد”.

يتصف الأدب العربي في نظر غوته بأنه ليس أدب “المشاهدات والانطباعات الشخصية”، وإنما تعامل ذكي مع كتلة ثابتة من الأشكال والصور الشعرية الموروثة تختفي وراءها شخصية الشاعر: “ليس من الضروري أن يعيش الشاعر ويحس بكل ما يقوله، خاصة إذا صادف وجوده في ظروف معقدة…” ويبرهن غوته على ذلك بأن هذا النوع من الأدب كان موجوداً حتى ما قبل الإسلام، حيث كان الشاعر العربي يبدأ قصيدته بأبيات من الغزل (النسيب) لا علاقة لها بالموضوع الأصلي للقصيدة. ثم إن هذا الغزل لم يكن ينصبّ على حبيب موجود بالفعل، بل على حبيب من نسج خيال الشاعر.

يعتقد غوته أن الأدب العربي قد وصل في العصر الوسيط إلى قمة لم يصلها قبله سوى الأدب الإغريقي والروماني، وذلك لأنه قد توفرت في ذلك العصر ظروف مثالية لتفتح عبقرية الشعراء. ومن ميزات هذا الأدب أنه كان يعالج “أشياء مرئية ومحسوسة” وهذا ما يشكل في رأيه “الطابع الخاص” للأدب العربي. لذلك أكد في أكثر من موقع أن الأدباء العرب كانوا يتمتعون آنذاك بموهبة خاصة في استيعاب أشياء العالم الخارجي: “إن ما يستحق أبلغ التقدير أنهم كانوا في ذلك العالم الواسع اللا محدود يوجهون انتباههم إلى ما هو جزئي ويتمتعون بنظرة ثاقبة وحنونة تستخرج من الأشياء خصائصها”. ويقول في موضع آخر: “تتجلى السمة الرئيسة للأدب العربي في النظرة المحيطة بكل أشياء العالم…” وإذا كان يبدو في هذا الكلام شيء من التناقض فإن ما قصد إليه غوته هو اهتمام الأدب العربي بالأشياء المحسوسة من العالم، سواء في كليتها أو في جزئيتها.ثم لا ننسى أن غوته لم يكن ينظر إلى الأدب العربي بعين الناقد وإنما بعين الشاعر الذي يقارن بين أدبه الأوروبي والأدب العربي الذي يختلف في مفهومه عن مفهوم الأدب لديه.

إبداع الصور
تتجلى السمة الثانية للأدب العربي في طريقته في إبداع الصور. فعلى النقيض من الأدب الأوروبي، يعمد الأدب العربي إلى ربط الأضداد في ما بينها. لقد كان الأديب العربي “ينظر إلى العالم من حوله بكثير من الحيوية والجرأة فيبدع أغرب العلاقات ويربط أشياء غير متفقة في الأصل فيما بينها، وكل ذلك بأسلوب يترك خيطاً أخلاقياً رفيعاً يلتفّ معها، مما يجعلها جميعاً تلتقي في وحدة معينة”. على أن المعيار الأساس في الأدب العربي هو الشكل. هكذا يفهم غوته هذا الأدب ويرجع ذلك إلى “أن اللغة بحد ذاتها تلعب الدور الأول في هذا الأدب”. وقد شرح غوته هذه الحقيقة من خلال اللغة العربية. فكما أن عالم البدو مرتبط بالطبيعة فهكذا أيضا لغتهم العربية. وفي رأيه يمكن إرجاع كل شيء في هذه اللغة “إلى الإبل والخيل والغنم”. ثم يقول: “فإذا تابعنا على هذا الطريق وتفحصنا بقية المحسوسات من جبل وصحراء، من صخر وسهل، من أشجار وأعشاب وأزهار ومن نهر وبحر بالإضافة إلى قبة السماء المطرزة بالكثير من النجوم، لوجدنا أنه لا يتردد في استخلاص المتناقضات من بعضها بعضاً عند أدنى تغيير في الحروف ومقاطع الكلمات. هنا نرى أن اللغة بحد ذاتها معطاءة لأنها تستجيب للفكرة، وتستجيب للخيال وهي لذلك شاعرية”. كذلك فإن الشاعر العربي يبدع عن وعي ولا يدع مشاعره تنأى به بعيداً: “المرح والوعي هما الموهبتان الجميلتان اللتان يشكر خالقه عليهما”. وهذا سبب آخر من أسباب العناية الفائقة والتقيد الشديد بالشكل في الشعر. ويرى غوته أن القافية من المقومات الأساسية لهذا الشكل، وإن التقيد الشديد بالقافية يسمح للشاعر أن يربط أكثر الأشياء تباعداً بعضها ببعض لأن القافية التي تتكرر باستمرار تساعد على عقد هذه الرابطة.

