قول آخر

معتصمون في أبراج من ورق:
ما هو الإبداع..؟!

يتداخل مفهوم الإبداع مع مفاهيم كانت وما زالت سائدة في الأوساط العلمية والثقافية، كالعبقرية والابتكار والموهبة. وهناك من الباحثين من يميز بين هذه المفاهيم، ومنهم من لا يضع حدوداً واضحة لكل منها، باعتبار أن جميع هذه المفاهيم تمثل أنماطاً تفوق النمط العادي في الشخصية.

يعود تاريخ دراسة الإبداع كظاهرة مميِّزة إلى الفلاسفة الإغريق وعلى رأسهم أرسطو. غير أن دراساتهم كانت استقرائية ووفق طبيعة المنهج الفلسفي السائد آنذاك. فالعملية الإبداعية تشبه إلى حد كبير عملية نمو الجنين من تكوين بدائي بسيط إلى تكوين متكامل حتى الولادة. وهكذا، فإن معظم الأعمال الفنية والأدبية والعلمية التي يتيسر لنا الاطلاع عليها عبر تاريخ النهوض الحضاري للمجتمعات، تبدو وكأن فكرتها الأساسية كانت في غاية البساطة. التقطها الإنسان واحتضنها في رحم خبراته وثقافته لتختمر وصولاً إلى حالة الإلهام أو التنوير، فتتحول خلالها الفكرة البسيطة إلى فكرة جديدة وأصلية تتخذ شكلاً جديداً بعد التحقق منها وتطبيقها.

إن الإبداع الأدبي على سبيل المثال يعني، من ضمن ما يعنيه، تحفيز الذات وتحريرها من الأوهام، سعياً إلى بلورة أمر جديد من عمل يحوي من الأفكار والمضامين ما يكفي لإقناع القارئ بالمقدرة الإبداعية للكاتب.

وعلى المبدعين أن يرسموا أفكارهم بلغة تفهمها شريحة أوسع من المجتمع الذي ينتمون إليه، وأن يغرقوا في هموم الآخرين، ويصنعوا تجاوباً ما بينهم وبين المتلقي. إذ إن أخطر ما في الأمر أن يظل المبدع أسير واقع قائم، لا يسمح لنفسه بالانفلات من اللحظة التي كان مشدوداً إليها في الماضي.

والإبداع الأدبي نسيج عبقرية فذة قادرة على أن تمنح “النص” روح البقاء والانتشار، وتغذيه بمصل الديمومة، وتسبغ عليه صفة الأصالة. والعمل الإبداعي هو في الحقيقة لغة ذات رموز ودلالات حضارية تصب في بوتقة التطور الإنساني، وليست قوالب رخامية. إذ يبقى هذا الأثر خالداً خلود مضمونه على مر العصور، كما أن من شأنه أن يكون عامل تغيير، حاسماً ومؤثراً.

إذن، على المبدع أن يتطلع إلى أبعد مما هو قائم، وأن ينحت في شجر المدن الجديدة المتطلعة إلى آفاق رحبة، وألا يتشرنق حول نفسه.

في كتاب “ما هو الأدب؟” يشن المفكر الفرنسي جان بول ساتر هجوماً عنيفاً على الذين يكتبون وهم معتصمون في أبراج من ورق، ويصب غضبه على الروائي الفرنسي بلزاك لأنه عاش ثورة عام 1848م من دون أن يأتي على ذكرها في أحد كتبه. وهذا من الشواهد على أن المبدع يجب أن يكون لسان عصره. ومجتمعه في كل الأوقات والأزمنة. وأن يمتلك حساً صادقاً، ويضع نصب عينيه المهمات الملقاة على عاتقه ليُسهم في عملية التغيير والتطوير الحضاري.

إضافة إلى ذلك لا بد من الإشارة إلى أن قراءة العمل الإبداعي عند المتلقي تأخذ شكلين. فهي عند القارئ العادي لطلب المتعة وسد الفراغ. وحين ينتهي هذا من قراءته لا يشعر بأن الأمر كان ذا فائدة كبيرة. أما القارئ المثقف فيبحث في العمل الإبداعي عن أجوبة لم يجدها من قبل، وعن حكمة قد لا يجدها في غيره، فيعكف على قراءته، ليس بعينيه فحسب، بل بحواسه جميعها. ويحفظ ما يأتي به هذا الأثر الإبداعي، تغذية لعقله، وتنمية لشخصيته، فتتفتح إنسانيته، ويزداد وعيه لما يحيط به في هذا العالم.

هذا هو أثر الإبداع، وهذه هي ميزته. إنه يؤثر في القارئ ويهذب عقله، ويجعل منه إنساناً أكثر تحضراً ووعياً وإدراكاً لمسؤولياته ودوره في الحياة والعالم.

أضف تعليق

التعليقات