وجه غوته اهتماماً خاصاً إلى شـعر المديح عند العرب نظرا لأن معظم الشـعراء العرب كانوا على علاقـة ببلاط الحاكم. ويرى غوته أن الشاعر ولو أنه مضطر لأن يخضع للحاكم، فإنه يحصل بفضل ذلك على مزايا كبيرة يرفد بها فنه: “ماذا سيحل بالشاعر لو لم يجد حوله رجالاً فيهم السمو والقوة والذكاء والفاعلية والمهارة التي تجعله يدرك معنى العظمة؟ هل ينبغي لنا أن نؤاخذ الجواهري الذي ينفق حياته في تحويل جواهر الهند والسند إلى حلية تزين أناساً رائعين؟ هل نطلب منه أن يعمل في رصف الشوارع مع اعترافنا بأهمية مثل هذا العمل؟” ويرى غوته أن شعر المديح مرتبط بواحدة من أجمل الصفات الإنسانية، ألا وهي الحاجة إلى الحب الذي يقوم على أساس من الاحترام: “إذا كان مما يتفق مع الطبيعة الإنسانية وكان إشارة إلى نسبها الرفيع أنها تستجيب بحماس للأعمال البشرية السامية ولكل كمال إنساني وأنها تجدد حياتها الداخلية من خلال تأمل تلك الأعمال وهذا الكمال فإن مديح السلطة والقوة كما تتجلى عادة في الأمراء يشكل ظاهرة رائعة في عالم الشعر…”

واضح مما تقدم أن غوته قد عالج الأدب العربي بكثير من التحرر والانطلاق دون أن يخضعه لمقاييس أوروبية: “هذه الأمثلة القليلة… توضح لنا أنه ليس بإمكاننا رسم الحدود بين ما هو حميد وما هو ذميم من وجهة نظرنا…” ولا بدّ لنا أن نعترف لهذا المفكر العظيم أنه قد علّم أوروبا كيف تحترم العرب وتضع أدبهم في مستوى واحد مع أدب الإغريق والرومان، ولكن من دون أن تقارنه بأدب الأوديسه والإلياذة، لأن الأدبين مختلفان من حيث الأساس: “نحن نعرف كيف نقدر هذا النوع من الأدب ونحن نعترف للعرب بأعظم المزايا، لكن لنقارن أدبهم بنفسه ولنحترمهم داخل دائرتهم الخاصة وعلينا أن ننسى أثناء ذلك أنه قد وجد إغريق ورومان”.

—————————————————————

الشعر مادة جغرافية
حين اعتبر العربُ الشعر ديوانهم؛ فذلك لأنهم كانوا على وعي بما يحمله الشعر من مضامين قامت مقام الوثائق التاريخية والثقافية والفلكلورية على حد سواء. وهو ما جعل الشعر، في عصور التدوين اللاحقة، مرجعاً موثوقاً للمؤرخين والجغرافيين، ناهيك عن الباحثين في العلوم اللغوية والدينية الذين وجدوا في شواهد الشعر ما يُدعم بحوثهم ويثري دراساتهم.

والجغرافيون العرب من أهم الباحثين الذين كان الشعر أحد مراجعهم المهمة. والشعر العربي القديم، خاصة الجاهلي منه، إنما هو مجموعة من الوثائق المتناثرة التي خدمت علم الجغرافيا، وعلى وجه الخصوص علم “جغرافية المواضع”. وهو علمٌ يتصل بفرع “جغرافية الأسماء” الذي يعتني بأسماء الأماكن، وتطوّرها وتشابهها.

الشيخ سعد بن جنيدل باحث سعودي أمضى سنواتٍ طوالاً باحثاً عن “المواضع” في شعر المعلقات. وثمرة جهوده المطوّلة كانت كتاباً صدر عام 1411هـ، هو “معجم الأماكن الواردة في المعلقات العشر” الذي نشرته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. هذا الكتاب تبناه، أيضاً، مركز حمد الجاسر الثقافي في طبعة جديدة صدرت في 627 صفحة، خُصصت منه 108 صفحات للفهارس.

الكتاب يتبنى بحث “جميع مواضع المعلقات العشر”، وعبر منهج “ألفبائي” يستعرض المؤلف المواضع موضعاً موضعاً. ويتوقف عند كل واحد منها انطلاقاً من الشاهد الشعري، ثم يمرره على ما ورد في أبحاث الجغرافيين العرب، سابقين ومعاصرين، ويدلي برأيه مستعيناً بثقافة شعرية واضحة، وقدرة على التقصي في المتشابه من الأسماء، ولا يترك الموضع حتى يحدد موقعه في الوقت الحالي.

أغلبنا مرّ بمعلقة امريء القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وفي هذا البيت ثلاثة مواضع ذكرها الشاعر الجاهلي. وبعد تقصٍّ دقيق يتوصل المؤلف إلى أن هذه الأماكن تقع على مسافة مئتي كيلومتر شرق مدينة عفيف، أي في قلب المملكة.

وقياساً بذلك؛ تتحول أسماء الأماكن التي وردت في المعلقات الجاهلية إلى بحوث جغرافية متينة تتخللها قصص أحداث تاريخية وطرائف أدبية، ساهمت في تحويل الكتاب إلى نزهة ثقافية تعود بالقارئ إلى العصور العربية الأولى، وتنتقل به عبر مراحل التاريخ.

وبقدر ما ينم الكتاب عن جهود بحثية جديرة بالموثوقية اعتماداً على منهج “التحقيق” التاريخي الذي يتناول الاختلافات بجدية؛ فإنه لا يولي الواقع الحالي مزيداً من الاهتمام. إذ يكتفي المؤلف بتحديد الموضع الذي ورد في الشواهد الشعرية ويحدد مكانه الحالي، ومن ثم يصرف النظر عنه. وبهذا يختلف الشيخ سعد بن جنيدل عن منهج الشيخ حمد الجاسر الذي كان يتوقف عند المواضع التاريخية وقفات حديثة، ويعطيها حقها المعاصر.

ومن جهة أخرى يبدو المؤلف ميالاً إلى ترجيح بعض النتائج اعتماداً على الصيغة اللغوية، متجاهلاً بنية النص الشعري. وهنا تكمن بعض الإشكاليات التي لا تقلل، عموماً، من متانة المنهج ودقة البحث والتقصي العلميين.

أضف تعليق

التعليقات